ظلت قوائم أصحاب الثروة في مصر قاصرة على عائلات بعينها، معروفٌ عنها توارث الثروة أبًا عن جد من مصادر معلومة وأنشطة محددة، لكن على مدار السنوات العشر الأخيرة، ظهرت طائفة من الأثرياء الجدد الذين طفت أسماؤهم على السطح فجأة، دون أسباب واضحة لكيفية تراكم ثرواتهم أو طريقة تحقيقها.
تضم قائمة السنتي مليونير بمصر حاليًا (من يملكون 100 مليون دولار لأقل من مليار دولار) نحو 49 شخصا، بينهم 27 شخصًا، يقيمون بالقاهرة، تحتل بهم مصر المرتبة الأولى إفريقيا.
بحسب شركة “هينلي وشركاه”، التي تتبع تحركات أكثر من 150 ألف فرد من أصحاب الثروات الكبيرة في قاعدة بياناتها الداخلية، فإن من يملكون مليون دولار فأكثر (50 مليون جنيه فأكثر) بمصر يبلغ عددهم 14.8 ألف شخص.
يوجد 7 من أصحاب الأصفار التسعة في قائمة المليارديرات بالدولار (أقلهم 50 مليار جنيه مصري)، وهي قائمة لا تتغير إلا في الترتيب، فيما بينهم، ومعروفون ويحتلون مكانة بقائمة الأعلى عالميًا، أولهم ناصف ساويرس بصافي ثروة ٩٫٦ مليارات دولار، يليه شقيقه نجيب بـ5 مليارات دولار، ثم محمد منصور بـ3.4 مليارات دولار، ثم يوسف منصور بـ ١٫٤ مليار دولار، ثم ياسين منصور بـ1.2 مليار دولار.
الخريطة تتغير
تضم قائمة أصحاب المليارديرات بالجنيه في مصر عائلات شهيرة مثل، “جبر” و”غبور” و”السويدي” و”خميس” و”الملا” و”عز” و”طلعت مصطفى“، وصبور، وكلها ذات أنشطة صناعية وعقارية متعددة، وتراكمت ثرواتها على مدار أجيال متعاقبة.
لكن فروق سعر الصرف بين الجنيه والدولار، جعلت “السنتي مليونير” بالدولار، من أصحاب المليارات بالجنيه، فأقلهم تعادل ثروته 5 مليارات جنيه. وفي السنوات العشر الأخيرة، تغيرت المفاهيم، ظهرت أسماء فجأة بدون سابق إنذار، مستفيدة من الأوضاع التي شهدتها البلاد من تغير أنماط المعيشة، وتحرير سعر الصرف الذي غير معادلة المليونيرات، فمن يملك 21 ألف دولار فقط، صار مليونيرًا.
الاستهلاك في البطون واستغلال الميديا
ساهم الانتشار المستجد للطعام السريع “الفاست فوود” وثقافة توثيق تناول الطعام عبر الهواتف المحمولة وتوصيات “الفود بلوجرز” في خلق طائفة جديدة من المليارديرات من رجال “الشاورما والمشاوي” مثل أحمد الباز، ومؤمن عادل، اللذين انضما لعالم الأصفار التسعة عبر سلسلة من المطاعم، لا تقدم منتجا مختلفا، إلا أنها أجادت اللعب بالتسويق الجيد، وجذب كبار المشاهير لتحريك طلب أجيال التصقت أصابعها بشاشات المحمول.
“مؤمن عادل”، كان طبيبا بيطريا تحول فجأة إلى رجل أعمال مشهور، يملك مطاعم للشاورما السوري، وسلسلة حلويات شهيرة، وفروع للجمبري ومأكولات البحر.
في أزمة محلات “بلبن“، أجرى عادل تسوية مع مصلحة الضرائب بقيمة 140 مليون جنيه عن الفترة التي قضتها سلسلة محلات بلبن التي افتتحها عام ٢٠٢١، ما يعني أن أرباح تلك المحلات السنوية الصافية لا تقل عن 150 مليون جنيه على الأقل.
الفكرة ذاتها، تكررت مع صبحي كابر، فحينما تعرض لعملية نصب كبرى، تبين قيمة ثروته، فصفقة ذرة واحدة لمزرعته، قدرت بنحو 125 مليون جنيه.
ما زلنا مع صبحي كابر أيضا الذي كشفت صفقة بيع مطعمه الشهير التي قدرت بـ300 مليون جنيه عن رجل أعمال آخر غير مشهور، وهو هشام الإمام.
السوشيال.. أرباح من الهواء
مع تكثيف وزارة الداخلية حملاتها على البلوجرز واليوتيوبرز والتيك توكرز، انكشف طبقة جديدة من المليونيرات بمصر، تجمع بين الربح من المشاهدات وأنشطة أخرى، تتعلق بغسل الأمور، كالبلوجر مداهم الذي تم اتهاته بغسـل 65 مليون جنيه متحصلة من نشاطه فى ترويج مقاطع فيديو، تُمثل ما جرى وصفه بالاعتداء على قيم ومبادئ المجتمع، بحسب بيانات الأجهزة الأمنية.
