حين أصدرت محكمة جنايات القاهرة، برئاسة المستشار محمد علي الفقي، حكمها ببراءة جميع المتهمين بقضية “التمويل الأجنبي” لمنظمات المجتمع المدني في شقها الأجنبي نهاية عام 2018، فُسر الحكم على أنه تغير في سياسات الحكومة المصرية مع المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني، وأنه سيعقبها حفظ التحقيقات في شقها المصري، والتراجع عن سياسة الملاحقات الأمنية واتهامات العمالة والخيانة.

وزاد من مساحة الأمل، تصديق الرئيس عبد الفتاح السيسي، على قانون الجمعيات الأهلية، بعد عام تقريبًا من إعادة نسخة تسبقه واجهت انتقادات محلية ودولية، ورفض الرئيس التصديق عليها.

ورغم الملاحظات على القانون الجديد، إلا أنه اعتبر إشارة لإعادة صياغة العلاقة بين الحكومة المصرية ومنظمات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان، وأن هناك ولو مساحات بسيطة للعمل الحقوقي.

حكم البراءة، والتعديلات التي تمت على قانون الجمعيات الأهلية بدت وكأنها بداية سياسة جديدة للحكومة المصرية مع المدافعين عن حقوق الإنسان، لكنها تحتاج إلى بعض الترتيبات والوقت.

بهي الدين حسن

الآن، وبعد الحكم على بهي الدين حسن، مؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وأحد مؤسسي الحركة الحقوقية في مصر، بـ 15 عامًا، تلقى المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان الضربة القاضية، أو رصاصة الرحمة على ما تبقى من العمل الحقوقي المتعثر بالأساس بسبب الملاحقات الأمنية من جانب، واتهام المجتمع له من جانب آخر بالعمالة وتلقي التمويل، وافتقاده لظهير شعبي.

وكانت محكمة جنايات القاهرة الدائرة الخامسة (إرهاب) قد أصدرت حكمًا غيابيًا بالسجن 15 عامًا بحق المدافع عن حقوق الإنسان بهي الدين حسن، بتهمة نشر أخبار كاذبة والتحريض ضد الدولة، رقم 5370 لسنة 2020 جنايات الدقي، المقيدة 91 لسنة 2020 حصر أمن دولة.

منظومة العدالة في مصر

بعد أقل من ساعة من صدور حكم الـ 15 عامًا على “بهي الدين حسن”، بدأت عشرات البيانات من المنظمات الدولية والأممية، تندد وتدين الحكم وتتضامن، وتصف الحكم بأنه سياسي، وانتقامي، كما شككت في منظومة العدالة، وفي الاطمئنان إلى الأحكام القضائية.

الخارجية الأمريكية، أدانت الحكم على “بهي الدين حسن”، وقام 40 نائبًا في الكونجرس الأمريكي، بمراسلة خارجية بلادهم، مطالبين بمحاسبة الحكومة المصرية، على ما وصفته بـ “الاعتقالات التعسفية” ضد الصحفيين والحقوقيين، و ذكّرت بالشروط الحقوقية الخاصة بـ 300 مليون دولار.

كما أدان الحكم، رئيس لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان الأوروبي، داعيًا الحزب الشيوعي الفرنسي، إلى مظاهرة أمام السفارة المصرية بفرنسا.

وقال كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان، “إن الحكم بسبب معارضة بهي للحكومة المصرية وسياستها القمعية”.

ورفضت كوميتي فور جستس وهي جمعية مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان ومقرها في جنيف الحكم، وقالت إنه يأتي في إطار خطة ممنهجة لقمع المدافعين عن حقوق الإنسان ومنع كشفهم لانتهاكات الحكومة الحقوقية.

مرصد حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، وهو برنامج مشترك بين الفدرالية الدولية لرابطات حقوق الإنسان (FIDH) والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب “OMCT”، قال “إن هذا الحكم انتقام من عمل بهي في فضح انتهاكات الحكومة المصرية في انتهاكات حقوق الإنسان”.

كما اعتبرت منظمة العفو الدولية، الحكم عقابًا على نقد “بهي” للسياسات الحكومية اتجاه حقوق الإنسان، وطالب مديرها فيليب لوثر، إلى تحقيق العدالة لجوليو ريجيني، الطالب الإيطالي الذي وجد مقتولا في أحد الطرق.

