ضمن متابعة دورية لملف الحريات، أصدر مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) تقريرًا جديدًا، يرصد واقع الصحافة في الشرق الأوسط، في وقت تتفاقم فيه التحديات مع اتساع رقعة العدوان الإسرائيلي، لتضاف إلى أزمات قائمة أساسًا من صراعات أهلية وحكم سلطوي يقمع حرية التعبير.

يكشف التقرير الصادر في سبتمبر 2025، أن الصحفيين يواجهون أخطر أزمة مركبة، تجمع بين: القمع القانوني والأمني من قبل الأنظمة السلطوية، والاستهداف الدموي في بؤر النزاع، والانهيار المؤسسي الذي يضعف نقابات الصحفيين.

ويركز التقرير في مجاله الزمني على رصد وقائع الأشهر الثلاثة الأخيرة، باعتبارها ذروة غير مسبوقة من الانتهاكات، مدفوعة بالهجمات على غزة والضفة الغربية ولبنان واليمن، ويوثق الأحداث التي جرت في شهري أغسطس وسبتمبر 2025، وكلاهما شهدا اعتقالات ومحاكمات تعسفية في تركيا وتونس، إلى قتل جماعي للصحفيين وقصف مباشر لمقار إعلامية في فلسطين واليمن ولبنان.

وفي اليمن خصوصًا، يصور التقرير كيف تحول الصحفيون إلى "ضحايا منسيين" لحرب متعددة الأطراف يتعرضون خلالها للاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري، فضلًا عن الغارات الإسرائيلية.
وفي اليمن خصوصًا، يصور التقرير كيف تحول الصحفيون إلى “ضحايا منسيين” لحرب متعددة الأطراف يتعرضون خلالها للاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري، فضلًا عن الغارات الإسرائيلية.

اعتمد التقرير في تحليله على مراجعة تقارير دولية وحقوقية، بينها تقارير العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومؤشر حرية الصحافة العالمي (RSF 2025)، إضافة إلى بيانات صادرة عن نقابات واتحادات صحفية دولية وإقليمية.

الصحافة في الشرق الأوسط بين القمع والصراعات المسلحة
الصحافة في الشرق الأوسط بين القمع والصراعات المسلحة

ويخلص التقرير، إلى أن الوضع الراهن لم يعد مجرد انعكاس لحوادث طارئة، بل تحول إلى واقع متجذر، يهدد مهنة الصحافة، في منطقة تصنف ضمن الأسوأ عالميًا لحرية الإعلام، كما يربط وضع الصحفيين في الشرق الأوسط، ضمن مشهد دولي، حيث تمر المهنة بظروف “صعبة أو خطيرة” في أكثر من نصف بلدان العالم، و”مرضية” في أقل من ربعها.

ويرى التقرير، أن هناك موجة عالمية لتقييد حرية الصحافة (حتى في الديمقراطيات التقليدية مثل الولايات المتحدة)، هذا يشجع القمع في الشرق الأوسط، حيث يتضاعف الخطر بفعل السلطوية، والحروب المفتوحة، واستخدام الهويات السياسية لتشويه الصحفيين وتقييد حريتهم وقمع المواطنين عموما.

يخلص التقرير إلى أن هذه الممارسات تسهم في شل قدرة الصحافة على أداء دورها، وتحرم الجمهور من حقه في المعلومات، كما أنها تعكس ارتباك النظم أمام أزمات متشابكة، تواجهها، وهي لا ترحب بدور الإعلام ولا عمل الصحفيين حولها، فتسعى إلى إسكاتهم.

تقنين القمع باسم التشريع والضوابط القانونية

يقول التقرير، أن تونس تشهد تصاعداً مقلقاً في الإجراءات القضائية ضد الصحفيين والمدونين والنشطاء، حيث يتم استخدام أدوات قانونية قمعية لتكميم الأفواه المعارضة. مشيرا إلى  “المرسوم 54″، المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، الأداة الأبرز في هذه الحملة.

