يترقب السودانيون ومحبوهم في وادي النيل مسارات وقف الحرب على غزة، ذلك أن هذه الخطوة قد تعني انتباها دوليا وإقليميا مكثفا بحرب السودان، خصوصا إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يستهدف جائزة نوبل للسلام، حيث أن هذا الهدف سوف يطغى، ربما على طبيعة التسويات في منطقتنا، من حيث مدى الجدية وأسقف المثابرة. وإذا كانت حرب غزة تتمايز عن حرب السودان بوضوح العدو، وعدالة القضية، فإن حرب السودان تملك من التركيب والتعقيد، والعمق التاريخي، فضلا عن الأبعاد العرقية، ما يجعلها ملتبسة وعصية، وتتطلب فهما عميقا ومجهودا مخلصا، ومن المطلوب، أن يُتَجاوز عن الأهداف الشخصية للرئيس الأمريكي أو المصالح المؤقتة لأي أطراف داخلية أو خارجية.
وطبقا لهذا الواقع، فإن جهود اللجنة الرباعية الدولية تبدو مرشحة حاليا لإنجاز هدف وقف إطلاق النار في السودان، وهي المجهودات التي كانت آخر تطوراتها زيارة وزير الخارجية المصري د. بدر عبد العاطي لبورتسودان بعد زيارة الشيخ محمد بن زايد للقاهرة، بما يعني أننا أمام تسوية أو صفقة ما يتم ترتيبها حاليا، أولا، بين الأطراف الإقليمية لوقف الحرب السودانية.
وعلى الرغم من هذه الأهمية، لا بد من التعرض للجدل السوداني الداخلي وموقفه من مجهودات اللجنة الرباعية التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة كل من مصر والسعودية والإمارات، وذلك كي نضمن نجاحا لأي هدنة وقف إطلاق نار، وكذلك قدرة على بلورة مسارات سياسية، سوف يكون مرهونا نجاحها بشرعية وملكية داخلية تتوجها، وذلك على الرغم من أن أطراف هذه الشرعية من السودانيين يمارسون استقطابات سياسية حادة؛ تعبيرا عن صراعات ممتدة، وهو الأمر الذي يجعل الفاعل الدولي والإقليمي، ينظر إليها باعتبارها تحديا، لم يتم تجاوزه حتى اللحظة الراهنة، حيث عبر عن ذلك مستشار الرئيس الأمريكي مسعد بولس الذي قال، إن الحل يتطلب إرادة داخلية.
في هذا السياق، تحوز مجهودات الرباعية وخارطة الطريق التي طرحتها على جدل داخلي سوداني من زاويا متعددة في تقديري، لم يؤخذ فيها بعين الاعتبار ثلاث نقاط، الأولى حتمية وقف إطلاق النار والثانية جدولة الحل، أي هندسته طبقا لمراحل، والثالثة حالة الصراع والاستقطاب الداخلي التي جعلت هذه الحرب، تمتد عامين ونصف العام.
الأسباب المثارة حاليا في المجال العام السوداني في نقد خارطة طريق الرباعية، تتمحور حول استبعاد واسع للفواعل السياسية والمدنية السودانية من صياغة خارطة الرباعية، بما يرفع هواجس الإملاءات الخارجية التي تقرر مصير السودان، دون ملكية أو شرعية محلية، فضلا عن وجود شكوك بشأن قدرة الرباعية على ضبط الشبكات الإقليمية لتمويل وتسليح الأطراف العسكرية، فضلا عن ضعف مكون مطالب المساءلة والعدالة والانتقال الديمقراطي لصالح حل، يبدو لهذه الأطراف متسرعا.
ويمكن القول بشكل عام أن تنسيقيات المقاومة، تجمع المهنيين، منظمات المجتمع المدني، قد رحبت مبدئيا بفكرة وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، ولكنها طالبت بآليات تضمن خروج الجيش والميليشيات من السياسة، وضمان انتقال مدني حقيقي، وضمان تكوين آليات عدالة ومساءلة، حيث تخشى القوى المدنية، أن تكون خارطة الرباعية مقدمة لمعادلات سياسية، يسيطر فيها المكون العسكري، ذلك أن النموذج اللبناني الذي دعمه المجتمع الدولي ليس ببعيد.
مكونات التحالفات التقليدية من الأحزاب السياسية أظهرت مواقف متباينة، بعضها أبدى قبولًا حذرًا لخارطة طريق الرباعية، إذا ربطت بحفظ مؤسسات الدولة والسيادة، وأخرى أعربت عن رفض أو تحفظ شديد؛ خوفا من إعادة هندسة السلطة بضغط خارجي. تقارير محلية وإخبارية أشارت إلى أن بعض هذه القوى ترى في التحرك الدولي الرباعي فرصة لسحب السودان من سيطرة الميليشيات، لكنهم ينشدون ضوابط على التدخل الخارجي، واحترام سيادة المؤسسات.
