بعد عامين على 7 أكتوبر (2023)، وما بعده من حربي إبادة وتجويع على قطاع غزة المحاصر وتغول على المنطقة كلها، لا يبدو في الأفق السياسي الملغم أية فرص يعول عليها في التوصل إلى سلام مستدام.

خلت خطة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من أية إشارة لأية مرجعية دولية، تقر حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، أو أية إشارة أخرى إلى حقهم المشروع في دولة مستقلة.

لا يوجد أفق سياسي، تتحرك وفقه المفاوضات الجارية الآن في “شرم الشيخ”، الثغرات والألغام ماثلة في صلب بنود خطة “ترامب”.

صممت الخطة لإنقاذ إسرائيل من العزلة الدولية، التي تعاني وطأتها على خلفية الاحتجاجات الشعبية في أنحاء القارة الأوروبية، وداخل الولايات المتحدة نفسها.

بقوة الرأي العام الغاضب تبدت مقاربات جديدة، وجدت تعبيرها في زخم الاعترافات بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة.

بالتوقيت طُرحت الخطة على هامش تلك الاجتماعات.

كانت صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، وهو يلقي خطابا متعجرفا وعنصريا في قاعة شبه خالية كاشفة بذاتها لعمق العزلة الإسرائيلية، وتحطم صورتها في المجتمع الدولي.

مقتل الخطة الأمريكية، أنها صُممت حتى تحصل تل أبيب بالتفاوض على ما فشلت فيه بالحرب.

إذا ما مضت الأمور على هذا النحو، رغم بعض الممانعات، فإن حربا جديدة سوف تنشأ بعد وقت أو آخر.

دواعي ومقومات الحرب المقبلة ماثلة في الخطاب الإسرائيلي وسعيه إلى بناء شرق أوسط جديد بذريعة “إسرائيل الكبرى“.

رغم بعض الإشارات في خطة “ترامب”، التي قد توحي بتراجع مشروعي تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء ومن الضفة الغربية إلى الأردن، إلا أن جوهرها لا يمنع جر المنطقة مستقبلا إلى حرب جديدة.

في عام (1948) نشبت الحرب الأولى، التي يطلق عليها حرب “النكبة”، وقد جرت وقائعها فوق الأراضي الفلسطينية.

أفضل ما ينسب لعملية (7) أكتوبر، أنها أعادت الصراع إلى ميدانه الأصلي، في فلسطين لا خارجها، وأن الطرف العربي المباشر هم الفلسطينيون أنفسهم أصحاب الحق الأصيل في تقرير مستقبل الصراع.

هذه حقيقة لا يصح تجاهلها، أو التجهيل بها.

تحت الصدمة كادت إسرائيل، أن تفقد ثقتها في قدرة جيشها على الردع وكفاءة مؤسساتها الاستخباراتية والأمنية ومستقبل الدولة نفسها.

بدت العملية، التي أطلقتها حركة “حماس” في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر (1973)، مباغتة وعلى درجة عالية من التخطيط العسكري والكفاءة القتالية.

أعلنت إسرائيل الحرب واستدعت ثلاثمائة ألف من ضباط وجنود الاحتياط، وارتكبت مجازر في غزة المحاصرة لتركيعها دون جدوى، قطعت المياه والكهرباء وإمدادات الطعام عنها، واستهدفت المستشفيات وطواقم الإسعاف، لعلها تنتقم مما لحقها من إذلال.

أمعنت في جرائم الحرب ووجدت نفسها متهمة بالأدلة والقرائن بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية

بأية مراجعة للحروب العربية الإسرائيلية السابقة، فإن حرب (7) أكتوبر وما بعدها استلهمت خبراتها ودروسها وروحها العامة من دروس الماضي.

في الحرب الأولى (1948)، لم يكن ميزان القوى والتسليح والجاهزية في صالح الجيوش العربية، التي دخلت فلسطين وتلقت هزيمة ثقيلة.

كانت فكرة الحاج “أمين الحسيني” مفتي فلسطين، أن تظل الجيوش العربية رابضة على الحدود، وأن يتولى الفلسطينيون بعد تسليحهم وتدريبهم المواجهة القتالية في الداخل، ولم يؤخذ بها.

الحروب التالية، العدوان الثلاثي (1956) ونكسة يونيو (1967) وملحمة أكتوبر (1973)، جرت كلها في سيناء المصرية وأراضي عربية أخرى لا في الأرض الفلسطينية المحتلة.

في الحرب الثانية، دخلت القوات الإسرائيلية سيناء إثر تأميم قناة السويس، فيما كانت القوات البريطانية والفرنسية تعملان على احتلال مدن القناة وإعادة السيطرة على أهم ممر ملاحي دولي. وقد خرجت مصر من تحت نيران حرب السويس قوة إقليمية عظمى، تقود حركات التحرير في العالم الثالث.

الحرب الثالثة استهدفت إجهاض الدور المصري القيادي في عالمه العربي، وأي تطلع للتنمية والتقدم، وقد نجحت في إلحاق هزيمة عسكرية مريرة بقواتنا المسلحة، التي لم يتسن لها أن تحارب، غير أن إرادة القتال استؤنفت بإرادة شعبية كاسحة، وأعيد بناء الجيش على أسس احترافية.

