كلنا خلف أمريكا، وأمريكا خلف إسرائيل، وإسرائيل تحقق بالقوة الوحشية كل ما تصبو إليه من التدمير الكامل لآخر بقايا المناعة الذاتية في الشرق الأوسط، بمعناه العربي الإسلامي، فخلال عامين كاملين من حرب الإبادة الفلسطينية ضد المقاومة وضد غزة، نجحت إسرائيل بدعم عسكري ودبلوماسي أمريكي وغربي في القضاء ليس فقط على آخر قلاع المقاومة المسلحة في فلسطين التاريخية، كما نجحت في القضاء على ظهير المقاومة في لبنان وسوريا واليمن وإيران، ففي العامين تخلصت إسرائيل- إلى حين- من كافة مصادر التهديد المسلح، سواء كانت حقائق واقعة أو كانت هواجس محتملة. وعند هذه اللحظة توقفت الحرب، توقفت من تلقاء ذاتها، توقفت ولم يوقفها أحد، توقفت بعد أن حققت أغراضها الاستراتيجية الكبرى، انخمدت جذوتها ثم انطفأت نارها، حين لم تعد تجد ما تأكله، أكلت نار الحرب كل خطر واقع أو متوقع على أمن إسرائيل من أي جهة جاء، ومن أي طرف كان من غزة إلى بيروت إلى صنعاء إلى دمشق إلى طهران، كانت الحرب بروفة لتجريب القواعد الأولية لامتلاك إسرائيل حرية ممارسة العدوان في أي مكان، تعتبره من مجالها الحيوي، ومن ثم كانت الحرب تمارين وتدريبات إسرائيلية على امتلاك مفاتيح التأثير في إعادة بناء شرق أوسط صهيوني التوجهات تحت مزاعم السلام.
بانتهاء الحرب في خريف 2025، تكون قد انتهت المائة عام الأولى من الثورة الفلسطينية التي بدأت في عشرينيات القرن العشرين، وتواصلت صعوداً وهبوطاً مائة عام كاملة، انتهت بالمقتلة العظمى التي ترك فيها العالم كله إسرائيل، تمارس أشد أشكال الوحشية، حتى قتلت خمسة وسبعين ألف فلسطيني، ومسحت كل العمران البشري في قطاع غزة، في هذه الأعوام المائة لم تتغير قواعد اللعبة:
1- الصهيونية قبل وبعد تأسيس دولتها، تنتهج العنف سبيلاً لتكون كافة أرض فلسطين التاريخية محلاً للدولة العبرية، وذلك يقتضي ثلاثة أشكال من التعامل مع أصحاب الأرض من الفلسطينيين: القتل، التهجير، الخضوع المطلق للسيادة الإسرائيلية كمواطنين من درجة أدنى، لم يكن لدى الصهيونية- في قرارة نفسها- أي مكان لفكرة الدولة الفلسطينية. فلسطين بكاملها لليهود سواء بالاحتلال أو بالاستيطان أو بالإبادة أو بالتهجير، هذه هي الحقيقة الصهيونية الأكبر، لكن بعضنا يحب أن يغالط في الحقائق نفسه، وفق التعبير البليغ لشاعر العربية الأكبر أبي الطيب المتنبي، إذ يقول “ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع”، كافة الحكومات العربية والإسلامية تجري في الظاهر وراء مطلب الدولة الفلسطينية أو حل الدولتين، وهي تعلم أن ذلك في الواقع وبحكم الحقائق على الأرض هو المُحال بعينه ولحمه وشحمه. وشرح ذلك بسيط جداً: إذ ألف باء الواقع هو أن الاستيطان يتواصل على مدار الساعة لا يتوقف، وهذا معناه أنه لن يوجد مجال أرضي أو حيز من تراب وطني، تنشأ عليه الدولة الفلسطينية، فقط كل المسموح به هو سلطة فلسطينية، أقرب ما تكون إلى إدارة شؤون بلدية وقروية، ثم يُطلق عليها اسم الدولة، بينما لا يتجاوز دورُها التاريخي، ما وصفها به المفكر الفلسطيني الأبرز إدوارد سعيد، عندما كتب عام 1994، يتنبأ أن مثل هذه السلطة الفلسطينية أو الدولة الفلسطينية، لن تكون غير ساعد أيمن لإسرائيل أو ذراع يُمنى لإسرائيل، وبعد ثلاثين عاماً كاملة صدقت وتحققت نبوءة إدوارد سعيد إلى حد كبير، فقد كانت سلطة رام الله على مدار العامين أقرب ذهنياً وفكرياً وروحياً إلى المنطق الصهيوني وأبعد بالمقدار ذاته عن منطق المقاومة. الفرق بين منطق سلطة رام الله ومنطق المقاومة ليس في ارتكاب أو عدم ارتكاب أخطاء، فالمقاومة وقعت في الكثير من الأخطاء التي لا يجوز اعفاؤها من مسئوليتها، لكن الفرق بين منطق رام الله ومنطق المقاومة هو في جذور الموقف المبدئي من إسرائيل: هل إسرائيل مجرد آخر نختلف معه على أرض واحدة؟ أم أن إسرائيل قوة غزو واحتلال واستيطان، تغتصب أرضاً ليست أرضها وتقتل من عليها أو تخرجهم من ديارهم بالإكراه أو تُخضعهم لسيادتها كمواطنين من درجة أدنى؟ منطق رام الله هو التطور الطبيعي والترجمة الأمينة للمواقف الرسمية العربية والإسلامية منذ وعد بلفور 1917، بل وبعد حرب 1948، وخلاصة هذا المنطق، أن إسرائيل جاءت لتبقى، ولولا مشاعر الرأي العام العربي والإسلامي لكان الحكام العرب والمسلمون صارحوا شعوبهم بهذا المنطق دون تردد ولا وجل ولا تهيب، كل ما هنالك، أن الحكومات لا تحب مصادمة مشاعر الشعوب في قضية لها درجة عالية من الحساسية.
2- تجرد السياسة الدولية في عصر التفوق الغربي من الأخلاق ومن العدالة ومن حساب الضمير، هذه التنحية للأخلاق بعيداً عن السياسة بررت الاستعمار الغربي، ولا تزال تبرر الهيمنة الأمريكية، ثم هي من بررت جريمة وعد بلفور، ثم الانتداب البريطاني على فلسطين، ثم إقامة إسرائيل، ثم التبرير، الذي لا يكل ولا يمل، لكل ما ارتكبته وتقترفه الصهيونية من جرائم في حق شعب مستضعف أعزل، يتم تجريده من أرضه ونزعه من تاريخه بقصد تصفيته والقضاء عليه. الضمير الرسمي الغربي والأمريكي يتقبل كل ذلك في الواقع، لكن مع اعتماد لغة دبلوماسية منافقة كاذبة مداهنة. تاريخ الغرب الحديث هو تاريخ نزع الأخلاق من السياسة، سياسة ميتة القلب، سياسة محترفة لا تضع نداء الضمير في حسبانها، بل تعتبره نقطة ضعف سواء في سياسة الدولة أو تكوين رجل الدولة. هذا يفسر لك أمرين: أولهما، لماذا ترك الغرب إسرائيل عامين كاملين تقترف جرائم إبادة، تخالف كل ما يعلنه الغرب من مبادئ التمدن والتحضر والتسامح والتعايش والسلام إلى آخر ترسانة الفكر الغربي الحديث، الغرب لم يتركها فقط تقتل وتدمر، لكن بعضهم زودها بالسلاح، وبعضهم زودها بالمال، وبعضهم بالدبلوماسية والإعلام، وكلهم باستثناء إسبانيا، كانوا ساعد إسرائيل الأيمن، كما كانوا ساعدها الأيسر. كشف الغرب الرسمي خلال عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة عن وجه استعماري قاس بارد