عالم ترامب: الجغرافيا السياسية والإبادة الجماعية وتآكل النظام العالمي
يقدم الكاتب والباحث هشام جعفر في كتابه الجديد عالم ترامب: غزة والغرب، هيمنة إسرائيل، الإبادة الجماعية، حقوق الإنسان” تحليلاً شاملاً للتحولات العميقة التي تعيد تشكيل الشرق الأوسط والنظام العالمي، والتي يقودها في المقام الأول مبدأ السياسة الخارجية التخريبية والمعاملاتية لدونالد ترامب، والذي غالبًا ما يكون مؤطرًا بمبدأ “أمريكا أولاً”.
ويري كتاب عالم ترامب أن الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، والتي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 ليست حدثًا معزولًا، بل هي عَرَض كارثي لأزمة معقدة ومتشابكة تشمل انهيار النظام الدولي القائم على القواعد، وظهور شكل جديد من الإمبريالية التي تحركها الأرباح، وتطبيع العنف الجماعي المنهجي.
تفترض الأطروحة الأساسية للكتاب الصادر عن دار روافد بالقاهرة- أكتوبر/ تشرين أول 2025، أن النظام العالمي الحالي يتميز بإعادة تنظيم عميقة سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، تسهل مستويات غير مسبوقة من العنف والاستغلال. إذ يرتبط القتل الجماعي الذي شهدته غزة بظاهرة أوسع نطاقًا، تتمثل في العنف المسلح الذي نشهده في الصراعات الدائرة في اليمن والسودان ومنطقة الساحل الإفريقي وأوكرانيا والمكسيك، مما يشير إلى أن القتل الجماعي قد يكون مستقبلًا مشتركًا للبشرية جمعاء. غالبًا ما تعتمد مبررات هذه الفظائع الجماعية على مفاهيم الدفاع عن النفس والأمن القومي، المتجذرة في معتقدات أيديولوجية متطرفة، تُشرع العنف ضد “الآخر”.
عقيدة ترامب وعدم الاستقرار الإقليمي
الفصل الأول، “ترامب وإعادة ضبط الشرق الأوسط”، يستكشف كيف أن نهج ترامب، الذي يتميز بعدم القدرة على التنبؤ به والتركيز على الصفقات والمعاملات الاقتصادية الثنائية، بدلاً من التحالفات طويلة الأجل أو مخاوف حقوق الإنسان، يعيد تشكيل المنطقة بشكل جذري. ويُنظر إلى هذا النهج، على أنه تحرك بعيدًا عن الليبرالية العالمية نحو موقف أحادي الجانب أكثر برجماتية، يؤكد على المصالح الوطنية والمنافسة بين القوى العظمى.
إن سياسة ترامب في الشرق الأوسط، التي غالبا ما ينظر إليها، على أنها تفتقر إلى استراتيجية متماسكة وشاملة، تركز على ملفات محددة، مما يفضي إلى سياسة تؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار. وتظهر هذه السياسة أن الأهداف الرئيسية، مثل الدعم القوي للهيمنة الإقليمية الإسرائيلية، والسعي في الوقت نفسه إلى إنهاء الحرب في غزة، والحرب على إيران، وتوسيع اتفاقيات التطبيع الإقليمية، تبدو متناقضة إلى حد كبير.
إن الاعتماد على المكاسب الفورية، بدلاً من التحالفات طويلة الأمد يؤدي إلى تآكل الثقة والاستقرار اللذين تم تأسيسهما على مدى عقود من الزمن. فاللهاث وراء “الصفقات” الكبرى، حتى مع خصوم مثل إيران أو جماعات مثل حماس، إلى جانب الرغبة في استخدام التهديدات والمواقف المتطرفة للضغط، يحمل في طياته مخاطر تصعيد التوترات المتقلبة بالفعل. على سبيل المثال، رفض القادة العرب بشدة اقتراح ترامب بطرد الفلسطينيين من غزة، وأصروا على أن التطبيع مع إسرائيل يجب أن يشمل إنشاء دولة فلسطينية.
ويتناول الكتاب أيضًا السياق الجيوسياسي لهذا التحول، في الشرق الأوسط، مشيرًا إلى صعود قوى محورية جديدة مثل المملكة العربية السعودية وتركيا، إلى جانب استمرار تأثير الجهات الفاعلة غير الحكومية، واستراتيجيات القوى الخارجية المتقلبة، ولقد تم إعادة ضبط هذا السياق بشكل كبير من خلال عملية “طوفان الأقصى“، التي أعادت تركيز القضية الفلسطينية كعدسة حاسمة، يتم من خلالها النظر إلى الديناميكيات الإقليمية وجهود التطبيع واستقرار الأنظمة العربية.
وهم الهيمنة الإسرائيلية
يتناول الفصل الثاني رؤية نتنياهو للسيادة في الشرق الأوسط، والتي تركز على ترسيخ إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة من خلال تحييد التهديدات الوجودية للكيان الصهيوني، وخاصة إيران، وإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي بشكل أساسي لضمان أمن إسرائيل وتفوقها.
