فمثلما ورَّث مشروع محمد علي البلاد، أسرة حاكمة وهيكل دولة بعد انتكاسته بمعاهدة لندن عام 1840، التي فرضت عليه الانفتاح الاقتصادي، وتخفيض الجيش من 250 ألف جندي إلى 18 ألف فقط، فقد ورَّثت ثورة 1952 البلاد، طبقة وسطى جديدة؛ نتيجة الإصلاح الزراعي وسياسات التصنيع والتعليم المجاني والتوظيف الحكومي. ولولا الانفتاح الاقتصادي ثم الخصخصة، ما تمت تصفية الطبقة العاملة، لتم البناء الاجتماعي وتحول النظام السياسي من نظام أوتوقراطي إلى نظام ديمقراطي.. لكن تظل الطبقة الوسطى- ورغم ما تعانيه الآن- قاعدة اجتماعية ضاغطة باتجاه التغيير والإصلاح.

البناء الاقتصادي أساس التكوين:

يقول المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي، تحت عنوان “الجهاد الاقتصادي”، ولما حدث البعث الوطني منذ عهد مصطفى كامل، اقترن الجهاد السياسي بالجهاد الاقتصادي، رغم العقبات التي وضعها الاحتلال في سبيل كليهما. وبدا أثر ذلك في الدعوة لإحياء الصناعة الوطنية، وتأسيس بنوك التعاون والمؤسسات والنقابات العمالية، مما تجده مفصلًا في موضعه من كتابَي مصطفى كامل ومحمد فريد. وهذا التعبير هو الوصف الدقيق لتجربة عبد الناصر، فلم تكن قائمة على أيديولوجيا مسبقة، ولكنها ثمرة صراع مع الواقع، فقد كان المحور الاقتصادي للكفاح من أجل التحر الوطني هو مكافحة التخلف والفقر.

وكما يذكر الرافعي: “إن الحكومة هي الأداة الفعالة والرئيسية، في تنمية ثروة البلاد واستثمار الموارد التي لم تستغل بعد، ومن الحق، أن نعترف بأن الحكومة مقصرة في هذا الصدد، وهذا التقصير يرجع إلى سنين عديدة، ولو أنها أدت واجبها؛ لزادت ثروة البلاد في النواحي الزراعية والصناعية والتجارية”، وكما يقول الدكتور علي الجريتلي: “تعتبر ثورة 23 يوليو 1952؛ نتيجة منطقية لتطورات تاريخ مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر، ورد فعلي حتمي للاستعمار الأوروبي ح، واستغلال قلة من مالكي الأرض وتجار المدن وأرباب الأعمال للسواد الأعظم من المزارعين والعمال”، حيث يقول روذستين Rothstein في عام 1910: “إن الإنجليز في الثماني والعشرين سنة التي حكموا فيها مصر، لم يكتفوا بعدم إنشائهم، ولو صناعة واحدة فحسب، بل قتلوا بالفعل كل ما يمكن شأنه، أن يعود عليها ببعض التقدم الصناعي”.

وكما يروي سلامة موسى، قصة مصنعين مصريين، تحت عنوان تثبيط الصناعة المصرية، ففي عام 1898 أُنشأت في القاهرة شركة لغزل القطن ونسجه، وكان رأس المال المطلوب 16 ألف جنيه، فأقبل عليها الناس، واشتروا أسهمها، واشتد الإقبال حتى غطى رأس المال خمس مرات، واختارت الشركة موقعها في بولاق وسط مساكن العمال، لتؤسس مصنعًا حديثُا، وجاءت بمدير إنجليزي فني، ومضى المصنع عامًا يعمل في الغزل والنسيج، وكان ينتج البفتة الحمراء من نفاية القطن المصري، ولكن الحكومة التي كان يسيطر عليها الإنجليز، رأت أن هذا المصنع يجب ألا يشجع، وهنا نصح اللورد كرومر لحكومتنا، بأن تفرض عليه ضريبة 8%، حتى لا يتميز عن المصنوعات الإنجليزية الأجنبية الواردة من الخارج، فانتدبت وزارة المالية موظفا يراقب حسابات المصنع، وعندما قرأ المستشار الإنجليزي قائمة الحساب، دهش لوفرة الأرباح التي تحققت لهذه الشركة، فرفع الضريبة إلى 35%.

