تلخيصا للمقالات الثلاث السابقة، ولكي يسهل علينا تصور الاقتراحات التي سترد في هذا المقال لاستعادة التوازن الإقليمي، ومقاومة وإسقاط المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، فلنتذكر معا أننا في المقال الأول أوردنا الأسباب الجيوبوليتيكية المحضة التي تكفي وتزيد، لكي ترفض مصر هذا التفوق الإسرائيلي الكاسح في الإقليم، ولكي تقاوم بكل الوسائل مشروع إسرائيل الكبرى، حتى من دون أي اعتبار أيديولوجي قومي أو ديني، وفي المقال الثاني، رأينا أن الغارة الاسرائيلية على قطر أسقطت وهم القيادة الخليجية المنفردة للنظام الإقليمي العربي، وذلك بدلا من القيادة المصرية، التي انتهى دورها في رأي أصحاب نظرية اللحظة الخليجية، علما بأن قيادة مصر للنظام العربي كانت دائما-في تحليلنا- تشاركية، وإن اختلفت النِسب، سواء مع الدول التي كانت تسمى ثورية مثل سوريا والعراق والجزائر، أو بعد ذلك مع الدول المحافظة، خاصة السعودية والمغرب، ثم أثبتنا في المقال الثالث أن مشروع إسرائيل الكبرى ليس مجرد وهم أو أضغاث أحلام، كما يُمني البعض عندنا أنفسهم، ولكنه مشروع بدأت مقدماته بالفعل، وله أكثر من مرحلة وأكثر من مفهوم.
قلنا في ختام المقال الثالث، إنه لا بد للإقليم وللدول العربية من البحث عن مسار جديد في مواجهة هذا الخطر الماثل، وبالتأكيد فلم يكن ذلك نسيانا أو تجاهلا لمأساة حرب الإبادة الجماعية والتجويع الاسرائيلية في غزة، بل كان انطلاقا منها، بما أنها وفرت لإسرائيل، ولإدارة الرئيس الأمريكي الحالي الفرصة للحديث علنا عن الترحيل الجماعي لسكان غزة، تذرعا بالأسباب الإنسانية، وبما أن الترحيل- الذي إن بدأ في غزة سيمتد الي الضفة الغربية- هو الشرط الأول والرئيسي لبدء تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى، وذلك بضم الضفة الغربية دون مخاطرة بذوبان الهوية اليهودية في دولة ثنائية القومية، أو السقوط في خانة نظم التفرقة العنصرية فعلا وقانونا.
في الوقت نفسه، كان في خلفية تفكيرنا أن الحرب الإسرائيلية المجنونة على شعب غزة أجهزت على مقولة اللحظة الخليجية، حتى من قبل الغارة على قطر، من حيث أنها قضت عل مشروع تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبين المملكة العربية، كما قضت عل المشروعات التمهيدية، لهذا التطبيع، تحت مسميات مختلفة ومفتعلة، من طراز صفقة القرن، والناتو العربي والشرق الأوسط الجديد، ثم الكبير فالموسع!!!
كان تطبيع العلاقات مع السعودية، واعترافها بإسرائيل هو الجائزة الكبرى للدولة اليهودية، ليس فقط لأنه سيؤدي تلقائيا إلى اجتذاب دول إسلامية كبيرة ومهمة للاعتراف بإسرائيل، وأهمها طبعا باكستان وإندونيسيا وماليزيا، ولكن الأهم من ذلك في نظري، أن هذا التطبيع كان سيحول دون إحياء التوازن الإقليمي في مواجهةً التفوق الإسرائيلي التوسعي تحت القيادة المشتركة لمصر والسعودية، كمقدمة لإعادة ترتيب شاملة لقواعد الأمن والتعاون في الشرق الأوسط، بما يتسع لتركيا التي يهددها ابتلاع إسرائيل لسوريا استراتيجيا، كما يهددها مشروع ممر داود الذي قد يمكن الإسرائيليين من إقامة قاعدة عسكرية كبرى في المنطقة الكردية بالشمال السوري، على نحو ما شرحنا في المقال السابق مباشرة، وهو ما سيؤدي- ضمن مخاطر أخرى- إلى تشجيع النزعة الانفصالية لدى أكراد تركيا.
مثل هذا الترتيب يتسع أيضا لكل من سوريا بعد تثبيت أوضاعها، وهو ما سنتناوله توا، وكذلك العراق بعد التفاهم الشيعي السني هناك، وفي انتظار التفاهم السعودي (الخليجي) الإيراني، والتفاهم الأمريكي الإيراني.
عند هذه النقطةً، يلزم أن أوضح انني لا أتحدث عن تحالفات عسكريةً بين كل هذه الأطراف، فتلك مرحلة متقدمة، تتطلب تغييرات كبيرة في علاقات الدول الكبرى، وإنما الحديث هو عن ترتيبات سياسية، ترسخ مجموعة من القواعد، تبدأ بنبذ إسرائيل، حتى تعترف بحق الشعب الفلسطيني بدولته، وتنهي احتلالها للضفة وغزة، وهذا النبذ يقتضي عدم تطبيع السعودية وأية دولة عربية أو إسلامية أخرى للعلاقات معها، ووقف أية تسهيلات منحت للجانب الإسرائيلي كمقدمة للتطبيع مثل حق المرور في المجالات الجوية، والمياه الإقليمية، وتبادل المعلومات، والتغاضي عن بعض الصفقات التجارية والتحويلات المالية، وأما الدول التي سبق وأن طبعت العلاقات مع الدولة اليهودية، فيجب خفض هذه العلاقات إلى أدنى حد ممكن، وفقا لنظرية السلام البارد التي طبقتها مصر في وقت سابق.