بعد أيام من الهزيمة العسكرية، دخلت مصر حرب “الاستنزاف” بين عامي (1967) و(1970)، وقد كانت بتضحياتها وبطولاتها بروفة عبور الجسور بقوة السلاح وجزءا لا يتجزأ من ملحمة الحرب الرابعة في (6) أكتوبر (1973) لإزالة آثار العدوان، اعتقادا بأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، وقد جرى تنسيق عسكري بين الجبهتين المصرية والسورية ومشاركة جيوش عربية أخرى بقوات ميدانية في القتال، فيما أطلق عليه “قومية المعركة”.

لا يجب أن ننسى هذه الحقيقة، التي غيبت عن عمد حتى وصلت سلطة الأمر الواقع في سوريا إلى إلغاء الاحتفال بذكرى (6) أكتوبر لمقتضى إرضاء إسرائيل!

ثم جرت حرب خامسة على الأراضي اللبنانية عام (1982)، حين اجتاحتها القوات الإسرائيلية، واحتلت العاصمة بيروت، تحت مسعى حصار وإخراج المقاومة الفلسطينية منها، لكنها اضطرت للانسحاب تحت ضغط المقاومة الشعبية المسلحة.

الحرب السادسة، جرت داخل الأراضي اللبنانية مرة أخرى عام (2006)، فيما أطلق عليها “حرب تموز”، التي تلقت إسرائيل فيها هزيمة مهينة، تحررت بعدها أراض محتلة.

في حربي أكتوبر وتموز تبدى فشل استخباراتي إسرائيلي مروع في تقدير قوة وجاهزية الجانب العربي.

في (7) أكتوبر بدا الجيش الإسرائيلي مترنحا، أخذته صدمة المفاجأة، لم يصمد أمام الموجات الأولى للاقتحام الفلسطيني من غزة المحاصرة والفقيرة إلى داخل الأراضي المحتلة.

استلهم المخططون الفلسطينيون حرب أكتوبر (1973) في الخداع الاستراتيجي والتمويه على العدو بأهدافهم الحقيقية، وفي اختيار يوم عيد يهودي لتوجيه الضربة المباغتة.

هرعت الإدارة الأمريكية، بنص اعتراف وزير خارجيتها في ذلك الوقت “هنري كيسنجر”، لإنقاذ إسرائيل من هزيمة استراتيجية كاملة، دعت إلى وقف إطلاق النار، ومدت جسرا جويا بأحدث المعدات والأسلحة العسكرية.

وفي أكتوبر (2023)، هرعت مرة أخرى لمنع انهيار معنوي إسرائيلي أمام ضربات الفلسطينيين الموجعة، حركت حاملة الطائرات “جيرالد فورد” مصحوبة بسفن عسكرية في البحر المتوسط بالقرب من مسرح العمليات باسم “التنسيق الاستخباراتي والعسكري”؛ دفاعا عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.

لم يكن ممكنا، أن تفلت إسرائيل من تبعات تصدع ثقتها في نفسها، لولا الدعم الأمريكي المطلق والعجز العربي الفادح.

إذا أراد أحد أن يبحث عن أسباب وذرائع لإدانة عملية (7) أكتوبر، فلن يعدم الحجج.

دمر قطاع غزة بالكامل، استشهد أكثر من (67) ألف فلسطيني، وأصيب مئات الآلاف.

توحشت آلة الحرب الإسرائيلية بدعم أمريكي كامل في مطاردة فكرة المقاومة بكل مكان على خريطة المنطقة.

اغتيلت قيادات الصف الأول والثاني من المقاومتين الفلسطينية واللبنانية.

أُضعفت المقاومة اللبنانية إلى حدود لم تكن متصورة.

أُسقط النظام السوري، الذي كان ظهيرا مساندا لتمرير السلاح.

تمددت إسرائيل داخل الأراضي السورية، التي أوشكت على التقسيم.

جرى تقويض جانب كبير من المشروع النووي الإيراني، لكن النظام لم يسقط ولا المشروع تقوض تماما.

هذه كلها حقائق، لكنها بدت هشة ومرشحة للتقويض لغياب أي تصور سياسي لليوم التالي.

بدت مصر وسط ذلك كله، أنها الجائزة الكبرى التالية بمشروع التهجير القسري إلى سيناء.

أيا ما كانت السيناريوهات والاحتمالات الخطرة، فإن فلسطين رفعت رأسها في (7) أكتوبر بقوة سلاح وشجاعة أبنائها، وأكدت تحت نيران الحرب السابعة عدالة قضيتها، وأن سلام القوة لن يمر.

هذا هو المعنى الكبير، رغم كل الآلام الباهظة، التي استدعت غضبا دوليا وتضامنا واسعا وهتافات مدوية في قلب العواصم الأوروبية: “فلسطين حرة” و”تسقط الصهيونية”.

لم يكن ذلك متصورا، أو متخيلا منذ النكبة حتى (7) أكتوبر وما بعده.

أُحيت القضية الفلسطينية بدم الشهداء والضحايا، بعد أن كان الظن أنها قد نسيت.

في أعقاب حرب أكتوبر (1973)، شاع تعبير منسوبا للرئيس الأسبق “أنور السادات” إنها آخر الحروب.

أثبتت الوقائع خطأ ذلك التقدير.

ما دام هناك احتلال فهناك مقاومة.

وما دام هناك تغول على المنطقة وتغييب لأي أفق سياسي، فهناك حرب مقبلة لا محالة.