ينص المرسوم على عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات على استخدام شبكات الاتصالات “لإنتاج أو نشر أو ترويج… أخبار كاذبة” أو “التشهير بالآخرين أو تشويه سمعتهم أو الإضرار بهم ماليا أو معنويا”.  

 يقارب التقرير بين المرسوم وسلسلة التشريعات المصرية التي بدأت منذ 2018، والتي تقيّد حرية التعبير، وتخص جزئيًا، ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي. ويعتبرها  تجسيدا  وامتداد لسلطوية قديمة لمواجهة الإعلام الجديد، إذ تهدف إلى تعطيل ومحاصرة أية وسيلة، تساهم في نقل المعلومات أو التعبير عن الرأي، والحد من التفاعلات والنقاشات على منصات الإعلام الرقمي، والتي تُشكّل “مجالا عاما افتراضيا” مرتبطة بالواقع.

يستند التقرير إلى حالات من الاستهداف، معها تحول “الاحتجاز التعسفي إلى ركيزة أساسية في سياسة السلطة القمعية”. تهدف إلى “تكميم الأصوات المعارضة”، وخنق أي مساحة للنقد، وضمن ذلك، سجن قائمة تشمل 40 مواطنا ضمنهم مدونين بموجب المرسوم التونسي.

أما في لبنان يشتكي الصحفيون من تداعيات نصوص القدح والذم في قانون العقوبات؛ لأنه استُخدم مرارًا في استهداف النشطاء والصحفيين، ويطالبون بقانون للصحافة، يكفل حرية التعبير ومقتضيات عملهم.

يقول التقرير: يمثل القمع القانوني للصحفيين في الشرق الأوسط وجهاً واحداً للأزمة، الأنظمة لا تكتفي بالقوة الأمنية وحدها، بل تعمد إلى شرعنة ممارساتها عبر قوانين فضفاضة، هذا النهج، يستند على تقنين القمع تشريعا، ويحول التقاضي من أداة لضمان الحقوق إلى أداة لتقييدها، مما يخلق بيئة من الخوف والرقابة الذاتية، وأداة عقاب للصحفيين، سواء بما يتعلق بعملهم أو اتهامهم بالانتماء إلى تنظيمات سياسية إرهابية وعنيفة، كما حالة تركيا. أو النظر إليهم حال مخالفة السلطة بتشكك والتحريض عليهم، كما قول الحوثي: المرتزقة والعملاء من فئة الإعلاميين أكثر خطرا على هذا البلد من الخونة والمرتزقة الأمنيين المقاتلين.

أما الوجه الآخر والأكثر دموية، فيظهر في مناطق النزاع، حيث تنتقل التهديدات من الملاحقة القضائية إلى الاستهداف الجسدي المباشر.

الصحافة على خطوط النار

في مناطق النزاع يواجه الصحفيون مخاطر جسيمة، تتجاوز الملاحقة القانونية لتصل إلى التهديد المباشر للحياة، ولا يصبح القانون هو السلاح السلطوي الذي يواجه الإعلاميين، بل القذائف والرصاص والقتل المتعمد، وربما التهديدين معا كما حالة اليمن وسوريا ولبنان.

في بيئات الصراع وموجات العدوان الإسرائيلي يتحول الصحفيون من مراقبين للأحداث وناقلين للحقيقة إلى أهداف مباشرة.

في تقريرها، حول النزاعات والاحتجاجات، تقول منصة ACLED، إن شهر أغسطس كان مميتًا بشكل خاص للصحفيين الفلسطينيين، حيث قُتل ما لا يقل عن 13 شخصًا، 10 منهم أثناء تأدية واجبهم.