من الناحية العسكرية البحتة، ومن دون التوصية بقيام تحالف عسكري جماعي، كما سبق القول، وكذلك من دون التوصية (مؤقتا) بتوقيع اتفاقيات ثنائية للدفاع المشترك، فإن كل دولة من الدول المذكورة مطالبة بالسعي فورا لبناء توازن ردع مع إسرائيل، وحين أقول توازن ردع فهذا يعني أنني لا أقصد توازن قوى عسكريا بالمعنى الحرفي، لصعوبته، وربما لاستحالته قريبا، أي لا أقصد طائرة بطائرة ودبابة بدبابة وصاروخ بصاروخ، ولكني أعني قدرة الأطراف الاقليمية الأخرى على إلحاق ضرر لا يمكن لأي قيادة إسرائيلية تحمله، وذلك ردعا لاحتمالات التهديد والابتزاز والتوسع من جانب إسرائيل، خاصة مع تزايد حضور ونفوذ المتطرفين العنصريين في السياسة والحكم هناك.
لعل القارئ يتذكر، أنني في المقال الأول من هذه السلسلة أوردت الشواهد القاطعة على رسوخ اعتقاد الدولة العميق والمجتمع في مصر لضرورة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، ومن تلك الشواهد رفض الانضمام لمعاهدة منع إنتاج الأسلحة الكيماوية، إلا إذا انضمت إسرائيل لمعاهدة حظر الانتشار النووي، والتركيز على تكنولوجيا الصواريخ.. إلخ.
وإذا كنت في موقف لا يسمح لي بمعرفة أو نشر أية معلومات عن درجة توازن الردع حاليا بين مصر وإسرائيل، فإن ذلك لا ينفي أن الإدراك متوافر، وأن القدرة متاحة، وأن الإرادة كامنة لدى الدولة العميقة.
ربما يتحفظ علينا أحد قائلا إن مصر المرشحة لقيادة هذا العمل الجماعي، ليست فقط هي أول الدول تطبيعا مع إسرائيل، وأن العلاقات التجارية بينها وبين إسرائيل لم تُخفض، بل توسعت، بينما حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة مستمرة، وصفقة الغاز الأخيرة مؤشر لا تخطِئه عين، والرد هو أن مصر وحدها شيء، وأن مصر في إطار جماعي مع السعودية وتركيا والبقية شيء آخر، أو بمعنى آخر: “سنشدّ عضُدك بأخيك”.
وربما يستدرك علينا البعض أيضا بأن إسرائيل حققت بضرباتها الأخيرة لإيران مصالح أمنية وسياسية كثيرة لدول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، والرد هو أن الخليج يجب ألا يقع فريسة الاختيار الحتمي بين الطاعون الإيراني، وبين السرطان الإسرائيلي، وفضلا عن ذلك، فالتغيير وارد دائما في إيران، وكذلك، فالاتفاق بين إيران والدول العظمى حول البرنامج النووي وارد أيضا بقوة، ومن ثم، فما سيبقى بعد كل ذلك، هو المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، سواء بالتوسع الجغرافي، أو بالهيمنة وبسط النفوذ، وذلك ما لم تواجهه شعوب المنطقة بكل الوسائل اللازمة.
ولكن لماذا قلنا في العنوان إن البداية يجب أن تكون من سوريا، وذلك بعد وقف أو إسقاط مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة، ثم الضفة تمهيدا لضمها، وهو ما يبدو ممكنا الآن؟
والإجابة هي أن منع تقسيم سوريا والحيلولة دون انضمام أجزاء منها إلى ما يسمى فيدرالية إسرائيل الكبرى سيكون بمثابة بيان عملي واضح على إمكان مقاومة الإقليم لخطط التوسع والهيمنة الإسرائيليين، وسيكون أول نكسة كبيرة للطموح الإمبراطوري الإسرائيلي الذي يتجاوز حتى فلسطين التاريخية، ولكي يتحقق ذلك، فلا بد من اتفاق مصر والسعودية وتركيا مع النظام الحالي في دمشق على خريطة طريق لإقامة دولة غير طائفية، تحفظ وحدة التراب السوري، وتتهيأ على المدى الطويل للانضمام إلى الترتيبات الجماعية لعزل ونبذ إسرائيل على النحو الذي شرحناه آنفا.
يتبقى في هذه السلسلة مقال أخير، سوف نخصصه لتقصي الحقائق القديمة والحديثة في العلاقات المصرية السعودية، بما أننا نعتقد أن الدولتين معا هما “موتور” المنطقة العربية برمتها، أو على الأقل هذا ما ينبغي أن يكون.