وحتى مع هذه الضريبة الباهظة، لم يفلس المصنع، فماذا يفعل الإنجليز؟ ولم يطيقوا نجاح شركة إنجليزية للغزل والنسيج في مصر، وجدوا هذه الضريبة غير كافية لخراب المصنع، وحتى لا تكون قدوة لشركات أخرى، تنشأ إلى جانبها عمدوا إلى المدير الفني، وعينوه في منصب في الحكومة بضعفي المرتب الذي كان يتقاضاه سابقًا، ثم جاؤوا بمدير آخر، ولم تمض سنتان، حتى أقفل المصنع وبيعت آلاته وأدواته.

والقصة الأخرى، قصة مصنع الطرابيش الذي يملكه رجل مصري، اشترى أدواته، واستكمل آلاته، وأخرج طرابيش حسنة، تماثل الطربوش النمساوي، وتمتاز عليه بالثمن المنخفض، وساعده على النجاح، أن الحرب الكبرى قطعت عنا الواردات النمساوية، فأصبح المصنع محتكرًا لهذه الصناعة، وكثرت أرباحه، ولكن ما أن انتهت الحرب، وعادت الواردات، فماذا يفعل النمساويون؟ أرسلوا مموليهم، فاشتروا المصنع وهدموه”.

غير أنه نتيجة لقيام الحرب العالمية الأولى، وبسبب الاحتياجات العسكرية البريطانية، وانقطاع الواردات، قامت الحكومة بمبادرة للتدخل في الاقتصاد الوطني، فقد صدر قرار من مجلس الوزراء في عام 1916، بتكوين لجنة التجارة والصناعة، لدراسة أحوال الصناعة ومشكلاتها، ولقد كان 1920 بالنسبة للرأسمالية المصرية عامًا حاسمًا، وذلك لإنشاء بنك مصر كأول محاولة ناجحة لرأس المال الوطني، ولكن تجربة طلعت حرب في بنك مصر، التي بدأت في أعقاب ثورة 1919، تعثرت- كما سبقت الإشارة- بفعل الأزمة التي اصطنعها الإنجليز عام 1939، لشل قدرات البنك في مجال التصنيع الوطني المستقل، فافتعلت أزمة شارك فيها عبود باشا، وفرغلي باشا وأمين يحيى باشا والحكومة والبنك الأهلي (الذي كان محافظه إنجليزيا، ويقوم بوظيفة البنك المركزي)، مما أضطر طلعت حرب للاستقالة، فبعد أن قطع بنك مصر بقيادة طلعت حرب، خطوات مهمة في تشييد عدد من صروح الصناعة المصرية، استشعرت انجلترا الخطر من ضياع هيمنتها على السوق المصرية، وسعت إلى تشجيع بعض رجال الأعمال المصريين، ذوي الارتباط برأس المال الأجنبي، مثل أحمد عبود، وإسماعيل صدقي، وحافظ عفيفي، وغيرهم؛ لتنفيذ مشروعات صناعية منافسة لبنك مصر، أهمها صناعات السكر والأسمدة، بهدف حرمان البنك من فرص استكمال مسيرته لبناء صروح صناعة وطنية، تعتمد على مساهمات المواطنين، لتتعثر مشروعاته، وتبدأ رحلة معاناة، استمرت حتى قيام الثورة عام 1952.

أدرك قادة ثورة يوليو، أن اقتصادًا جٌل همه تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الصناعية، لا يعني سوى أن الذين يعيشون في ظله، ليسوا سوى مواطنين من الدرجة الثانية، لا يختلفون عن حالهم في ظل الاحتلال البريطاني، وليس هذا فحسب، بل إن اقتصادا كهذا ستتحكم فيه عوامل كثيرة، وسيظل اقتصادا تابعا للهيمنة الغربية.

ويذكر مايلز كوبلاند: “النموذج الاقتصادي الذي تقدمه أمريكا، ويرمزون له باسم (نبراسكا)، فيقول: “فلم يكن الأمريكيون يظنون أن الأوضاع في مصر، سوف تتغير تغيرًا جذريًا، فقد كانت نظرتهم أنها ستبقى اقتصاديًا، كما كانت تقريبًا قبل قيام الثورة، لكن مع تحسن وتقدم، في بعض جوانب الحياة ومعالمها، وأرادوا لها أن تلعب دور ولاية نبراسكا (الزراعية)، في حياة ولاية نيويورك (الصناعية)”، فقد ذكر الأمريكيون، أنه لن يكون بمقدور المصريين، صناعة أجهزة الراديو والسيارات، بنفس تكاليفها المنخفضة، والتي يمكنهم شراؤها من الدول الصناعية، يشتركون في ذلك مع أمم كثيرة، تخلفت في الصناعة، وأنه لن يكون هناك فرصة للحاق بالدول المتقدمة صناعيًا، ومهما كان تصميم المصريين، فإن الهوة بينهم وبين الدول الصناعية، ستزداد اتساعًا، ولن تضيق أبدًا، فليتمسك المصريون بتنمية مواردهم الطبيعية، ويبيعونها للأمريكيين بالعملة الصعبة، ويشترون بها المنتجات الصناعية التي هم في حاجة إليها، ومن الواضح، أنه نفس النموذج الإمبريالي الذي فرضه اللورد كرومر.