الأمر ذاته يتكرر مع محمد شاكر ضابط الشرطة المستقيل الذي يعتبر أشهر تيك توكرز في مصر، وتبلغ أرباحه اليومية مليون جنيه، بما يعادل 30 مليون جنيه في الشهر الواحد، وزميلته سوزي الأردنية المتهمة بغسل 15 مليون جنيه، وأم سجدة التي يتم التحقيق معها حاليًا في قضايا غسل أموال بشراء شقة في مدينتي وسيارة.
العصر الذهبي لـ”تجار الذهب”
في سوق الذهب، تظهر الثروة التي حققها أصحاب المحلات في العشر سنوات الأخيرة، والتي كانت الأعلى في التاريخ، فالمكاسب كانت مضاعفة في ظل عمل تجار الذهب في الدولار والمعدن النفيس معًا، فالدولار ارتفع من مستوى 15.61 جنيها في 2021 إلى مستوى 70 جنيهًا، قبل أن يستقر عند مستويات 48 جنيها حاليًا.
بحسبة بسيطة، فإن من كان يملك 20 ألف دولار في 2021 من تجار الذهب، كانت قيمتها 312 ألف جنيه، لكن لو احتفظ بها حتى العام الماضي حقق مكسبًا بقيمة 728 ألف جنيه، دون أن يبذل أي مجهود.
الأمر نفسه ينطبق على المشغولات، فتاجر الذهب الذي كان يملك قبل نوفمبر 2016 نحو كيلو ذهب واحد من عيار 24، حقق من فروق العملة وارتفاع الذهب عالميًا مكسبًا حوالي 5.3 ملايين جنيه (الكيلو قبل التعويم كان بـ 567 ألف جنيه، وأصبح حاليًا بـ 5.8 مليون جنيه).
موسم مكاسب رجال التسقيع
الطفرة الكبيرة لأسعار الأراضي خلقت موجة من الأثرياء الجدد، فمتر الأرض ارتفع من 4 آلاف جنيه للمناطق المميزة قبل 2016 إلى 100 ألف جنيه في بعض الأماكن حاليًا، وبعض المشروعات العقارية حققت عائدًا وصل إلى 500% للمضاربين فيها خلال 8 سنوات فقط.
“فورة العقار”، جذبت معها طبقة من المضاربين الذين يتزاحمون للحجز في عدد من المشروعات في وقت الإطلاق “اللونشينج”، على أن يتخلصوا بعدها من تلك الوحدات والاستفادة من فارق السعر.
لم تهتم الشركات العقارية بتلك الظاهرة، فما يهمها في الأساس البيع، لكن عندما ارتفعت أسعار بعض المشروعات بشكل مفرط، أرادت هي الأخرى الاستفادة، فابتكرت الريسيل وإعادة شراء الَوحدة من العميل مع هامش ربح.
وألزمت بعض الشركات العميل حال بيع الوحدة السكنية لطرف ثالث بسداد رسوم تنازل كشرط لنقل الملكية، تمثل نسبة تتراوح بين 4,2% من قيمة العقد، في محاولة لتحقيق مكاسب إضافية.
بحسب مكتب “جيه إل إل” (JLL) للاستشارات العقارية بمصر، فإن أسعار العقارات السكنية ارتفعت 89% في الربع الأول من العام الحالي على أساس سنوي، وهي مكاسب أغرت الكثيرين للمضاربة في العقارات، خاصة في أوقات التضخم المرتفعة وتآكل القوة الشرائية للجنيه.
مشروعات البنية التحتية أيضًا خلقت طبقة من الأثرياء الجدد بين المقاولين في القاهرة والمحافظات الذين وجدوا أمامهم سيلا من الأعمال، وتوسعوا واستعانوا بشركات من الباطن، تلك الأسماء الجديدة، أصبح مظاهر بذخها حاضرا في مجتمعات الساحل الشمالي، وماركات سيارات لا تقل الواحدة فيها عن 30 مليون جنيه.
هاني توفيق، الخبير المالي، تحدث عن تلك الظاهرة؛ مطالبًا بوجود مندوبين من مباحث التهرب الضريبي، والأموال العامة، ومن أين لك هذا، على أبواب كل قرية لضبط الوضع في الساحل الشمالي، موضحًا أن ذلك الأمر لو حدث سيقل عدد السكان الزائرين لـ 10% فقط.
مظاهر تكشف عن طبقة من محدثي الثراء
قبل أسابيع، تم عرض قصر للبيع بقرية مراسي بالساحل الشمالي بمبلغ مليار جنيه، وهذا الرقم يعادل تقريبًا 20 مليون دولار أمريكي، وفي حفلات الصيف بيعت تذاكر حفل عمرو دياب من فئة الـ100 ألف جنيه في ساعات قليلة.
