أصدر البيت الأبيض بعد ظهر يوم الاثنين الماضي، ٢٩ سبتمبر/ أيلول اقتراح دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة، عقب اجتماعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وفيه ورد لفظ التعايش ٣ مرات:

١- في البند رقم 6، بخصوص العفو المشروط لأعضاء حماس، إذ “يُمنح العفو لأعضاء حماس الذين يلتزمون بالتعايش السلمي وتسليم أسلحتهم”.

٢- في البند رقم 13، بخصوص التزام غزة الجديدة بـ “التعايش السلمي” مع جيرانها، وهو بند بالمناسبة، يتعلق بتفكيك البني العسكرية في غزة، “وستلتزم غزة الجديدة التزامًا كاملًا ببناء اقتصاد مزدهر والتعايش السلمي مع جيرانها”.

٣- في البند رقم 18، بخصوص عملية الحوار بين الأديان، إذ “سيتم إنشاء عملية حوار بين الأديان على أساس قيم التسامح، والتعايش السلمي لمحاولة تغيير عقلية وروايات الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال التأكيد على الفوائد التي يمكن أن تستمد من السلام”.

وفي مقال هام يشرح اثنان من قيادات الأمن القومي السابقين، ما يجب على إسرائيل، أن تتضمنه في نظريتها للأمن بعد ٧ أكتوبر/ تشرين أول. يقولان: “يجب على إسرائيل اتباع برنامج طويل الأمد لمحاربة التطرف، بما في ذلك إدخال مناهج تعليمية جديدة، ومنع القادة الدينيين أو الشخصيات الإعلامية من الترويج للإرهاب، وتمكين قادة جدد، يُشجعون التعايش. ويضيفان: “ستحتاج إسرائيل إلى الإصرار على التزام الجهات المسئولة عن الإدارة المدنية في غزة بتعزيز ثقافة السلام والاعتدال، بدلًا من ثقافة الإرهاب والتطرف”.

تُقرّ استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلية الجديدة بالدور المحوري الذي تلعبه الأيديولوجية في تحفيز أعدائها. في الماضي، قلّلت النخب الإسرائيلية ذات الأغلبية العلمانية، من أهمية الأيديولوجيات الإسلامية “المتطرفة”. لكن هذا الطرح فشل، لذا يُصمّم القادة الإسرائيليون اليوم نهجهم الجديد، على أساس أن أيديولوجية حماس، أو بالأحرى أيديولوجية المقاومة قد شكّلت بعمق نظرة العديد من سكان غزة للعالم. وبالنظر إلى أن متوسط العمر في غزة هو 18 عامًا، وأن حماس سيطرت على غزة قبل 18 عامًا، فإن نصف السكان على الأقل نشأوا في ظل حكم حماس، واستوعبوا رسالة الحركة من خلال المدارس والمساجد ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها حماس.

حملة لإبراز التسامح وإدارة السمعة

لقد بشرت اتفاقيات إبراهام، التي تم توقيعها في عام 2020، بتحول كبير في دبلوماسية الشرق الأوسط، مما دفع الإمارات العربية المتحدة والبحرين نحو علاقات دبلوماسية واقتصادية رسمية مع إسرائيل. كان من أهم عناصر هذه العملية جهود التطبيع الواسعة النطاق في المجالات الثقافية والدينية، والتي صُممت لتعزيز “سلام دافئ” بين الدولتين والشعب الإسرائيلي. ومع ذلك، فقد تم تأطير هذه الجهود بشكل نقدي، باعتبارها استراتيجية علاقات عامة- غالبًا ما يطلق عليها ” غسل السمعة بالتسامح “. تهدف هذه الاستراتيجية- التي تتبعها إلهام فخروه في كتابها الصادر حديثا بالتفصيل- إلى إعادة صياغة صورة دول الخليج المطبعة كمجتمعات متسامحة وحديثة وليبرالية، في المقام الأول للتخفيف من الانتقادات الغربية بشأن سجلاتها المحلية في مجال حقوق الإنسان.

غالبًا ما يُستشهد بالرؤية طويلة المدى للتغيير الثقافي والديني المصاحب للاتفاقيات، باعتبارها مشروعًا متعدد الأجيال.

استراتيجية الإمارات: مأسسة التسامح وتسويق الحياة اليهودية

لقد استغلت دولة الإمارات نهج التطبيع الثقافي والديني من خلال الاستفادة من قدراتها الاستثمارية الضخمة، والبنية التحتية القائمة للقوة الناعمة. ساعدت هذه الاستراتيجية في إبراز دولة الإمارات كمركز ليبرالي صديق للأعمال، وفي الوقت نفسه، عملت على تشويه سمعة المنافسين السياسيين المحليين، مثل جماعات الإسلام السياسي، باعتبارهم متطرفين دينيين.

سعت أبوظبي لإنشاء البنية التحتية المشتركة بين الأديان واليهودية. أطلقت الإمارات العديد من المشاريع البارزة التي تُركّز على الحوار بين الأديان. وأعلنت الدولة “عام التسامح” في عام ٢٠١٩، والتي تضمن زيارة البابا فرانسيس، الذي وقع وثيقة الأخوة الإنسانية مع الإمام الأكبر شيخ الأزهر. وكشفت لاحقًا عن خططها لبناء بيت العائلة الإبراهيمية، وهو مجمع مشترك بين الأديان، يضم كنيسًا ومسجدًا وكنيسة.

كما سمح التطبيع بالظهور العلني والتوسع السريع للمجتمع اليهودي، الذي يتكون في المقام الأول من المغتربين. انتقل كنيس دبي من العمليات السرية منذ عام 2008 إلى حضور أكثر علنية، مما أدى إلى إنشاء المجلس اليهودي في الإمارات (JCE) . تم إنشاء كنيس لاحق، وهو كنيس بيت طفيله، في أبو ظبي.

وقد اتسم هذا التوسع الثقافي بنهج متصاعد، إذ قاده على وجه الخصوص الحاخام ليفي دوشمان، الذي أسس وكالة الإمارات لإصدار شهادات الكوشير- أي الطعام المتوافق مع الشريعة اليهودية. وتماشيًا مع هذا التسويق التجاري، أصدرت وزارة الثقافة والسياحة في دولة الإمارات العربية المتحدة تعميمًا، ينصح الفنادق بتضمين خيارات طعام كوشير والسعي للحصول على شهادة، مما أدى إلى امتثال أكثر من 150 مطبخًا فندقيًا، للكوشير وتوليد إيرادات مدعومة لشركة دوشمان. علاوة على ذلك، أسس دوشمان حضانة ميني ميراكلز، وهي الحضانة الوحيدة الناطقة باللغة العبرية في الإمارات العربية المتحدة، إلى جانب المدرسة العبرية في دبي.

وقد عززت الأحداث الرمزية، مثل الاحتفال العام بعيد الحانوكا أو الأنوار الذي أقيم عند قاعدة برج خليفة، هذه الصورة العامة للتسامح.

الإصلاحات التعليمية وتطبيع المناهج الدراسية

أجرت الإمارات العربية المتحدة تعديلات رئيسية على مناهجها التعليمية بعد فترة وجيزة من إقامة علاقات مع إسرائيل. قامت أبوظبي بإزالة المحتوى المعادي لإسرائيل من الكتب المدرسية الحكومية، ودمج الإشارات الإيجابية للاتفاقات في ثلاثة كتب مدرسية للتربية الإسلامية.

في خطوة حظيت بإشادة من المسئولين الأمريكيين والألمان، أعلنت الإمارات العربية المتحدة عن خطط لدمج تعليم الهولوكوست في مناهجها الدراسية، مما يجعلها أول دولة عربية، تفعل ذلك. وقد حظيت هذه التغييرات في المناهج الدراسية بإشادة من منظمة غير ربحية إسرائيلية، وهي معهد مراقبة السلام والتسامح في التعليم المدرسي (IMPACT-se). بالإضافة إلى ذلك، تم إطلاق معرض تذكاري للهولوكوست في متحف مفترق طرق الحضارات المملوك للقطاع الخاص.

البحرين: إحياء التراث وصد الانتقادات

استخدمت البحرين جهودها في التطبيع الثقافي بشكل أساسي لأغراض تتعلق بالسمعة، مستغلة أقليتها اليهودية التاريخية الصغيرة. كانت هذه الحملة حاسمة في صرف الانتقادات الغربية بشأن سجلها في مجال حقوق الإنسان والحملة القمعية ضد سكانها الشيعة في أعقاب احتجاجات الربيع العربي عام 2011.

استهدفت البحرين إضفاء الطابع المؤسسي على التعددية والإحياء اليهودي لتعزيز صورتها. افتتحت البحرين مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي في مارس 2018، مما أدى إلى الترويج للبلاد كمركز عالمي رائد للحوار بين الأديان. كما رعت الحكومة كرسي الملك حمد للحوار بين الأديان والتعايش السلمي في معهد إيطالي عام للتعليم العالي.

أدى التطبيع إلى إحياء المؤسسات اليهودية في البحرين. أُعيد افتتاح كنيس بيت الوصايا العشر، وهو الكنيس الوحيد في شبه الجزيرة العربية، للصلاة العامة عام ٢٠٢١ بعد تجديدات شاملة. علاوة على ذلك، تم إنشاء محكمة بيت دين العربية، وهي محكمة حاخامية جديدة، والتي تعترف الحكومة البحرينية بأحكامها في الأمور المنزلية والتجارية، باعتبارها ملزمة قانونًا. كما تم الإعلان عن خطط لإحياء المقبرة اليهودية التاريخية في البحرين بدعم من الحكومة. كما بدا أن البحرين تؤيد تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست المثير للجدل لمعاداة السامية.

شاركت البحرين في جهود تواصل رفيعة المستوى استعراضية، بما في ذلك إرسال مجموعة ضغط مؤيدة للحكومة “هذه هي البحرين”، والتي ضمت ممثلين عن ديانات مختلفة، إلى إسرائيل في عام 2017 لتعزيز السلام.

زار الأمير ناصر بن حمد آل خليفة- مستشار الملك- متحف التسامح في لوس أنجلوس، وأصدر ” إعلان مملكة البحرين “، مؤكداً التزام الأمة بالحرية الدينية.

أشاد زعماء يهود بملك البحرين، بما في ذلك مستشار خاص لشؤون الأديان، الذي وصف البحرين، بأنها “نموذج يحتذى به في العالم العربي للتعايش والتسامح”. وصف حاخام فرنسي البحرين في عهد الملك، بأنها “نور صغير في عالم مظلم من الأصولية المتطرفة”. كما أكدت البلاد على تسامحها من خلال افتتاح كاتدرائية مريم ملكة العرب، أكبر كنيسة كاثوليكية في شبه الجزيرة العربية، في ديسمبر 2021، على أرض تبرع بها الملك حمد.

لقد تعرضت الجهود الثقافية والدينية في الإمارات العربية المتحدة والبحرين، على الرغم من تعزيزها للتعايش الانتقائي، لانتقادات؛ بسبب إخفاء القمع الداخلي.

يجادل النقاد، بأن إظهار البحرين للتسامح يتعارض بشدة مع سياساتها الداخلية. فعلى الرغم من ضخّ الأموال لدعم التعددية وبناء مواقع دينية جديدة لغير المسلمين، لم تُعِد الحكومة بناء المساجد الشيعية التي هُدمت خلال حملة قمع الربيع العربي عام ٢٠١١.

هذه الجهود تستخدم نفس استراتيجيات الدعاية، أو “الهسبارا”، التي تستخدمها إسرائيل لتنمية صورتها، باعتبارها “فيلا ليبراليا في الغابة” في منطقة عنيفة. يصف النقاد هذا، بأنه ” غسيل وردي ” أو ” غسيل قوس قزح “: استخدام المظاهر الاجتماعية التقدمية لتحويل الانتباه عن قضايا الاحتلال والإبادة الجماعية في غزة.