يقول روبرت مابرو: “عندما استولى الضباط الأحرار على مقاليد الأمور عام 1952، وجدوا أن توزيع الدخل لا يتسم بالتوازن على نحو كبير، ذلك أن هناك استقطابا في المجتمع المصري بين جماعة صغيرة من العائلات الغنية جدًا- بما فيها الأسرة المالكة- وبين السواد الأعظم من الشعب الفقير، وهي الصفة التي تشترك فيها معظم الدول المتخلفة، كانت قد تفاقمت في مصر، بسبب ملابسات تاريخية، وبسبب تكوين الإقطاعيات الواسعة عن طريق الهبات التي منحها الحاكم أو الدولة، ثم بعد ذلك عن طريق نظام الحرية الاقتصادية Laissez-Faire، وهو النظام الذي يتيح للأقلية الضئيلة، أن تستأثر بفوائد النمو الاقتصادي، وقد كان تركيز الثروة ظاهرًا، وأكثر ما يظهر في الأرض الزراعية، كما كان هذا الاحتكار هو السمة المميزة للقطاعات الأخرى في الاقتصاد، فسوق العقود الآجلة للقطن في الإسكندرية ، كانت محصورة في أربعة وعشرين بيتًا من بيوت السمسرة، كما أن صادرات القطن ، التي كانت تمثل أكثر من 80% من صادرات البلاد، كان يقوم بها عدد صغير من البيوت الكبيرة، التي يسيطر عليها عمالقة، مثل فرغلي باشا، ويحيى باشا، وروبرت خوري، وقلة آخرين، كما كان هناك ستة بنوك من الأربعة والعشرين بنكًا، العاملة في مصر عام 1952، تقدم 78% من القروض، وتحصل على 85% من الودائع، وقد كان بنك باركليز وحده يحصد 56% من الودائع.

لم يكن اهتمام الضباط الأحرار بالتنمية الاقتصادية قاصرًا على إعادة توزيع الملكية الزراعية والتوسع الزراعي، بل توحي التدابير التي اتخذوها خلال السنوات الأولى لحكم الثورة، بأن لهم أهدافا أخرى منذ البداية، وأول هذه الأهداف، كان يتعلق بتنويع هيكل الاقتصاد المصري أساساً من خلال التصنيع فبدأوا في المراحل الأولى بحفز الصناعة التابعة للقطاع الخاص، ومشاركة الحكومة في مشروعات صناعية جديدة، وزيادة معدلات الاستثمار العام في قطاعات الكهرباء والزراعة والخدمات الأساسية.

كذلك يقول روبرت مابرو: “كان الضباط الأحرار يدركون أن ندرة الأرض الزراعية، تمثل عقبة كبرى أمام التوسع الزراعي، كما أن ندرة الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة، تحد من فرص النمو الصناعي والنهوض بالاقتصاد عامة، وكان ما يعنيهم هو التنمية الاقتصادية، ورغم عدم استنادهم إلى أيديولوجية اقتصادية مسبقة، فقد كانت قراراتهم انعكاسًا لوجهات النظر، التي بدأ المثقفون والمصلحون المصريون الشبان، يطرحونها في الثلاثينيات والأربعينيات، التي دعت إلى تنويع الاقتصاد، والخروج من دائرة الاعتماد على تصدير القطن الخاضع لتقلبات الأسواق العالمية، والتحرر من نفوذ الجاليات الأجنبية على الاقتصاد، كما بدا الانتباه مبكرا لأهمية زيادة الدخل القومي، وتسريع معدلات التراكم الرأسمالي، التي استهلت بها الثورة الوليدة سنوات حكمها الأولى”.

يقول الدكتور عبد المنعم القيسوني، في بيان ألقاه على مجلس الأمة- عندما أُنشأت في مصر وزارة الدولة للتخطيط في عام 1957- أنه رغم تراكم أرصدة أجنبية، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وارتفاع أسعار القطن بفعل عوامل سياسية خارجية، فزادت قيمة الصادرات زيادة كبيرة، عانت مصر خلال السنين السبع العجاف 1945 – 1952 من غياب حكومات رشيدة، مما أدى إلى بعثرة الأرصدة، وحدوث مضاربات فردية في أقوات الناس وثروات الشعب، وتصارعت الأهواء فضاعت فرصة سانحة للتنمية، ولم يفلح إنشاء وزارة للاقتصاد، ثم مجلس استشاري اقتصادي في 18ديسمبر 1950، في تصحيح المسار.