ويُصنف حادثان، أسفر كل منهما عن خمس وفيات، من بين أكثر الهجمات دموية على الصحفيين في غزة منذ بدء الحرب، اتصالا بذلك، وصف نقيب الصحفيين الفلسطينيين ناصر أبو بكر الوضع، بأنه “أكبر وأبشع مجزرة شهدها تاريخ الإعلام”. وتدعم الأرقام ذلك حتى تلك التي تعتبر عدد الضحايا وحسب 250، فإن ذلك يفوق من  قُتلوا من الصحفيين في الحرب العالمية الثانية.

وفى غزة دُمرت 90% من المؤسسات الصحفية، واعتقل عشرات العاملين، وصف أبو بكر ما يجري، بأنه “حرب إبادة إعلامية”، تشنها إسرائيل لمنع العالم من معرفة حقيقة، ما يجري على الأرض.

وفي لبنان، لم يسلم الصحفيون من الاستهداف ففي 25 أكتوبر 2024، أسفر هجوم إسرائيلي على منتجع في حاصبيا، عن مقتل ثلاثة صحفيين، وفقاً لتحقيق أجرته “هيومن رايتس ووتش”، فإن الهجوم كان على الأرجح “متعمداً ضد مدنيين وجريمة حرب مفترضة” استُخدمت فيه ذخائر أمريكية، كما لم يوجد أي دليل على وجود أهداف عسكرية في المنطقة وقت الهجوم.

مؤشرات رقمية:

يعرض تقرير “الحرب على الحقيقة” أن أوضاع الصحافة في الشرق الأوسط بلغت مستويات غير مسبوقة من الخطورة، حيث دمر ما يربو على 90% من المؤسسات في غزة، فيما اعتبرت لجنة حماية الصحفيين الهجوم الإسرائيلي على اليمن في 10 سبتمبر 2025، بأنه الأكثر دموية ضد الصحفيين منذ 16 عامًا، بعد أن أسفر عن مقتل 31 إعلاميًا.

وحسب تقرير مؤشر حرية الصحافة (2025)، تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، المنطقة الأسوأ عالميًا، إذ تقع نصف دول المنطقة ضمن آخر 30 مركزًا من أصل 180 دولة.

تراجعت تونس إلى المركز (129)، بعدما كانت في المرتبة 94 عام 2022، فيما حققت المغرب (120)، ليبيا (137) والجزائر (126) بعض التحسن النسبي رغم استمرار القيود، وبقيت مصر (170) في المراتب الأخيرة، ومعها إيران (176) وسوريا (177) .

في غزة، قتل 13 صحفيا، قُتلوا خلال أغسطس 2025، بينهم 10 أثناء أداء عملهم، بينما إجمالي الضحايا قارب 250 قتيلاً، وهو رقم يتجاوز من قُتلوا في الحرب العالمية الثانية، بينما في اليمن، قُتل 63 صحفيًا بين 2015– 2023، فيما وثقت لجنة حماية الصحفيين مقتل 26 آخرين منذ 2014، بينهم 6 في غارات التحالف السعودي الإماراتي.

أما على مستوى الانتهاكات السلطوية، فيواجه الصحفيون حملات قمع، في تركيا لا يزال 16 صحفيًا رهن الاعتقال بتهم سياسية، وفي تونس وثّقت النقابة سجن 40 صحفيًا ومدونًا بموجب المرسوم 54.

يختتم التقرير، بأن “حماية الصحفيين، مهمة صعبة في ظل واقع معقد، وهي تحتاج جهداً متكاملاً يتجاوز الإدانات، مع ضرورة التوثيق الدقيق للانتهاكات، وحشد ضغوط دولية ومحلية مدعومة بالأدلة لمحاسبة الجناة، سواء كانوا دولاً أو جماعات مسلحة”

ويشير إلى أهمية التنظيم كفكرة مركزية، والتوجه نحو التعاون بين النقابات والجهات المختصة كضرورة ومرتكز محوري لمهام الدفاع وكسب التأييد، مع دفع الجهود لإيجاد تضامن دولي حقيقي وفعال مع العاملين في وسائل الإعلام في منطقة تمزقها الصراعات والقمع.

لقراءة التقرير كاملا: