شكّلت «اتفاقيات إبراهام» (2020) منعطفًا استراتيجيًا؛ إذ نقلت التطبيع من تسويات ثنائية إلى أداة جيوسياسية متعددة الأبعاد، وظفّت فيها إسرائيل الاقتصاد والأمن والدبلوماسية لمدّ نفوذها خارج المشرق نحو العمق الإفريقي.

في الحالة المغربية، استندت تل أبيب إلى الروابط الثقافية مع الجالية اليهودية، وإلى اتفاقات أمنية واقتصادية لتحويل المغرب إلى منصة انطلاق نحو المتوسط والساحل والصحراء.

لكن هذا المسار يواجه جدارًا صلبًا من الرفض في شمال إفريقيا، حيث تتمسك الجزائر وتونس بموقف مناهض للتطبيع، وتبقى ليبيا رهينة هشاشتها الداخلية رغم رفض شعبي واسع، فيما تَحول الذاكرة السياسية في موريتانيا دون عودة سهلة للعلاقات مع تل أبيب.

 يبحث هذا التقرير في تباين هذه المواقف، وسعي إسرائيل لتكون حالة المغرب مقدمة لقاعدة نفوذ راسخة في إفريقيا.

بوابة شمال إفريقيا

الحضور الإسرائيلي في المغرب، الموثَّق عبر اتفاقيات إبراهام (2020)، ليس حالة معزولةـ أو اتفاق ثنائي، بل جزءا من استراتيجية أوسع لمد النفوذ نحو العمق الإفريقي عبر شمال إفريقي، ويتصل بمحاولات إسرائيل تعزيز حضورها من خلال الساحل والصحراء.

هذه المحاولات لم تمر دون مقاومة، فالجزائر لا تزال تعتبر التطبيع خيانة للقضية الفلسطينية، وتعمل مع تونس وموريتانيا على بناء محور مضاد. في شمال إفريقيا، أما في ليبيا فتظل العلاقات السرية مع إسرائيل تثير عواصف سياسية رغم الانقسام الداخلي.

هذه التباينات لا تُختزل في تباين السياسات الخارجية، بل تعكس صراعًا أعمق حول هوية المنطقة واتجاه بوصلتها: بين برجماتية الصفقات الاستراتيجية، والتشبث بقيم الالتزام التاريخي تجاه فلسطين والقضايا العربية وأمن المنطقة.

بينما تعمل إسرائيل على استغلال الانقسامات المغاربية لصالحها، ساعية إلى تفكيك جبهة الرفض، وتوسيع دائرة الحلفاء.

المغرب.. تطبيع محفوف بالمخاطر

لم يكن التطبيع مع إسرائيل حدثا مفاجئا منقطع الصلة بالماضي، بل هو تتويج لمسار طويل من الروابط المعقدة، نسجت خيوطها عبر التاريخ، فالمغرب هو موطن لإحدى أكبر الجاليات اليهودية في العالم العربي، التي بلغت في منتصف القرن العشرين نحو ربع مليون نسمة، ومع موجات الهجرة إلى إسرائيل بعد تأسيسها، حمل عشرات الآلاف من اليهود المغاربة معهم روابط عائلية وثقافية، لم تنقطع مع بلدهم الأم، وبقوا جسورا مفتوحة بين الرباط وتل أبيب.

هذا البعد التاريخي منح إسرائيل ثقة؛ لأن المغرب قد يكون بوابة تطبيع ناعمة عبر استدعاء البعد الثقافي لليهود المغاربة، مما يهيئ الأرض لاتفاق سياسي بين البلدين.

جاءت هذه اللحظة في ديسمبر 2020، عندما وقع المغرب على اتفاقيات إبراهام في صفقة براجماتية واضحة: اعتراف أمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل التطبيع. بهذا ربطت الرباط بين مطلبها الملح، وهو تثبيت السيادة على منطقة متنازع عليها وبين تحالف أمنى وسياسي جديد.