خشبي، لا يتردد في التغييب الكامل لنوازع الأخلاق ونداءات الضمير وهمس المشاعر عن ضرورات السياسة، وضرورات السياسة في هذه الحال، هي أن إسرائيل ولدت لتبقى وتبقى لتتفوق على كل من حولها، ولا يوجد ما يمنع أن تحمي نفسها، ولو بإبادة أعدائها. وثاني الأمرين، هو على النقيض من ذلك، هو تجليات الضمير الشعبي الغربي، ضمير الأجيال الشبابية بالذات، صحوة مستقبلية هي أروع ما كسبته المقاومة الفلسطينية، بما قدمته من شهداء وتضحيات، لو كنا نعقل، فإن هذه الصحوة هي أقوى سلاح تملكه المقاومة، حتى لو نزعوا سلاحها أو حاصروها أو منعوها الحصول على السلاح بكل سبيل، المؤكد أن تسليح المقاومة لن يكون ميسوراً ولو إلى حين، ولو كانت المقاومة تمتلك الذهنية والروحية والأدوات الثقافية التي تمكنها من استثمار صحوة الضمير الإنساني في المجتمعات الحرة، فإنها بذلك تعوض بالسلاح الأدبي ما ينزعونه من سلاح مادي.
3- الشرق الأوسط منذ نجحت الثورات المضادة في إجهاض الربيع، يسير في ثلاثة اتجاهات: أولها، أن الإسلام السياسي لن يحكم إلا إذا كان على غرار النموذج التركي، أي يلتزم بالتوجهات الكبرى للصهيونية وأمريكا، ثم يكون له هوامش للحركة في الإقليم، حسب ذكائه وحسب إمكاناته وحسب توافق هذا الهامش مع مجمل توجهات أمريكا والصهيونية، وفي هذا السياق مسموح لتركيا أردوغان بهوامش كبيرة، فيما يخص مواجهة النفوذين الروسي والإيراني على وجه التحديد، حرب الطوفان ثم الإبادة، كانت اختباراً لجدارة أردوغان وقد نجح في الامتحان، وأي إسلام سياسي تتوفر فيه ألمعية أردوغان في التوازن بين خدمة المصالح الصهيونية والأمريكية مع خدمة المصالح الوطنية مع الحفاظ على صورته الشخصية من السقوط في أعين شعوب الإقليم، فهو نموذج مقبول، غير ذلك، فإن الشرق الأوسط لن يتسع لحكم إسلام سياسي، ينقصه التمرين والتدريب على الالتزام بقواعد اللعبة. الاتجاه الثاني: أنه لا مجال بعد اليوم لفكرة المقاومة المسلحة، والقضاء عليها سهل، فمن قام بها مثل حماس والجهاد وحزب الله والحوثيين، كانوا مدعومين من إيران، وإيران يحكمها نظام يتداعى تحت وطأة شيخوخة سياسية، تنخر في عظامه، وقد جرت قصقصة ناجحة لأذرعها، كما تم نتف ريشها وانكسر غير قليل من هيبتها، وتم شغلها بنفسها، فهي تلف وتدور في مكانها تحاصرها الأزمات من داخلها ومن خارجها. الاتجاه الثالث: سيكون على المقاومة وأنصارها من كافة شعوب العالم، أن تعيد تعريف نفسها واختيار أدواتها وترسيم مجال حركتها وفق واقع جديد، كانت هي العنصر الأهم في صناعته، ثم صارت هي الضحية الأولى من ضحاياه، وبات يلزمها رُوحا إبداعية خلاقة مرنة تستوعب الواقع الكابوسي الذي شاركت في صنعه، ثم تستثمر القيم النبيلة والعظيمة التي أشرقت على الإنسانية من روح الفداء وقيم الاستشهاد ومواكب الشهداء الذين جادوا بأرواحهم الطاهرة، قيم مشرقة تقف على طرف النقيض مع قيم واقع عالمي انتهت به النيوليبرالية إلى طرق مسدود.