وقد أخذت الثورة بنصيحة الأمم المتحدة، فألغت المجلس الاستشاري، وأنشأت «المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي» في أكتوبر 1952، كهيئة مستقلة يرأسها رئيس الوزراء، وتضم الوزراء المعنيين بمشاريع التنمية، وبعض الفنيين ورجال الأعمال، غير المدفوعين بمصالح خاصة. ومنحته عاما، يدرس خلاله مشاريع وفيرة الإنتاج ومنخفضة التكلفة ومرتفعة الأهمية للاقتصاد القومي، مع إعطاء أولوية لتوفير البترول والسكر والمنتجات الحيوانية والأسمدة والقمح، ويصوغ برنامجا، يكفل تنفيذه على مراحل سنوية، لا تتجاوز ثلاث سنوات ، تحت إشرافه ودون تقيد بالروتين، وغلبت عليه مشاركة القطاعين العام والخاص، إضافة للمصانع الحربية.
لقد كان إنشاؤه هو الخطوة التالية بعد شهر واحد من تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي، كهيئة مستقلة تعني بمشاريع التنمية، في الزراعة والكهرباء والنقل والتجارة والتصنيع، وإعادة تنظيم الأسواق المحلية، ضمن خطة لا تتجاوز ثلاث سنوات، يجري تنفيذها على مراحل بمشاركة القطاعين العام والخاص، إضافة للمصانع الحربية.

كما استحدثت الثورة مبدأ جديدا، هو تخصيص نسبة مئوية من نفقات المشروعات للأبحاث والدراسات، التي تم منها على سبيل المثال: حصر وتقويم الاحتياجات والموارد الصناعية- أبحاث الهيئة العامة لاستصلاح الأراضي- صناعة السيارات- صوامع الغلال- المقننات المائية والري الحقلي- الصرف- زيوت التشحيم- الحوض الجاف والترسانة البحرية- صناعة الورق- كهربة مصر كلها على مدى عشرين عامًا، ورُخص لذلك المجلس، بأن يبحث ويدرس المشروعات الاقتصادية، التي من شأنها تنمية الإنتاج القومي، كما أٌجيز له أن يحصل على الأموال اللازمة، عن طريق الاقتراض من البنوك المحلية والأجنبية، وكذلك أٌجيز له إنشاء المصانع منفردًا أو بالاشتراك مع الغير.

ومما يذكر أنه أقر مشروع السد العالي، كما أقر مشروع الحديد والصلب، ويذكر أنه في 11 إبريل 1949 ترك محمد صادق فهمي رئيس رابطة مصر/ أوروبا والمستشار السابق بمحكمة النقض، مذكرة للملك فاروق عن طريق سكرتاريته الخاصة، موضحاً فيها أنه قد أتيحت له فرصة الاتصال بالخبير الفرنسي في صناعة الحديد، وأحد أعضاء لجنة الخبراء الذين استقدمتهم الحكومة لبحث مشروع استغلال خام الحديد المصري في أسوان، ومؤكداً وأنه قد وقف منه على معلومات مهمة، رأى من واجبه، أن يرفعها إلى المسامع العلية، وتتلخص في: جاء فيها أن الخبير الإنجليزي كان صريحاً في مناهضة المشروع، حيث اتهم زميله الفرنسي بالغفلة، عندما رآه مهتما بعمل التجارب على الخام المصري، وقال له: هل نسيت ما ينشأ عن قيام صناعة الحديد الثقيلة هنا من الأثر في مصانع الغرب؟ ثم ختم صادق فهمي مذكرته، بأن الخبير الفرنسي قدم تقريره إلى وزير التجارة والصناعة، وسافر وهو ضعيف الأمل في قيم المشروع؛ بسبب التيارات المختلفة التي لمسها أثناء وجوده بمصر.

9 سنوات محاولات تحفيز وصراع مع رأس المال الخاص والأجنبي:

يقول الدكتور محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق: “ورغم أن الثورة منحت رأس المال الأجنبي حق امتلاك 51% من رأس المال، وأفسحت المجال للقطاع الخاص، فقد ظل الإقبال على المشروعات الصناعية ضعيفا، ولذلك تقرر في 1956 إنشاء وزارة للصناعة، تولاها مهندس كفء هو دكتور عزيز صدقي، ليقوم بوضع برنامج خمسي للتصنيع، وإنشاء المؤسسة الاقتصادية في عام 1957، لإدارة الشركات والمنشآت التي مُصِّرت عقب العدوان الثلاثي”.