مع الاتفاق، انطلقت شبكة تعاون واسعة: صفقات تسليح متقدمة، إدخال تقنيات إسرائيلية في الأمن السيبراني، استقبال آلاف الإسرائيليين، خاصة من أصول مغربية عبر رحلات جوية مباشرة، مما جعل البعد الاقتصادي والسياحي امتدادا طبيعيا للصفقة السياسية.

التطبيع لم يقدم فقط كخيار استراتيجي للدولة، بل اكتسب غطاء ثقافيا وإنسانيا. جرى ترميم معابد ومقابر يهودية، إدراج التراث الأثري اليهودي ضمن الهوية الوطنية الرسمية، فيما صُورت زيارات الإسرائيليين من أصل مغربي، على أنها عودة الأبناء لأرض الأجداد. 

وبذلك جرى توظيف اليهود المغاربة كجسر يمنح التطبيع غطاءً تاريخيًا و”حضاريًا”، بدلًا من أن يبدو محصورًا في صفقة سياسية مرتبطة بالتنازع على منطقة الصحراء.

رفض للتطبيع

ومع هذا لم ينجح هذا الغطاء في إخفاء الانقسام الداخلي في المجتمع المغربي وبحدة: تيارات إسلامية ويسارية رأت في التطبيع خيانة، وبيعا للقضية الفلسطينية، وحركات المجتمع المدني نظمت مظاهرات حاشدة مع كل عدوان إسرائيلي على غزة، والذي شكل ذروة رفض التطبيع.. وارتفعت الأصوات المطالبة بقطع العلاقات بشكل كامل.

 استطلاعات الرأي أكدت الانقسام العميق، إذ بينت أن نسبة غالبة من المغاربة لا تقبل بالتطبيع، رغم مضى الدولة فيه بخطى كبيرة.

بالنسبة لإسرائيل، المغرب ليس مجرد شريك جديد، بل نموذجا مختلفا: بلد عربي إسلامي له جالية يهودية تاريخية، يمكن تقديمة كحالة تطبيع مقبول شعبيا، وفي الوقت نفسه، هو بوابة استراتيجية نحو العمق الإفريقي والساحل.

 إلا أنه رهان محفوف بالمخاطر، لأن المجتمع المغربي لم يمنح شيكا على بياض لهذا التحالف، والملف الفلسطيني لا يزال برميل بارود جاهز للانفجار في أي لحظة، مُهددا بتحويل إنجازات التطبيع إلى عبء سياسي على الأنظمة المطبعة.

هل يخدم مغاربة في جيش الدفاع الإسرائيلي؟

تنتشر شائعات عن “عناصر مغربية” تقاتل في صفوف الجيش الإسرائيلي، لكن لا دلائل موثوقة، ما هو مثبت أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تضم عددًا من الضباط والجنود من أصول مغربية بحكم موجات الهجرة القديمة، وقد عُيّن في 2023 أول ملحق عسكري لإسرائيل في الرباط من أصول مغربية.

يبقى حتى الآن وجود عناصر مغربية في جيش الاحتلال مجرد شائعات، الموثق هو إسرائيليون من أصل مغربي، وبرنامج تطوع يتيح نظريا مشاركة يهود مغاربة، دون توثيق معلن لحالات بعينها.

الجزائر: عقيدة الرفض

إذا كان المغرب قد اختار طريق التطبيع كخيار برجماتي، فإن الجزائر على الضفة الأخرى مثّلت النقيض الصارم. فمنذ الاستقلال، وضعت الجزائر القضية الفلسطينية في قلب هويتها الوطنية والدبلوماسية، ورأت في إسرائيل تجسيدًا للاستعمار الذي قاومته بنفسها. لهذا ظلّ خطابها عقائديًا صلبًا: لا تطبيع، لا اعتراف، ولا أي صلة مع تل أبيب.

