عرف النموذج المغربي احتجاجات متنوعة، بعضها حمل مطالب فئوية، تتعلق برفع الأجور أو تحسين ظروف العمل، فشهدنا أطباء يتظاهرون منذ عده أشهر لتحسين أحوالهم، وعمال يضربون لرفع رواتبهم، كما عرف المغرب أيضا احتجاجات سياسية تطالب بالإصلاح السياسي والدستوري، وبدأت مع حركة 20 فبراير عقب الثورات العربية في 2011، وعادت الاحتجاجات السياسية، وتكررت مؤخرا مع جيل شاب جديد، وعرفت باسم 212 Z، ودخلت أسبوعها الثاني رغم تراجع حدتها.
والحقيقة، أن أهم ما يميز احتجاجات المغرب السياسية، أنها “احتجاجات آمنة” وخاصة منذ أن اعتلى الملك محمد السادس حكم البلاد، فقد اتسع الهامش الديمقراطي، وعرفت البلاد دستورا جديدا، وضِع في 2011، أكثر ديمقراطية وانفتاحا من الدساتير المغربية السابقة، ولكنه لم يغادر نظم الديمقراطية المقيدة نحو نظم الملكية الديمقراطية الدستورية.
وقد سمح هذا الدستور بحدوث عملية تداول للسلطة على أرضية النظام الملكي، ساهمت في تجديد النخبة الحكومية التي تشارك في حكم وإدارة البلاد تحت السلطة الملكية، مما جعل هناك عملية سياسية حقيقية قادرة على جذب قطاع واسع من الشعب المغربي.
إن حكم حزب العدالة والتنمية كحزب مدني ذو توجه إسلامي، استمر لدورتين متتاليتين، ثم خسر بعدها في انتخابات 2021 السلطة بعد أن حصل حزب التجمع الوطني للأحرار على المرتبة الأولى، وحصل على 97 مقعدا من أصل 395، وهو حزب يضم تكنوقراط ورجال أعمال وشرائح عليا من الطبقة الوسطى، ويقوده رجل الأعمال ورئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش.
أما حزب الأصالة والمعاصرة فقد حصل على 82 مقعدا، وجاء في المركز الثالث حزب الاستقلال التاريخي العريق، والذي يقارن مصريا بحزب الوفد، وحصل على 78 مقعدا، بينما حصل حزب يسار الوسط الاتحاد الاشتراكي للقوي الشعبية، والذي سبق وشكل الحكومة بعد معارك نضالية كبيرة في تسعينيات القرن الماضي على 35 مقعدا، ثم عدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى، بينما حل حزب العدالة والتنمية في المركز الثامن بـ13مقعدا، بعد أن حصل في الانتخابات السابقة على 125 مقعدا، وشكل الحكومة على مدار 10 سنوات.
وقد قبل النظام المغربي بدخول حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية الساحة السياسية كحزب مدني منفصل تماما عنى الجماعة الدينية والدعوية (التوحيد والإصلاح)، وملتزم بالنظام الملكي والدستور المدني المغربي، ولم يدخل الفضاء السياسي كحزب أو جماعة دينية، بما يحمله ذلك من مخاطر التمكين الأبدي من السلطة.
ولذا لم يكن غريبا أن الخسارة المدوية لحزب العدالة والتنمية، لم تمثل أي تهديد للعملية الديمقراطية في المغرب، ولا لثوابت النظام السياسي، حتى لو كانت هناك شكاوى من بعض تدخلات الإدارة والأجهزة، وشكاوى أكبر من المال السياسي ومن تصاعد دور رجال الأعمال.
هذا النوع من الانتخابات السياسية الحقيقية الذي يعرف “تداول آمن” للسلطة وتجديدا للنخبة، يعرف أيضا “احتجاجات آمنة” لا تطالب بإسقاط النظام، خاصة إذا كانت السلطة الأساسية في يد نظام ملكي قديم وراسخ منذ مئات السنين ولديه شرعية لدى الشعب المغربي.