لقد قامت الخطة على افتراض أن نشاط الأفراد الخاص سيكون النشاط الغالب في الاقتصاد القومي، وهو ما أدى إلى إهمال الصناعات الأساسية في استثمارات الخطة الأولى، إذ يميل النشاط الفردي بطبيعته إلى تحقيق أقصى ربح في أقل فترة ممكنة وبأقل المخاطر، بينما تستلزم الصناعات الأساسية فترة طويلة لتحقيق الأرباح، والتخطيط الاقتصادي يستلزم سيطرة الدولة على مواردها الرئيسية، وخاصة الصناعات التي تلعب الدور الرئيس في عملية الخطة، وتعاون بين القطاعين العام والخاص، والتشاور بينهما في رسم المشروعات المزمع تنفيذها، وهو تناقض ما لبث أن ظهر بوضوح أثناء تنفيذ الخطة.

كانت الرأسمالية المحلية لا تزال مسيطرة على قطاعات الاقتصاد القومي خلال العام الأول من الخطة، وهو ما تجلى في استحواذ القطاع الخاص على حوالي 83% من إجمالي الناتج المحلي، و88% من قوة العمالة في الاقتصاد المصري يوليو عام 1959/1960؛ ونظرًا لأن الرأسمالية كانت تشكل مصدرًا هامًا لغالبية عوائد البلاد والنقد الأجنبي والمدخرات القومية، فلقد تقرر في الخطة عند تحديد دور القطاع الخاص، أن يقوم بتمويل 40% من استثمارات السنة الأولى، وأن تصل مدخراته في نهاية الخطة إلى 55% من مجموع التمويل الداخلي المطلوب.

من جهة أخرى، أعلنت الرأسمالية المصرية الحرب الاقتصادية على الحكومة، في بورصة الأوراق المالية عام 1959، عندما شرعت في بيع الأسهم والسندات لإحداث هزة اقتصادية ومالية عنيفة، لتخريب خطة التنمية الصناعية الأولى (1957 – 1961)، بعد صدور قانون الأرباح التجارية في يناير 1959، والذي ألزم الشركات بشراء سندات الدولة، وتحديد الأرباح الموزعة سنويًا، ولكن النظام آثر أن يترك للرأسمالية المصرية فرصة أخيرة؛ كي تقرر مصيرها، عندما بدأ في تنفيذ الخطة الخمسية الأولى للتنمية الشاملة 1960– 1965، وعوًل على القطاع الخاص في توفير 40% من جملة استثمارات السنة الأولى، و70% من استثمار السنتين الأوليين، و55% من مجموع التمويل المحلي للخطة كلها، ولكن رجال الأعمال لم يستجيبوا لنداءات وإغراءات النظام لأداء الدور المنوط بهم في الخطة، التي سارت بطيئة في عامها الأول.

ولما أدرك النظام، أن السير بالخطة في ظل سيطرة الرأسمالية المصرية الكبيرة المتلكئة، على الإنتاج القومي سيرفع تكاليفها بنسبة 35%، اتجه لاستكمال القطاع العام بالتأميم، حتى يكون قادرًا على قيادة عملية التنمية وتنفيذها.

قبل بدء الخطة الخمسية الأولى في يوليو عام 1960، وعندما أدركت الحكومة، أن بنك مصر لا يبدي مرونة أو استجابة، مع الأهداف التي تضمنتها خطة التنمية والمتعلقة بشركات البنك، ومحاولته الالتفاف حولها وتهديدها، بطرح ما يملكه من أسهم في سوق الأوراق المالية، بشكل يؤدي لاضطرابها، ومن ثم هز الاقتصاد المصري، لذا قررت الحكومة في 13 فبراير 1960 تأميم البنك، وتمكين الدولة من السيطرة على شركاته التي كانت تتولى إنتاج 20% من الإنتاج الصناعي، دون مساس بمساهمات الأفراد، وأنشأت مؤسسة مصر لتشرف على البنك وشركاته لتأمين عملية التخطيط، ووضع مصادر التمويل في خدمة التنمية الاقتصادية.

وهذا ما أكده الدكتور عبد المنعم القيسوني في تقرير الموازنة العامة لعام 1960-1961، “كانت هناك حاجة ملحة لتأميم بنك مصر؛ لأنه يضم تركيزًا ضخمًا للسلطة، وأن إساءة استعمال هذه السلطة لا بد أن يؤدي إلى ردود فعل هدامة في الاقتصاد”، فقد كان بنك مصر أكبر مصرف تجاري في يد القطاع الخاص، تحول إلى مركز احتكاري رئيسي، يتحكم في الاقتصاد المصري، بعد أن أصبح يمثل 40% من حجم النشاط المصرفي في السوق المصرية، وزاد من خطورة الاحتكار الذي يمثله بنك مصر، أن 50 مساهما من حملة أسهمه كانوا يمتلكون نحو 42% من مجموع أسهم البنك، منهم عشرة مساهمين فقط، كانوا يملكون 20% من رأسماله، منها 14% كان يمتلكها عبود باشا وحده.