بعد حرب غزة 2023، عزّزت الجزائر هذا الموقف بخطوات ملموسة: علّقت تنظيم أحداث رياضية، وأصدرت بيانات رسمية، وصفت إسرائيل، بأنها “دولة احتلال استيطاني”، مؤكدة أن دعم الفلسطينيين جزء من رسالتها التاريخية. كان ذلك انعكاسًا ليس فقط لسياسة خارجية، بل لهوية دولة ترى نفسها حاملة لواء التحرر في العالم العربي.

لكن المفاجأة جاءت في فبراير 2025، حين صرّح الرئيس عبد المجيد تبون، بأن الجزائر “مستعدة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في اليوم الذي تقوم فيه دولة فلسطينية كاملة السيادة”. هذا التصريح فتح نافذة صغيرة للمرونة، وأثار في الداخل جدلًا صاخبًا. فالمعارضة اعتبرته انحرافًا عن ثوابت الثورة، فيما رأى آخرون، أنه مناورة سياسية أكثر منه نية حقيقية.

على الصعيد الإقليمي، لا تقتصر دوافع الجزائر على فلسطين وحدها، بل تمتد إلى التنافس الاستراتيجي مع المغرب. فكل خطوة يخطوها المغرب نحو إسرائيل، أو نحو إثيوبيا في العمق الإفريقي، تُقرأ في الجزائر، على أنها محاولة لتطويقها جيوسياسيا. من هنا، تحاول الجزائر توظيف ورقة فلسطين كدرع أخلاقي وسياسي في مواجهة هذا التمدد، وتطرح نفسها، على أنها “صوت الرفض” في المنطقة المغاربية، في مقابل “برجماتية التطبيع” المغربية.

الجزائر إذن لا تزال داخل وضع مزدوج: من جهة، عقيدة راسخة ترفض إسرائيل وتُوظفها لتعزيز شرعية النظام داخليًا وخارجيًا. ومن جهة أخرى، برجماتية محدودة تترك نافذة مفتوحة أمام الضغوط الدولية، شرط أن تُربط بمكسب فلسطيني صريح.

وبين الصلابة والمرونة، تبقى الجزائر عامل التوازن الذي يعطّل محاولات إسرائيل فرض حضور كبير في المغرب العربي.

تونس– ليبيا – موريتانيا: رفض وتسريبات وخصوصية

تونس قدّمت نفسها بعد 2023 بوصفها صوتًا عربيًا، لا يساوم: خطاب رئاسي يجرّم التطبيع معنويًا، وشارعٌ يضغط بلا هوادة، ومبادرات برلمانية لتحويل الرفض إلى نصٍّ جزائي صريح، يجرم أي علاقة مع إسرائيل .

بالنسبة للسلطة، فلسطين ليست بندًا خارجيًا، بل جزءًا من تعريف الشرعية. لذلك ظلّت أي نافذة رمادية تُغلق سريعًا، هذا الانسجام يمنح الموقف صلابة، لكنه يضع تونس تحت كلفةٍ دبلوماسية واقتصادية، في زمنٍ تميل فيه عواصم كبرى لربط الامتيازات بموقعك من شبكة التطبيع.

في ليبيا، ملف إسرائيل يمشي على حدّ السكين. الانقسام المؤسسي يخلق شهيّةً لدى أطرافٍ للتماس مع قوى خارجية؛ بحثًا عن دعمٍ وشرعية، فتظهر تسريبات عن لقاءاتٍ سرّية مع مسئولين إسرائيليين، ثمّ تنقلب عواصفُ الرأي العام لتطيح بأصحابها.