خلال عام 2025، استقبلت المواني المصرية 40 سيارة ماركة «فيراري» سعر الواحدة منها 20 مليون جنيه، ومنها 25 سيارة دخلت مدينة المنصورة فقط، ما يظهر طبقة من أغنياء الظل تتشكل بمحافظات «الوجه البحري» بعيدًا عن التركيز الإعلامي على نمط الحياة في القاهرة.
تظهر الزيادة الكبيرة في الطلب على السيارات الرياضية والفاخرة تزايدًا بعدد السكان الأثرياء، إذ تحتل مصر المرتبة الرابعة في المنطقة بالطلب على تلك السيارات، بحصة تبلغ ١٣.٢١٪ ، بعد السعودية (27.59%)، وتركيا (16.49%)، والإمارات العربية المتحدة (16.89%).
ارتفع حجم سوق السيارات الفاخرة في مصر، من 3.5 مليارات دولار في 2021 لـ4.4 مليارات دولار مع توقعات بنموها إلى 6.7 مليارات دولار في 2033، بسبب النمو الكبير في أصحاب الثروات.
هبوط الجنيه يزيد أثرياء المهجر
تسبب فقدان الجنيه المصري لكثير من قيمته في تشكيل طبقة جديدة من أصحاب الثروات بين المصريين في الخارج، فمن كان يتقاضى ألف دولار يعادل 15.5 ألف جنيه في 2016، أصبح دخله فجأة 48.2 ألف جنيه، بسبب الإضعاف المستمر لقيمة الجنيه.
لذلك تضاعفت تحويلات المصريين بالخارج خلال 10 سنوات لتسجل 36.5 مليار دولار عام 2024/ 2025، مقارنة بـ17.1 مليار دولار عام 2015/ 2016. كما سجلت 3.8 مليارات دولار في يوليو 2025، وهو أعلى مستوى شهري يتم تسجيله على الإطلاق.
سجلت التحويلات 21.9 مليار دولار في 2023/ 2024، و22.1 مليار دولار في 2022/ 2023، و31.9 مليار دولار في 2021/ 2022، و31.4 مليار دولار في 2020/ 2021. وترجع تلك الارتفاعات؛ بسبب انخفاض الجنيه، وإقبال المصريين على شراء العقارات بمصر.
الأموال القذرة.. من يفر يصبح مليونيرًا
لا يمكن إغفال حقيقة وجود قطاع من الأثرياء، بنوا ثرواتهم من الأنشطة غير الشرعية في مصر، خاصة تجارة المخدرات، وهو أمر تكشفه ضبطيات الداخلية، الخميس الماضي، أعلنت الأجهزة الأمنية ضبط 26 عنصرًا جنائيًا، تورطوا في غسل 1.3 مليار جنيه من تجارة المخدرات عبر شركات وهمية وشراء عقارات ومركبات.
قبل شهور، أحالت النيابة العامة مذيعة شهيرة للمحاكمة بتهمة التورط في جلب المخدرات الاصطناعية من خارج مصر، وإعادة تصنيعها وتخليقها في البلاد بالتعاون مع آخرين، وبلغت قيمة المضبوطات المالية 1.2 مليار جنيه.
بعض الثروات تتولد أيضًا من أعمال التنقيب غير المشروع عن الآثار، فعلي سبيل المثال، ضبطت وزارة الداخلية الشهر الماضي 577 قطعة أثرية في حيازة تاجر أدوات منزلية مقيم بمحافظة المنيا، من بينها تماثيل وتمائم وأوانٍ وعملات معدنية، تعود لعصور تاريخية قديمة، وذلك بعد أشهر من ضبط شخصين بذات المحافظة بحوزتهما 360 قطعة أثرية ومومياوات معدة للإتجار.
في أغسطس 2025، أحبطت إدارة الأمن الجمركي بميناء نويبع البحري تهريب شاحنات متجهة إلى خارج البلاد، تتضمن مخزن سري أسفل كابينة القيادة لسائقه الأجنبي، وبها 2189 قطعة أثرية متباينة الأحجام والألوان من عصور متعددة، بجانب مجوهرات فرعونية نادرة من خواتم وبروشات وأقراط، وقدرت اللجنة القيمة الأثرية للمضبوطات بحوالي 3.578 مليارات جنيه.
المعهد المصري للدراسات يقول، إن ما يتم الإعلان عنه أو ضبطه من قبل الجهات المختصة، لا يمثل كل الواقع الفعلي، ما يشير لوجود قضايا، ينجح مرتكبوها في جني ثروات من تهريب الآثار للخارج، والحصول على ثروة ضخمها، يتم غسلها في أنشطة مشروعة مثل العقارات أو السيارات.
وكشفت النيابة العامة، أخيرًا، عن إحالة النائب العام المستشار محمد شوقي خلال العام القضائي الحالي، 237 قضية غسل أموال إلى محكمة الجنايات الاقتصادية بنحو 7 مليارات و748 مليون جنيه بجانب 319 مليون دولار أمريكي بإجمالي 23.1 مليار جنيه.