وبعد تأميم بنك مصر بساعات أعلن عن تأميم البنك الأهلي المصري ونقل ملكيته إلى الدولة، وتم إنشاء بنك مركزي، آلت إليه الأصول والخصوم الخاصة بالإصدار النقدي في البنك الأهلي المصري، حيث أدت هيمنة الأطراف الأجنبية على البنك الأهلي، الذي كان مسئولا عن إصدار العملة، إلى المشاركة في ضغط القوى الاستعمارية على حكومة الثورة، للالتحاق بحلف بغداد، برفضه تدبير الائتمان اللازم لتسيير شؤون الدولة، فأصدرت قانونا، يلزمه بوضع ما في حوزته من نقد أجنبي تحت تصرفها، كما قد تركزت عملية التمصير على البنوك وشركات التأمين ووكالات الاستيراد، وأنشأت «المؤسسة الاقتصادية» لتشرف على المنشآت التي آلت ملكية أنصبة فيها للحكومة.

وقد فتح تأميم البنكين الباب أمام نظام الثورة، لتأميم كل ما يعترض سبل تنمية المجتمع المصري التي كان ينشدها، فتقرر تأميم جميع الصحف المصرية في يونيو عام 1960، بعد اتهامها بتضليل وتشويه الأنباء بصورة معادية للثورة”.

ويبدو أن نظام يوليو كان قد اكتفى، بما حدث من تأميم عام 1960، ليكون إنذارًا لرجال الأعمال بخطورة التخلي عن مشاريعه التنموية، باعتبار أن هذا التخويف قد يدفع رجال الأعمال إلى الإذعان لسياساته الاقتصادية، وراح الرئيس عبد الناصر ووزراؤه، يُذَكرون القطاع الخاص بالدور الهام الذي يتحتم عليه تأديته لنجاحها، حتى أنه وصف الخطة في خطاب ألقاه في مؤتمر الاتحاد القومي، بأنها أداه لتشجيع رأس المال الخاص، وتوجيهه بعيدًا عن الاستغلال والاحتكار، كما حذر عبد اللطيف البغدادي القطاع الخاص من الانحراف، ودعاه إلى التجاوب السريع والواعي مع توجيه السلطات، وتجنب متاعب إجبار الحكومة على اتخاذ إجراءات أشد قوة وأكثر تطرفًا، قد تجد الحكومة نفسها مضطرة لاتخاذها، لصيانة الأهداف الأساسية للخطة وحمايتها.

ورغم اقتصار عملية التأميم على بنكي مصر والأهلي في فبراير 1960، فقد تواصلت مخاوف رجال الأعمال، بسبب إقدام وزارة التموين على الدخول في تجارة التجزئة، وتأسيس مجموعة من الجمعيات التعاونية الاستهلاكية، لتنافس حوانيت البقالة، وتخفيض أسعار المواد الغذائية، التي تستهلكها الطبقات الفقيرة.

وبعد أن درست الحكومة مجمل ما قام به القطاع الخاص من إنجاز في السنة الأولى من الخطة، أقدمت على تأميم تجارة القطن والإمساك بها، عندما أغلقت سوق القطن، وفي الذكرى التاسعة للثورة، قامت الحكومة بتأميم شطر كبير من الممتلكات الصناعية والتجاري، ورغم موجة التأميم الجارفة التي بدأت في يوليو 1961، والتي كان وقعها شديدًا على رجال الأعمال، فإن النظام ظل يؤكد على أن التنظيم الاقتصادي في مصر، لا يتطلب تأميم جميع وسائل الإنتاج، أو إلغاء الملكية الخاصة إلغاءً كاملًا، وإنما يسعى إلى خلق قطاع عام قادر على قيادة التقدم في جميع المجالات.

وكان من أخطر مجالات التلاعب أسعار الأدوية، عن طريق وكلاء في دول غير منتجة كاليونان، لتهريب الأموال على حساب إرهاق المرضى برفع الأسعار، فتقرر سيطرة الهيئة العامة للأدوية على استيراد الأدوية، ثم تعثر تمويل آخر مشروعات مجلس الإنتاج، وهو شركة راكتا للورق عند طرح أسهمها للاكتتاب.

