من السطر الأول في هذا المقال، أسجل أنني أختلف مع الذين اعتبروا حديث بنيامين نتنياهو عن مشروع إسرائيل الكبرى مجرد مزايدة انتخابية مبكرة، كما أختلف مع الذين يرون، أن المشروع ذاته غير قابل للتحقق أصلا، لأسباب ديموجرافية وثقافية واستراتيجية وحضارية، حتى ولو كان نتنياهو وسائر زعماء ومفكري اليمين الإسرائيلي- القومي والديني- يصدقون أنفسهم، ويعملون بلا كلل من أجل إنجاز ذلك المشروع.
لماذا أختلف؟!
لأن تاريخ الحركة الصهيونية يعلمنا بالنار والدم، ألا نستهين بأية مقولات من هذا النوع، تعلن من جانبهم.
ألم تتحقق نبوءة هرتزل في ختام المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، وذلك حين قال: لقد وضعنا أساس الدولة اليهودية اليوم، لتظهر إلى الوجود بعد خمسين عاما؟!
كان الهاشميون- الذي قادوا المشرق والجزيرة العربية، بعد الحرب العالمية الأولى- يتصورون أن فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، لا تعدو أن تكون تجمعا (مِلِّيا )، تحت سيادة دولتهم العربية الكبرى الموعودة، يشبه التجمع الماروني في جبل لبنان.
وبعد هرتزل ألم يتحقق ما وعد به ديفيد بن جوريون نواب الكنيسيت عام ١٩٥٦؛ ليقنعهم بالموافقة على الانسحاب من سيناء المصرية رضوخا لضغوط الرئيس الأمريكي وقتها دوايت آيزنهاور؟ لقد وعد بن جوريون النواب، بأن ذلك لن يتكرر مرة ثانية، وهو ما تحقق من خلال تمكن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة- تدريجيا- من شل حركة البيت الأبيض المستقلة في الصراع العربي الإسرائيلي، حتي وصلنا حاليا إلى تبني الرئيس الأمريكي الحالي لكل مطالب وخطط وأطماع إسرائيل، بل وجرائمها.
وبعد كل من هرتزل وبن جوريون، ألم نكن في المنطقة، وفي العالم نسخر من حديث إسحق شامير سلف نتنياهو في زعامة الليكود عن الترانسفير أو الترحيل الجماعي للفلسطينيين كحل للمشكلة الفلسطينية؛ تمهيدا لإقامة إسرائيل الكبرى؟! وكنا نقول، وكان غيرنا أيضا، يقول إن هذه أضغاث أحلام رجل، يعيش في الماضي، حين لم يكن هناك قانون دولي، ولا إعلان عالمي لحقوق الإنسان، وحين لم يكن هناك تحريم وتجريم للتطهير العرقي والإبادة الجماعية.
كما كنا نعتبر دعوة الحاخام مائير كاهانا والحاخام عوفاديا يوسف إلى إبادة الفلسطينيين عن بكرة أبيهم صوتا شاذا في إسرائيل الديمقراطية!! فماذا كانت نتيجة تلك السخرية وذلك الوهم الديمقراطي؟
النتيجة؛ أن الترحيل أو الترانسفير أصبح سياسة رسمية معلنة، وخطة مطبقة تحت مسمى التهجير الطوعي أو أي مسمى آخر، وأن تلاميذ وخلفاء كاهانا وعوفاديا يوسف، هم الآن أعضاء في حكومة إسرائيل، وشركاء في القرار، وفي تقرير مصير الشعب الفلسطيني!!!
وأخيرا وليس آخرا من كان يصدق منذ عشر سنوات فقط أنه سيأتي يوم نري فيه مواطنين عربا مسلمين ومسيحيين يجهرون بصهيونيتهم، أي يعترفون بما يسمي الحق التاريخي لليهود في فلسطين، وينظمون أنفسهم في منتديات وجماعات لا تدافع فقط عن حق إسرائيل في الوجود، كأمر واقع، وعن الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها، رغبة في السلام وكراهة في الحروب، ولكن تدافع أيضا عن مجمل الـسياسات الإسرائيلية، بما فيها الترانسفير والإبادة الجماعية في قطاع غزة، وتدين المقاومة الفلسطينية من حيث المبدأ ؟!، و من كان يتصور في أسوأ الكوابيس أنه سيأتي يوم يعلن فيه دروز سوريا رغبتهم في الاندماج في فيدرالية إسرائيل الكبرى؟
وبالمناسبة أليس من سخريات التاريخ، أن الدروز يعرفون أنفسهم بصفتهم العرب الموحدين، وأن منطقة الدروز السوريين بالذات تسمى بجبل العرب؟!!
ليس هذا فقط، ولكن دروز سوريا يشاركون بحماس في مشروع ممر داود الذي يوفر لإسرائيل اتصالا بريا عبر جبل العرب وصحراء حوران بالأكراد في أعلى الفرات في سوريا العراق، ليقترب اليوم الذي يعلن فيه بعض الأكراد رغبتهم في الاندماج في الفيدرالية الإسرائيلية الكبرى، وليقترب اليوم الذي تمتلك فيه إسرائيل قاعدة برية كبيرة على حدود تركيا نفسها.