والحقيقة أن الخبرة السياسية المغربية تعتمد على التدرج في الإصلاح، فقد عرفت تعديلات دستورية في 2011، أعطت مزيدا من الصلاحيات لرئيس الحكومة المنتخب، وإن ظل الملك هو رأس السلطة التنفيذية، ويعين وزراء الدفاع والداخلية وولاة الأقاليم.
إن الحياة السياسية في المغرب استقرت بدرجة كبيرة بعد فترة طويلة من الصراعات الحادة، واتضحت أن قواعد اللعبة السياسية التي قامت على احترام إرادة الناخبين والحزب الذي يختاره الناس، مهما كان موقف السلطة الملكية منه، فقد حكم حزب العدالة والتنمية لدروتين مدتهما عشر سنوات بإرادة الشعب المغربي، وخسر موقعه كحزب حاكم بإرادة شعبية بالأساس.
لقد اتسم النظام المغربي “ببريق الهدوء” أي أن التغيير يحدث فيه بدون صخب أو تحولات جذرية؛ لأنه محكوم بسلطة مدنية لديها شرعية، وهذا على خلاف كثير من النظم الأخرى التي لا تعرف أي نمط من الانتخابات التنافسية، ولا تداول لأي سلطة سواء في الحكومة أو البلديات، مما يجعل أي احتجاجات فيها، تحمل مخاطر كبيرة من الانزلاق ليس فقط نحو العنف، إنما أيضا نحو إسقاط النظام والدخول في مخاطر التحولات الفجائية والانقسام المجتمعي.
إن السياق الذي ظهرت فيه الاحتجاجات المغربية أدى إلى أن يكون مسارها إصلاحيا يضغط من أجل إصلاح النظام الملكي القائم، وليس إسقاطه لما تمثله السلطة الملكية من رمزية راسخة منذ قرون داخل المجتمع، وبالتالي كان مفهوما أن يطالب المحتجون بوعي بضرورة أن تنفق السلطة على الصحة والتعليم، أكثر مما تنفق على ملاعب كرة القدم رغم ولع الشعب المغربي بالكرة.
إن وجود هامش ديمقراطي واسع وسلطة سياسية مدنية، تتبنى الحوار مع الشعب، بما فيها الفئات المحتجة والشبابية حصن المجتمع والنظام السياسي من التقلبات “الراديكالية”، وجعل السيناريوهات التي أسقطها البعض من تجارب أخرى على المغرب لا أساس لها في الواقع.
لقد أقر المسئولون السياسيون والأمنيون بدرجات متفاوتة، أن هناك مشكلة تتعلق بالإنفاق الحكومي أو ما يسمى في المغرب “بتدبير الشأن العام”، واعترفت الحكومة بأخطائها، وقالت إن هؤلاء الشباب “أبناؤنا” وسنتعامل معهم “بحكمة ورحمة”، كما قال وزير العدل المغربي، وهو ما اتضح أثناء عمليات توقيف الشباب ودفعهم إلى سيارات الشرطة، حيث لم يتعرضوا لأي اعتداء جسدي، يهين الكرامة الإنسانية، بل إنه في بعض الحالات نجح آباء وأمهات في استعادة أبنائهم من قبضة الشرطة، بعد ان اعتذروا نيابة عنهم، وتعاملت الأجهزة الأمنية بقدر واضح من التسامح والمهنية.
مظاهرات المغرب بلا عنف ظاهرة صحية وشعار “الشعب يريد إسقاط الفساد” شعار إصلاحي بامتياز، وقابل للتحقيق والنضال من أجله، وفي نفس الوقت فإن لا الحكومة ولا السلطة المليكة اتهموا المتظاهرين بالخيانة والعمالة والتآمر على البلد، إنما أقروا أن هناك مشكلة وسيعملون على حلها، وتلك أهمية نُظم الهامش الديمقراطي، إنها تستمتع للشعب، وتحاول أن تصلح من نفسها.