وهكذا كان الاتجاه في البداية هو فتح المجال أمام القطاع الخاص لقيادة التنمية الصناعية، إلا أنه كان أسيرًا لإشكالية نشأته، من طبقة كبار الملاك في ظل احتلال أجنبي، فاستمر عاجزًا عن القيام بالمبادرات الاقتصادية والاستثمارات الضرورية، وظلت تحكمه دوافع الربح السريع، فلم يتحرك في إطار استراتيجية لتطوير الصناعة، والسيطرة على السوق المحلي، من خلال بناء صناعات تنتج سلعًا صناعية، مناظرة للواردات الصناعية المصرية، ضمن ما يسمى بسياسة “الإحلال محل الواردات”، أو من خلال صناعات تصديرية ضمن استراتيجية تقوم على “الإنتاج للتصدير”، فكان حصاد القطاع الخاص هزيلًا، ولقد تركزت الاستثمارات الخاصة، في قطاع الخدمات التعليمية، والعقارات، وبعض الصناعات الغذائية، والجلود، والأثاث، والملابس الجاهزة، والطباعة، ولم تتجه إلى المجالات التي كانت مصر تحتاج لتركيز الاستثمارات فيها، وبالتحديد قطاع الصناعات الثقيلة، والهندسية، والكيماوية، والحراريات، والسلع الاستهلاكية الضرورية والمعمرة.

ولأن نفس المجموعة من الأشخاص، كانت تسيطر على كل من القطاعين الزراعي والصناعي، برغم أن الحكومة سعت جاهدة، لبث الطمأنينة في قلوب رجال الصناعة- بإعلانها أن الإصلاح الزراعي لم يكن هجومًا اقتصاديًا أو فلسفيًا على الملكية الخاصة- فإنها لم تنجح في ذلك، ومن ثم كانت الضربة الموجهة للأرستوقراطية الريفية موجهة أيضًا- ولو دون قصد- إلى كبار الرأسماليين، الذين تلقوها في صمت، وتظاهروا بالتعاون مع النظام كسبًا للوقت، وهو ما جعل مصير الهدنة محددًا منذ البداية، فلم يكن كبار الرأسماليين المصريين، يثقون في الضباط الذين صادروا ممتلكاتهم الزراعية، وقاموا بحل أحزابهم السياسية التي يعملون من خلالها.

كما تجلى تعنت الرأسمالية الاحتكارية، في تخلف عبود (باشا) عن تسديد الضرائب المستحقة عليه، فُفرضت الحراسة على شركتي السكر والتقطير مقابلها، وأعيد تنظيم الشركتين في شركة واحدة، تمتلك الحكومة نصف رأسمالها عام 1955.

ويمكن حصر الصناعات الجديدة التي أنشأت في مصر بعد قيام الثورة في: (صناعة الحديد والصلب من الحديد الخام– صناعة عربات السكة الحديد بالقرب من مصنع الحديد والصلب– صناعة الكابلات والأسلاك الكهربائية– صناعة البطاريات الكهربائية– صناعة العدادات والمحركات الكهربائية والثلاجات الكهربائية– صناعة البوتاجاز– صناعة إطارات السيارات– صناعة أجهزة الراديو- صناعة المواسير– مصنع الورق– صناعة السيارات وأجهزة الخياطة)، كما قامت الثورة بالتوسع في الصناعات الآتية: (صناعة الغزل والنسيج – صناعة الحرير – الصناعة الغذائية– الصناعات الكيماوية- صناعة الأدوية– صناعة الصلب من الخردة– صناعة الجوت– صناعة الزجاج– صناعة الخزف والصيني– صناعة المنتجات الخرسانية).


كانت خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسنوات الخمس 60/1961 – 64/1965، من أهم الإنجازات على المستويين المصري والعربي، بل والعالم الثالث، ومثّل الإعداد لها كأول خطة قومية سباقا مع الزمن والفكر، ومن ثم حقق الاقتصاد القومي نموًا حقيقيًا، زاد على 6%، وارتفع مستوى الدخل الحقيقي للفرد بأكثر من 3% سنويًا، بعد ركود في متوسط الدخل لأكثر من أربعين عامًا.


واقترن كل ذلك بتحسن ملحوظ في نمط توزيع الدخل، فارتفع نصيب الأجور الزراعية في إجمالي الدخل الزراعي من 25% في بداية الخطة إلى 32% في نهايتها، وزاد متوسط الأجر الحقيقي في الزراعة والصناعة، بنسبة 34% و12% على التوالي خلال نفس الفترة.