أما قوات الدعم السريع، فإن أطرافها تبدي على المستوي الإعلامي استعدادًا لوقف إطلاق نار إنساني، وكذلك الانخراط في مفاوضات تحت شروط تحفظ مكاسبها الميدانية، وفي المقابل، تحافظ على موقف عملي، يقوم على استغلال المساحات التكتيكية، وضمان استمرار دعمها إقليميا على المستوى اللوجستي.
حركات دارفور المسلحة، والتي يتحالف بعضها مع الجيش، تتمحور مطالبها في اشتراط أن يخضع أي اتفاق لتسوية شاملة لقضايا اللا مركزية، الأمن المحلي، ودمج أو فصل القوات. هذه الفصائل تطالب بأن تكون قضايا توزيع السلطة والحماية المحلية محورًا في أي مفاوضات محتملة مع الحفاظ على حقها فيها.
الفصائل ذات المرجعية الإسلامية أكثرها تشددا جناح علي كرتي وزير الخارجية الأسبق، ترفض جهود الرباعية، وتعتبرها كعب أخيل في مستقبلها السياسي، وخصم من حالة سيطرتها على الدولة، بينما التيارات المعتدلة وجلها من النخب الأكاديمية لديها هواجس بشأن أمنها الشخصي، ربما خصوصا بعد الإشارة الصريحة في بيان الرباعية ضد تيار الإخوان المسلمين عامة وتحميله المسئولية عن تعطيل قطار السلام.
وعلى الرغم من الجدل السوداني بشأن جهود الرباعية، فإنها قد أتاحت فعليا ممرات للإغاثة الإنسانية للمنكوبين والجوعى، وأتاحت أيضا قدرة للجيش على إنزال مساعدات إنسانية إلى الفاشر، وهو ما جعل رد فعل الفريق البرهان إزاء خارطة طريق الرباعية متراوح ما بين مراعاة توجهات حلفائه، ومتطلبات قبول شرعيته وشرعية الجيش دوليا، وذلك بالتوازي مع وجود تسريبات، تشير إلى أن الخرطوم وضعت شروطًا محددة لقبول جهود الرباعية.
إجمالا، يمكن القول، إن نطاق الشرعية والملكية السودانية يبدو مسألة حاكمة، حيث أن الرباعية تعمل طبقا لآليات الدبلوماسية الدولية، بشكل سريع ومترابط (وقف إنساني للنار→ هدنة شاملة→ انتقال سريع مدته تسعة أشهر)، بينما تفتقد إشراكا للفاعلين السياسيين في صياغة خارطة الطريق السياسية الذين يوصون بتدرج أكثر حذرا، يسمح بترتيبات أمنية فعالة لضمان الاستدامة، كما أن اللجنة الرباعية لم تضع آليات واضحة للمساءلة العامة في النسخة الأولية من البيان، في المقابل، كثير من القوى المدنية تشترط ربط أي هدنة بمسارات عدالة انتقالية ومحاسبة.
وبطبيعة الحال، هناك تداعيات لحالة التمايز بين الرؤى، إذ أن شرعية محلية مفقودة تعني رفضا شعبيا أو حزبيا لاحق لأي اتفاق، يتم رؤيته كـ«فرض خارجي»، ما يعطّل التطبيق، ويزيد احتمال الرجوع إلى الحرب.
كما أن غياب ضمانات ملموسة لقطع خطوط التمويل والتسليح سيقوّي قدرة الفصائل على نسف الهدنة.
فضلا عن أن إهمال قضايا العدالة الانتقالية قد يحوّل الهدنة إلى صفقة، تضفي شرعية سياسية على أساليب البقاء العسكري.
إجمالا، يبدو أنه على الرباعية الدولية بعد الفراغ من أزمة غزة المرتقبة، فإنه على اللجنة الرباعية إعادة بلورة خارطة للحل في السودان لتراعي عدد من الأمور منها، أولا: خلق قوى محلية دافعة وراء هذه الخارطة أي الملكية المحلية للحل، ولا بد وأن تعتمد على الحوار بين القوى السياسية، بشرط أن يتم الإعداد الجيد لهذا الحوار بفهم عميق لأزمة الحرب السودانية وطبيعة الصراع بين أطرافها وتاريخيته، ومنها، ثانيا بلورة آليات رقابة ميدانية صارمة لتنفيذ خارطة الطريق، دون هذا المجهود، فإن فرص التحول بالسودان من وقف نار إنساني مؤقت إلى تسوية سياسية مستدامة تظل ضعيفة.