 المزاج الشعبي رافضٌ على نحوٍ كاسح، لذا تتصرّف القوى المتنافسة بخطابٍ علني متشدد وتدبيرٍ غير معلن حين تقتضي المساومات. هكذا يبقى “التطبيع” في ليبيا ورقةً محرّمة: أي لمسٍ ظاهرٍ لها يحرق الحامل له، وأي اقترابٍ خفيٍّ منها يظلّ مهدَّدًا بالانكشاف

موريتانيا تمثل حالة خاصة في المشهد المغاربي؛ فهي ليست جديدة على مسار التطبيع، إذ سبق أن أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عام 1999 في عهد ولد الطايع، وقدّمت نفسها آنذاك كجسر نحو غرب إفريقيا. لكن هذه التجربة سرعان ما اصطدمت بجدار الرفض الشعبي، لتتخذ نواكشوط في يناير 2009 قرارًا بقطع العلاقات تحت ضغط الشارع الغاضب من الحرب على غزة نهاية 2008.

هذه التجربة تركت أثرًا عميقًا، جعل موريتانيا أكثر حصانة تجاه العودة السهلة للتطبيع، خاصة مع الموقف الشعبي، والبنية الاجتماعية– السياسية الموريتانية، بامتدادها القبلي والديني والمدني، والتي تجعل فلسطين قضية مبدئية، ومع ذلك يتردد الحديث عن اتصالات خلفية بين الحين والآخر.  

تكمن أهمية موريتانيا في الحسابات الإسرائيلية: فهي تشكل خط تماس استراتيجي في غرب إفريقيا، حيث يتقاطع ملف الأمن في الساحل مع مسار التطبيع. ولا تغيب أدواتُ الضغط: وعود شراكات، تسهيلات تمويل، وأدوار إقليمية مُغرية في الساحل.

 المفارقة، أن موريتانيا كلّما ازداد وزنها الأمني في معادلات مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية، اشتدّت محاولات استدراجها… ومع ذلك يبقى “السقف الشعبي” حتى الآن هو حاجز الصدمات.

خيطٌ ناظم واحد… بثلاث لهجات

تونس تُحوِّل الرفض إلى قانون، ليبيا تُحوِّله إلى رادعٍ شعبي، يطيح بالمغامرين، وموريتانيا تُحوِّله إلى ذاكرةٍ جمعيّة، لا تسمح بتسوياتٍ نفعية.

ثلاث لهجات لرسالةٍ واحدة: التطبيع ليس قدَرًا مغاربيًا عامًا، وأن شبكة التحالفات التي تبنيها الرباط لا تجد صدىً تلقائيًا شرقًا وجنوبًا. بهذه الثلاثية يتوازن المشهد: تمدّدٌ مغربيٌّ محسوب، ورفضٌ جماهيري– مؤسسي، لكن يُبقي الباب مفتوحًا لاحتمالات الارتداد.

أسئلة المستقبل

انخرط المغرب في التطبيع كخيار استراتيجي، يربط ملف الصحراء الغربية بتحالفات أمنية واقتصادية، والجزائر تمسكت برفض عقائدي مع هامش مرونة مشروط بقيام دولة فلسطينية.

أما تونس فقد تبنت أصواتا فيها خطابًا تشريعيًا، يجرّم التطبيع، مع رفض شعبي واضح، ليبيا تعيش حالة ارتباكً بين اتصالات سرية ورفض شعبي جارف، موريتانيا محاصرة بالضغوط الخارجية، لكنها محمية بصلابة.

إسرائيل هي الرابح الصامت من هذا التباين؛ فهي تجد في المغرب منصة للتمدد الإفريقي، بينما تعيش الجزائر وتونس على خطاب الرفض، وتظل ليبيا وموريتانيا ساحتين رماديتين بين الضغط والرفض الشعبي.

ويبقى السؤال، هل سيتحول موطئ قدم إسرائيل في المغرب إلى قاعدة دائمة في شمال إفريقيا قابلة للتمدد، خاصة مع الاتفاق العسكري المغربي الإثيوبي، أم أن قوة الرفض الشعبي والعقائدي في الجزائر وتونس، وهشاشة الوضع في ليبيا وموريتانيا، ستجعل هذا التمدد هشًا ومعرضًا للارتداد عند أول أزمة كبرى.