بلاغات النائب العام

“بهي” سبق الحكم عليه بـ 3 سنوات أخرى، وغرامة 20 ألف جنيه، من محكمة جنايات القاهرة الدائرة (30) غيابيًا بثلاث سنوات مع الشغل وغرامة 20 ألف جنيه، على خلفية اتهامه بإهانة القضاء القضية رقم 5530 لسنة 2019 جنح عابدين.

دار القضاء العالي

الحكم صدر بعد تقديم أحد المحامين المغمورين أيضًا بلاغًا إلى النائب العام، يتهم “بهي”، ببث ونشر أخبار كاذبة والتحريض على العنف وإهانة السلطة القضائية، عبر حساب على مواقع التواصل الاجتماعي.

المحامون المغمورون يبررون بلاغاتهم بأن “بهي الدين حسن” يدعم الجماعات المتطرفة ويدافع عنهم أمام المحافل الدولية بغرض إحراج مصر دوليًا.

بعض جرائم القتل، والاغتصاب، والسرقة، لا تصل عقوبتها إلى 15 عامًا طبقًا لقانون العقوبات المصري، فكيف لـ5 تغريدات على موقع “تويتر” للتواصل الاجتماعي، أن تؤدي بصاحبها إلى 15 عامًا؟

 الحكم الثاني برئاسة المستشار محمد على الفقي، نفس رئيس المحكمة الذي أصدر حكم براءة المتهمين في قضية “التمويل الأجنبي.

يقيم “بهي” بين تونس وفرنسا منذ أن ترك مصر في عام 2014، ويبلغ من العمر 72 عامًا، وهو أحد مؤسسي حركة حقوق الإنسان في مصر، كما انضم عام 1983 للجنة الحريات بنقابة الصحفيين، وفي عام 1985، انضم لتأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، التي انُتخب عام 1986 عضوًا في مجلس أمنائها.

رسائل مشفرة

ما الرسالة التي يمكن أن يتلقاها المدافعون عن حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني من الحكم بـ15 عامًا على “بهي الدين حسن”؟

هل لدى الحكومة المصرية النية للمطالبة بتسليمه؟

وإذا كان لديها النية، هل ستسلمه فرنسا أو تونس الدولتان اللتان يتنقل بينهما؟

ما هي الصورة التي ترسمها البيانات الحقوقية والشخصيات الدولية تعليقًا على الحكم؟

يهدم فلسفة الردع

مالك عادلي

عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، حافظ أبو سعدة يفسر الحكم بـ 15 عامًا بأنه حكم غيابي، وبمجرد عودة “بهي” ومعارضته الحكم يعتبر كأنه لم يكن.

“أبو سعدة” طالب بإعادة النظر في الأحكام الغيابية، والنظر في آثارها السلبية أمام المنظمات الدولية والأممية.

ويتفق المحامي الحقوقي نجاد البرعي، مع “أبو سعدة” في الآثار السلبية للحكم الذي لا يتناسب مع الاتهامات، ومع الفعل نفسه، الذي لم يزد عن كونه 5 تغريدات تحمل انتقادات للحكومة.

في حين يرى المحامي مالك عدلي، مدير المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أن الحكم يهدم فلسفة الردع التي أسس عليها قانون الإجراءات الجنائية، وأنه لا يتناسب مع حجم الجريمة، ويتجاوز بعض أحكام جرائم القتل والمخدرات.

واعتبر “عدلي” أن الحكم تهديدي لمن تبقى من المدافعين عن حقوق الإنسان.

جمال عيد

ويتفق معه جمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، حيث يرى أن الحكم ترهيب للمدافعين عن حقوق الإنسان.

ويقول محمد زارع مدير برنامج مصر بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، إن ملف القضية ليست به أي إدانات حقيقية، فقط اتهامات بنيت فقط على “برنت سكرين” من تدويناته، إلى جانب تحريات الأمن الوطني الذي رصد تحركاته خارج البلاد، وزياراته للأمم المتحدة والتي جميعها معلنة للجميع.

كما أشار إلى أن الحكم بمثابة تهديد صريح للحقوقيين والمنظمات الحقوقية في مصر.

محمد زارع

ولفت “زارع” إلى أن الحكم يعكس ما آلت إليه الدولة ومؤسساتها بما فيها المؤسسة القضائية، كما وصف الحكم بـ”الانتقامي” والذي لا يتناسب تمامًا مع ما قام به “بهي الدين حسن” من كتابة  تدوينات معارضة للسلطة، والتي على أساسها تم اتهامه بالتحريض على الدولة.