…………………………
كل هذه التطورات المواتية لمشروع إسرائيل الكبرى، تأتي على خلفية نجاح المشروع الصهيوني في هزيمة كل مشروعات مقاومته من داخل الإقليم، فقد هزمت المقاومة الفلسطينية والنظم العربية التقليدية في حرب ١٩٤٨، ثم هزمت النظم القومية بقيادة الضباط في عام ١٩٦٧ ولم تعدل حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ الميزان إلا قليلا، وقليلا جدا، بل إن هذه الحرب كانت المقدمة للاعتراف المصري، وإنهاء حالة الحرب وإقامة علاقات سلمية وطبيعية بين مصر وإسرائيل على يد الرئيس الراحل أنور السادات، أحد ضباط يوليو الذين استولوا على السلطة في مصر، لكي يثأروا من هزيمة ١٩٤٨!!، واستُكملت هزيمة هذه النظم بالغزو الأمريكي للعراق، وأخيرا هُزم المشروع الإسلامي للمقاومة، ممثلا في حزب الله اللبناني وإيران، أو بالأحرى أذرع إيران المحيطة بإسرائيل، وأخيرا ها هي حركة حماس الفلسطينية، تفقد دورها المقاوم في غزة.
(عند هذا الحد لا أظنني في حاجة للتعبير عن مشاعر الحزن والأسي- مثل كل مواطن عربي سوي، ومثل كل إنسان لديه ضمير في هذا العالم- لكل تلك الهزائم، كما لا أظن أني في حاجة لتأكيد، أن كل تلك الانتصارات المتوالية للمشروع الصهيوني ليست تعبيرا عن قوة خارقة للطبيعة، تفرض علينا الإذعان والتسليم بالعجز وقلة الحيلة، بقدر ما هي نتيجة لأخطائنا الجسيمة، ولتفاوت المستوى الحضاري بيننا وبين إسرائيل، بوصفها امتدادا للغرب الاستعماري في إقليمنا العربي).
…………………
لكل تلك الأدلة والقرائن، فإنني لا أستخف بحديث إسرائيل الكبرى، آخذًا في الاعتبار، أن المقصود في المرحلة الأولى هو ضم الضفة الغربية، وإقامة إسرائيل من النهر إلى البحر ، وهذا هو المشروع المصغر لإسرائيل الكبرى، وهنا لا أعول كثيرا على ما يقال حول رفض الرئيس الأمريكي مؤخرا لخطة ضم الضفة، فإذا كان هذا صحيحا، فإنه مؤقت لضمان تعاون الدول العربية والإسلامية في تنفيذ خطة ترامب لقطاع غزةً، والتي مقتضاها أن تكون حماس آخر المقاومات، إضافة لفرض الوصاية الأمريكية عل القطاع، وبعدها يكون لكل حادث حديث، أما في المرحلة الثانية، فإن المشروع يعني تلك الفيدرالية المقترحة، مع توسع إقليمي في كل من جنوب سوريا وجنوب لبنان، وصولا إلى مرحلة الهيمنة الإقليمية الشاملة تلك التي عبر عنها شيمون بيريز، أحد الآباء المؤسسين بقوله، إن مصر قادت العرب لمدة خمسين عاما (بائسة)، فليجرب العرب قيادة إسرائيل البديلة، أو تلك التي عبر عنها الدكتور مصطفى الفقي مستشار الرئيس المصري السابق حسني مبارك، بقوله إن أي رئيس مصري لا بد أن يحظى بموافقة أمريكا وإسرائيل، فإذا كان مفهوما، أن لأمريكا قول فصل في كل سياسات دول الخليج الداخلية والخارجية، فإن قيام إسرائيل الكبرى بالمعنى الجغرافي المصغر أو الكبير، أو بمعنى القوة الإقليمية المهيمنة، سيجعل لها هي الأخرى قولا فصلا، أو يشركها في كل شؤون دول الخليج، بما في ذلك أشخاص الجالسين على العروش، وذلك فضلا عن ضعف المناعة العسكرية الخليجية أصلا، كما ثبت من الغارة الإسرائيلية على الدوحة، تلك الغارة التي قلنا، ورأينا أنها أسقطت وهم اللحظة الخليجية لقيادة النظام الإقليمي العربي.
……………………
ربما يتذكر القارئ، أننا قلنا في ختام المقال السابق من هذه السلسلة، أنه في بعد سقوط وهم اللحظة الخليجية، وطبقا للمصالح الجيوبوليتيكية المحضة، وبسبب خطورة مشروع إسرائيل الكبرى، فإنه يتعين على مصر ودول الخليج البحث عن مسار جديد؛ لتحقيق التوازن اللازم لتحجيم هذا الطموح الإمبراطوري الإسرائيلي، فإلى المقال التالي للحديث عن ذلك المسار الجديد المقترح.