لم تؤثر حرب غزة فقط على الشعب الفلسطيني، إنما أثرت على دول المنطقة كلها والعالم، صحيح أن الأرواح التي سقطت، كانت أساسا من قطاع غزة، ولكن سقط أيضا فلسطينيون من الضفة الغربية ولبنانيون ويمنيون وسوريون ضحايا لعمليات عدوانية إسرائيلية مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحرب غزة.

أما باقي دول العالم فقد تغير موقفها من القضية الفلسطينية، وانتقل من حديث عابر لإبراء الذمة عن حقوق الشعب الفلسطيني إلى مظاهرات شعبية عارمة، رفضت الجرائم الإسرائيلية، وطالبت بمحاسبة قادتها على جرائمهم، وعرفت سردية المظلومية الإسرائيلية تراجعا كبيرا أمام آلة القتل لجيش الاحتلال.

أما مصر التي تعتبر القضية الفلسطينية بالنسبة لها قضية أمن قومي، وتربطها حدود مشتركة مع قطاع غزة، فقد كان دورها متعدد الأوجه والأشكال، صحيح أن هناك أسهم نقد وجهت للدور المصري، لم تكن في محلها، وعكست درجة كبيرة من الترصد وتصفية الحسابات لا علاقة لها بالواقع.

من المؤكد، أن الجهود المصرية لم تتوقف من أجل التوصل لوقف إطلاق نار بين إسرائيل وحماس، واستمرت حتى اللحظة لإقناع الأخيرة بخطة ترامب من أجل حقن دماء الشعب الفلسطيني، وبذلت على مدار أشهر جهود مضنية في مفاوضات الوساطة بمشاركة قطر والولايات المتحدة في محاولات لوقف الحرب وتنظيم إدخال المساعدات إلى غزة بالتفاهم الذي لا مفر منه مع الجانب الإسرائيلي الذي يسيطر على الجانب الفلسطيني من المعبر.

ومن هنا، فإن اتهام مصر بأنها تمنع إدخال المساعدات عن غزة ليس فقط اتهام غير صحيح، إنما يشتت الأنظار عن المتهم الحقيقي، وهو إسرائيل، والذي قام بعمليات تجويع للشعب الفلسطيني متعمدة، وفرض على المجتمع الدولي ومصر شروطه ومنع دخول المساعدات، بل واستهدف طالبيها من المدنيين والأبرياء.  

لقد أوضحت حرب غزة محورية الدور المصري سواء في الوساطة والضغط على حماس من أجل الوصول لتفاهمات، تنهي الحرب، كما أن إسرائيل التي انتهكت أكثر من مرة اتفاقية كامب دافيد بالسيطرة على محور “فيلادلفيا” دون التنسيق مع مصر، لم تستطع فرض شرطها الرئيسي على القاهرة بفرض مشروع التهجير بمختلف صورة، سواء كان تهجيرا جزئيا قدر بحوالي نصف مليون شخص أو كامل قدر بأكثر من مليون فلسطيني.

ورغم هذا الدور المصري الإيجابي الذي عزز من جوانب حضورها الدولي، إلا أنها خسرت جانبا آخر، يتعلق بهذا البطء الشديد في تحركاتها، وبدت كأنها رد فعل على اتهامات، جاءت من مختلف الأطراف بما فيهم إسرائيل، والتي سبق وحملت مصر بكل بجاحه مسئولية إغلاق المعبر، وردت القاهرة على الاتهام الإسرائيلي بعد إعلانه في محفل دولي، في حين كان مطلوبا منها، أن تبدأ باتهام إسرائيل منذ اليوم الأول بمسئوليتها عن هذه الجريمة، لا أن تنتظر لترد على اتهامها الباطل.

إن الرد على كل الاتهامات السابقة والحالية التي وجهت لمصر، أمر لا بد منه، ولكن يجب أن تكون هناك سياسة استباقية أكثر جرأة، وتنطلق من تحركات شاملة في كل المحافل الدولية لوقف الحرب وإنقاذ أهل غرة من الجرائم الإسرائيلية.

طبيعي أن ترد مصر على الاتهامات التي توجه لها، رغم أنها تعرف، أن جانبا من هذه الاتهامات يأتي بغرض تصفية الحسابات مع الحكم الحالي، وليس بغرض الإصلاح أو حتى نقد للإداء العام، ولكن في نفس الوقت يجب التأكيد، على أن الرأي العام المصري والعربي والعالمي لا يشكله أساسا المتربصون أو أصحاب المواقف الثأرية، مهما ارتفع صوتهم، إنما أيضا حسن أو سوء الأداء العام والأخطاء التي ترتكب وسياسة رد الفعل التي تشكل الجانب الأكبر من تقييم الرأي العام للأداء المصري، وهؤلاء لن يقنعهم الهجوم على الإخوان ودورهم في التحريض ضد الحكم في مصر، إنما سيقنعهم أداء سياسي مختلف أكثر حضورا وكفاءة وجرأة 

خسرت مصر من حرب غزة، أنها كشفت عن جوانب خلل في الأداء الداخلي وضعف المشاركة الفعالة في الحملات القانونية والسياسية والإعلامية لمواجهة جرائم الإبادة الإسرائيلية، كما فعل قادة جنوب إفريقيا وكثير من زعماء أمريكا الجنوبية، حين قررت الأولى أن تذهب بمفردها إلى محكمة العدل الدولية لإدانة إسرائيل على جرائم الإبادة الجماعية، وخاضت معركة قانونية وسياسية ضروس مع دولة الاحتلال والإدارة الأمريكية على السواء.

يقينا الفرصة التي جاءت إلى مصر تخص مشاركتها في الحراك الشعبي العالمي لدعم القضية الفلسطينية، وهو ما لم يحدث نتيجة قيود كثيرة مفروضة على التحركات الشعبية المستقلة، كما أن المشاركة الرسمية في تحركات العديد من دول العالم لدعم القضية الفلسطينية، كانت أقل من المأمول.

خسرت مصر جانبا من قدرتها الناعمة أي الحراك الشعبي والفني والرياضي الذي كان يمكن أن يتحرك بشكل مستقل عن الدولة، ودون أن يحملها مواقفه وشعاراته، ويساهم في الضغط على إسرائيل بكل الوسائل، فكان يمكن أن تقام مباريات رياضية مع فرق ومنتخبات عالمية، يخصص إيرادها لأهل غزة بجانب مهرجانات فنية ومؤتمرات دولية داعمة للقضية الفلسطينية وغيرها، وهو ما غاب على مدار عامين.

بالمقابل، فقد ربحت مصر حضورا رسميا على الساحة الدولية، وأصبحت لاعبا رئيسيا، لا يمكن لإسرائيل أو حماس أو أمريكا والمجتمع الدولي، أن يتجاهلوا دوره في إيقاف حرب غزة أو تقديراته في رفض التهجير الذي مثل ورقة الضغط الرئيسية على دولة الاحتلال من أجل التراجع عن موقفها، وساهمت مصر حتى اللحظة في إفشاله.