رافق التطبيع تشديد الرقابة الداخلية والمراقبة. استخدمت البحرين محظورات غامضة الصياغة تُجرّم انتقاد سياسة الحكومة. وفرضت الرقابة على الكتب المدرسية الخاصة لإزالة المحتوى المنتقد لإسرائيل.

تورطت الإمارات العربية المتحدة في استخدام تكنولوجيا مراقبة متطورة طورتها إسرائيل، مثل برنامج التجسس بيجاسوس التابع لمجموعة NSO ، لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين. ويسلط هذا الاعتماد على التكنولوجيا الإسرائيلية الضوء على الافتقار إلى الرقابة على المعاملات الأمنية السرية المصاحبة للتعاون الثقافي.

وعلى الرغم من البنية التحتية المؤسسية التي تم بناؤها لتسهيل التبادل الثقافي وتدفق السياح- مما أدى إلى زيارة نصف مليون سائح إسرائيلي للإمارات العربية المتحدة بعد رفع قيود كوفيد- 19- ظلت العلاقات الثقافية مع مواطني الخليج منخفضة، حيث زار 1400 إماراتي فقط إسرائيل في العام الأول بعد القيود.

لقد تم اختبار هشاشة هذا “السلام الدافئ” بشدة مع اندلاع الإبادة في غزة عام 2023. ففي أعقاب القصف العسكري الإسرائيلي، اندلعت مقاطعة جماعية في العالم العربي ضد الشركات المرتبطة بإسرائيل. وفي حين يستمر مشروع التطبيع طويل الأمد، أدى الصراع إلى تصاعد معارضة التطبيع في المنطقة، مما أدى إلى تحرك جماعي ضد الشركات. لاحظ القادة الإسرائيليون، الذين يواجهون عزلة متزايدة، هذا التحول، حيث صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن البلاد تتجه نحو وضع “إسبرطة عظمى” تحت “حصار أبدي”.

وفي حين أن أنصار الاتفاقيات، مثل بعض النخب الخليجية والمنظمات المؤيدة لإسرائيل، يدافعون عن هذا العصر الجديد، باعتباره تعبيرا وإعلانا لشرق أوسط جديد، إلا أن التسامح أو التعايش لا يمكن أن يكون انتقائيا أو مفروضا على طرف وغير مطالب به طرف آخر. ففي الوقت الذي يطالب العرب بالتعايش، تتصاعد في المجتمع الإسرائيلي الجماعات السياسية المتطرفة التي تطالب بإبادة الفلسطينيين جميعا- كما يجري الآن في غزة والضفة.

“بالنسبة للإسرائيليين، كانت مذبحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بمثابة تذكيرٍ مُوجع، بأن إسرائيل لا تزال تُكافح من أجل وجودها. الاستنتاج الذي توصل إليه صُنّاع القرار- والذي يُؤيده جزءٌ كبيرٌ من الجمهور- هو أن على إسرائيل تبني نهجٍ أمنيٍّ جديدٍ قائمٍ على القوة، واستعراض النفوذ، والجهود الاستباقية لضمان سلامتها. إن التزام إسرائيل باستعراض قوتها يتطلب منها تغيير نهجها في الشراكات لحماية استقلاليتها الاستراتيجية”- هذا ما ينص عليه الخبيران الاستراتيجيان الإسرائيليان في مقالهما الذي نشر الشهر الماضي في الفورين أفيرز.

في نهاية المطاف، لا يعني أني- وقد عملت لسنوات طويلة في حوار الأديان- إقليميا ودوليا ووطنيا- ضد حرية المعتقد، ولا حرية ممارسة الشعائر لكل المعتقدات، لكن هذه الجهود لا يمكن أن تكون انتقائية، ولا يجب أن يخضع لها الضحية، ولا يمليها المنتصر. في هذه الحالات تفقد معناها وقيمتها، وتصبح جرءا من القهر والقمع الذي يضاد جوهر الأديان.