إن استراتيجية نتنياهو هي استغلال عدم الاستقرار الإقليمي (“الصدمة والفرصة”) لتعزيز المصالح الإسرائيلية، حتى على حساب المعايير الراسخة أو فرص السلام.
يتضمن نهجه تهميش القضية الفلسطينية، واعتبار حركات المقاومة “كيانات إرهابية”، والسعي إلى حلول قوية تتجاوز الدبلوماسية التقليدية أو تقرير المصير الفلسطيني، مما يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي لمصر والأردن.
ومع ذلك، يتساءل الكتاب بشكل نقدي، عما إذا كانت إسرائيل قادرة حقًا على تحقيق الهيمنة الإقليمية الدائمة؟
يري بعض المحللين، أنه على الرغم من تفوقها العسكري والاستخباراتي الواضح، تظل إسرائيل معتمدة بشكل حاسم ومستمر على المساعدات العسكرية الأمريكية والأسلحة (مثل القنابل الخارقة للتحصينات) والحماية الدبلوماسية، وذلك على عكس القوة المهيمنة الإقليمية الحقيقية، التي لا تواجه أي تهديدات أمنية كبيرة من جيرانها، ويمكنها تركيز سياساتها في أماكن أخرى. فإسرائيل تشعر بالقلق باستمرار إزاء التهديدات المستمرة من الجهات الفاعلة غير الحكومية (مثل حماس وحزب الله) والقوى الإقليمية الكبرى (إيران وتركيا وربما مصر).
وعلاوة على ذلك، فإن أمن إسرائيل على المدى الطويل يتوقف على التوصل إلى تسوية سياسية دائمة مع الفلسطينيين، وهو المسار الذي أصبح أقل احتمالا على نحو متزايد. وبسبب النفوذ المتزايد للفصائل اليمينية والدينية المتطرفة داخل الحكومة الإسرائيلية، يتفاقم السياق الإقليمي؛ بسبب الرفض الشعبي العربي الواسع للتطبيع، والذي اشتد مع تزايد العدوان الإسرائيلي، مما يضع حدودًا لعلاقات صناع القرار العرب مع الكيان الصهيوني.
الخليج الجديد
الفصل الثالث من الكتاب بعنوان “عالم ترامب والخليج الجديد”، يركز بشكل مكثف على تحليل الدور الحاسم والمتطور الذي تلعبه دول الخليج في إعادة تعريف البنية الجيوسياسية للشرق الأوسط، يتناول الفصل تحديدًا تأثير “الخليج الجديد” على ديناميكيات القوة في المنطقة، ويتساءل عما إذا كان يمتلك القدرة على تأسيس نظام إقليمي جديد، ويشرح بالتفصيل كيف يسعى لتحقيق ذلك.
من المواضيع الرئيسية التي تمت مناقشتها بالكتاب التحدي الاستراتيجي المعقد الذي تواجهه دول الخليج في الحفاظ على التوازن بين إيران وإسرائيل، علاوة على ذلك، يتناول الفصل السياسات الإقليمية التي تنتهجها إدارة ترامب، ويناقش بالتفصيل تأثير زيارة ترامب لدول الخليج مايو/ آيار ٢٠٢٥ على اتجاهات الشرق الأوسط في المستقبل.
حقوق الإنسان وحروب الهوية ونهاية الحداثة
يتناول الفصل الرابع التآكل المتعمد للإطار العالمي لحقوق الإنسان في ظل النظرة العالمية “المعاملاتية” لترامب. يشير الكتاب، إلى أن المستبدين في جميع أنحاء العالم يجب أن “يفرحوا” بعالم ترامب، لأن تركيزه على العلاقات المعاملاتية والمصالح الوطنية غالبًا ما يعني تجاهل سجلات حقوق الإنسان.
هذا التحول الأيديولوجي متجذر في رؤية ضيقة ومحافظة للهوية الأمريكية، والتي تعطي الأولوية لمصالح “الرجل الأبيض المحافظ”، المنظور الجديد للترامبية، يدافع عن هياكل الأسرة التقليدية، ويعارض بشدة “الأيديولوجيات المستيقظة” المتعلقة بالتنوع والمساواة والإدماج.
يري المؤلف هشام جعفر أن سياسات ترامب تساهم في انهيار النظام الدولي الليبرالي، الذي تأسس على القواعد والمؤسسات بعد الحرب الثانية، ويشير الكتاب إلى أن حرب غزة على وجه الخصوص، تكشف عن نفاق النظام القائم على القواعد، وتشير إلى “نهاية الحداثة”.
يأتي الصراع في إطار حروب الهوية المتصاعدة والعودة المحتملة لنموذج صراع الحضارات، إن سياسات ترامب، التي تتحدى التعددية وتركز على المنافسة بين القوى العظمى، تشجع الدول على إعطاء الأولوية للهوية الوطنية والثقافية على الحدود السياسية أو القيم العالمية. يتساءل الكتاب، عما إذا كان السلام العالمي سيخضع لهيكل حوكمة دولي مجزأ، حيث يتم التخلي تدريجيًا عن القيم الإنسانية العالمية لصالح الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية الضيقة.