ثورة التنمية البشرية عبر نشر التعليم والعلاج المجاني:

بعد عام واحد من تأسيس المجلس الدائم لتنمية الإنتاج السابق الإشارة إليه في أكتوبر 1952، كان إنشاء المجلس الدائم للخدمات العامة في أكتوبر1953، كهيئة مستقلة تختص بخطط النهوض بالتعليم والصحة والخدمات الأساسية عامة، وكان ذلك ضروريا بعد إهمال التعليم العام إلى حد كبير، في ظل حكم الاحتلال البريطاني، حسب شهادة روبرت مابرو، وقد رصدت له الأموال المصادرة من العائلة المالكة.

يقول كمال الدين حسين: كنا نضع الاهتمام بالتعليم كأحد أهم أولويات الثورة، وأحد أهم المكتسبات التي ينبغي أن يشعر أنهم قد نالوها بعد قيام الثورة، كنا نؤمن جميعًا بعبارة طه حسين، أن التعليم كالماء والهواء، وكنت أنا شخصيًا متأثرًا بتجربة محمد علي في النهضة بالتعليم في مصر، وكنت مدركًا لتأثير هذا على النهوض بمصر بشكل عام، وفي سبيل أداء هذا الواجب، عمدت إلى تغيير مفهوم وزارة المعارف إلى التربية والتعليم، وتوليت الوزارة التربية والتعليم، منذ عام 1954 وحتى عام 1961، وقد درست جميع العوامل التي تؤثر في هذه المهمة، وحرصت على عدم الانفراد بالقرارات، بل عملت على أن يرسم المتخصصون من رجال التربية والتعليم، الخطة اللازمة بعد هذه الدراسة، وكانت الموضوعات التربوية والفنية، تقدم كمقترحات من كل من: دكتور عبد العزيز القوصي المستشار الفني للوزارة، ودكتور خليفة بركات، ودكتور رأفت نسيم، وم. خليل كامل . وفي التعليم الفني دكتور علي شعيب، الذي أصلح التعليم الفني، وأنشأ المعاهد الفنية العليا، الصناعية والزراعية والتجارية، وكانت هذه المقترحات تعرض أولًا على مجلس الوكلاء والفنيين، وكان لا يتخذ قرار التنفيذ النهائي، إلا بعد تجربتها على مدرسة يتم اختيارها لذلك.

ولقد كانت ثورة تعليمية شاملة، شملت إنشاء المدارس (الابتدائية والإعدادية والثانوية) والجامعات والمعاهد العليا، وإنشاء معاهد إعداد وتدريب المعلمين، وإرسال البعثات العلمية لوزارة التربية والتعليم، حتى يتوفر العدد الكفء والكافي من المدرسين لجميع المراحل، وكان هناك عجزًا كبيرًا في هذا المجال، وكذلك بالنسبة للبرامج التعليمية، وأدوات المعامل والمكتبات والوسائل السمعية والبصرية، وفي هذا المجال وتنفيذًا لخطة الثورة في نشر التعليم، لينعم به كل مواطن دون تفرقة، كان يتم بناء المدارس بمعدل مدرستين كل 72 ساعة.

في سنة 1955، بعث لي أستاذ مساعد بكلية العلوم- جامعة الإسكندرية دكتور عبد الفتاح إسماعيل برسالة، يقترح فيها، أن يتم القبول في الجامعات وفقًا لرغبة كل طالب وحسب مجموع درجاته، فبعثت في طلب مقابلته، وناقشته في اقتراحه، وتمت إحالة الاقتراح للمجلس الأعلى للجامعات الذي أقره؛ ولكي تتم خطة الثورة في نشر العلم، تم إنشاء مجلس أعلى للعلوم، ليضم نخبة من خيرة رجال العلم، ثم إنشاء أول مركز للبحث العلمي المجلس الأعلى للفنون والآداب؛ ليرعى من يشاركون فيه من عمالقة الأدب والثقافة ومختلف الفنون التي تعتز بها مصر، كل هذا بخلاف إنشاء جامعة الأزهر، بمختلف تخصصاتها ، التي أثرت الحياة التعليمية.

وعلى هذا، فقد بقي من أعمال الثورة، بجانب السد العالي الذي يحمي البلاد من الجفاف والعطش، وقناة السويس التي تُدِر على البلاد نحو 7 مليارات دولار سنويًا، فهناك تحويلات المصريين العاملين في الخارج، والتي تُدِر نحو 35 مليار دولار، وهم الذين تعلموا وتدربوا في مدارس وجامعات ومصانع ومستشفيات ثورة 1952، وعمومًا تبقى الطبقة الوسطى، بكل ما تعاني أمل التغيير والإصلاح.