إن صعود “الدولة الحضارية” التي تبني شرعيتها على تقاليد ثقافية وتاريخية محددة، بدلاً من الأفكار السياسية العالمية، يتحدى نموذج الدولة القومية التقليدي الذي تأسس بعد معاهدة وستفاليا ١٦٤٨.
الإبادة الجماعية في غزة
إن المحور الرئيسي للكتاب، وربما الأكثر تميزا، هو الفصل الخامس، الذي يحلل الإبادة الجماعية في غزة، وهو أول كتابة معمقة باللغة العربية، تحاول أن تفهم وتفسر محرقة غزة وآليات القبول بها واستمرارها، على الرغم من أنها بُثت على الهواء مباشرة لما يزيد عن ٢٤ شهرا.
يشير المؤلف إلى أن الطبيعة المنهجية والمتعمدة للعنف جرى تطبيعها في إدراك قطاعات من البشر، ولا سيما في العالم العربي والنظام الدولي، مما يسمح للحياة بالاستمرار “كالمعتاد” على الرغم من الفظائع مثل القتل الجماعي المستمر، والتجويع المنهجي، واستهداف المستشفيات والمدارس، وتدمير أحياء بأكملها.
تُوصف عملية التطبيع مع العنف بأنها “تكفير بالوكالة” بالنسبة للدول الغربية التي تسعى إلى تبرئة نفسها من الذنب التاريخي المتعلق بالهولوكوست، حتى لو كان هذا يعني السماح بحدوث “نكبة ثانية” ضد الفلسطينيين.
ويؤكد الكتاب، أن استمرار الإبادة الجماعية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمصالح الاقتصادية وهياكل السلطة، يتم تحليل هذا من خلال منظور “الرأسمالية آكلة لحوم البشر”، وهو نظام يسمح للاقتصادات التي يحركها الربح باستغلال واستهلاك الأسس غير الاقتصادية للمجتمع، بما في ذلك حياة البشر، والرفاهية الاجتماعية، والسلطة العامة.
وقد ثبت أن الإبادة الجماعية هي “مشروع مربح” للعديد من الكيانات التجارية، مما أدى إلى تحول النموذج “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية”، ويشير الكتاب إلى تقرير أممي، يضم قاعدة بيانات تحوي نحو 1000 شركة ومؤسسة استفادت من الاحتلال الإسرائيلي والحملة المستمرة في غزة.
المستفيدون الرئيسيون هم: مصنعو الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية، وشركات التكنولوجيا، والمؤسسات المالية والبنوك، ومنصات السياحة، وشركات إدارة الأصول…إلخ.
إن استمرار هذا العنف المنهجي يعتمد بشكل كبير على نزع الصفة الإنسانية والسيطرة على السرد، تصريحات القادة الإسرائيليين التي وصفوا فيها الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية” استيفاء شرط ضروري للإبادة الجماعية من خلال تجريد المجموعة المستهدفة من صفتها الإنسانية الأساسية.
يتم التحكم في السرد من خلال: التلاعب اللغوي، مثل استخدام مصطلحات مثل “إرهابيين” أو “نازيين جدد” لتبرير العنف، ويستخدم التعاطف الانتقائي للتحكم في السرد أيضا، حيث التركيز بشكل مكثف على معاناة الإسرائيليين مع التقليل من أهمية أو تجاهل وفيات ومعاناة المدنيين الفلسطينيين، ويجري ذلك في ظل قمع المعارضة، أي اتهام منتقدي السياسات الإسرائيلية بـ”معاداة السامية” لإسكات أصواتهم.
يشرح الكتاب أيضًا مفهوم “الإبادة الجماعية الخوارزمية” (Algocide) الناشئ، والذي يصف الاستخدام المنهجي للخوارزميات والذكاء الاصطناعي في ارتكاب عمليات قتل جماعي ضد المدنيين. يمثل هذا تحولاً من “الحق في القتل” التقليدي الذي يقوم به البشر إلى “حق الخوارزمية في القتل”، بفضل التكنولوجيا المتقدمة التي تُسرّع عملية التدمير وتجعلها أكثر كفاءةً وفتكًا. تزيد هذه الحرب عالية التقنية من نطاق الخطر على السكان بأكملهم من خلال تعظيم كفاءة الاستهداف واتساعه.
وفي الختام، يقدم مؤلف الكتاب هشام جعفر تقييمًا عميقا لعالم يمر بمرحلة انتقالية، يساهم فيها عالم ترامب بدور كبير. كما أن ما يحدث في غزة يعمل على تسريع تدهور النظام الدولي الذي أعقب الحرب الثانية، في حين تعمل الإبادة الجماعية في غزة كنموذج مصغر، حيث يلتقي هذا النظام المنهار بالرأسمالية المربحة، واللا إنسانية المنهجية، والتدمير الشامل عالي التقنية، ليزداد الوضع سوءا.
إن المستقبل المنظور يتسم بعدم اليقين العميق والصراعات المستمرة والنضال الدائم؛ للحفاظ على القيم العالمية ضد قوى عدم الاستقرار والتطرف الأيديولوجي والاستغلال الاقتصادي.