تثير السيطرة الإسرائيلية على مراكز صناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي اتضحت معالمها بصورة فجة في عهد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، تساؤلات حول كيفية تغلغل النفوذ الإسرائيلي في واشنطن، وتوغل تل أبيب في مفاصلها على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتوفير أرضية راسخة لها في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية.

استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو ست مرات ضد وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، ومنذ عام 1972 حتى 2013، استخدمت واشنطن “الفيتو” 50 مرة ضد قرارات، تتعلق بإسرائيل من أصل 79 مرة، بما يعادل 64%، كما لم تتوقف تدفقات الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل في الإبادة منذ اليوم الأول لحربها ضد قطاع غزة، وعلى مدار عامين كاملين.

تسيطر على أفكار السلطة في الإدارة الأمريكية حاليًا، مجموعة من اليهود المؤيدين لإسرائيل في مقدمتهم إيفانكا ترامب ابنة الرئيس التي تخلت عن المسيحية، واعتنقت الديانة اليهودية مثل زوجها جاريد كوشنر كبير مستشاري والدها، والذي يلعب الدور الأهم في اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية المعروفة باسم اتفاقيات إبراهيم.

إيفانكا وكوشنر، يمكن تصنيفهما ضمن اليهود الملتزمين، حاليًا، إذ يحضران اجتماعات المعابد اليهودية الأرثوذكسية، وأرسلا أطفالهما إلى المدارس النهارية لليهود، ونفوذهما متغلغل مع اليهودية والدول الخليجية معًا، خاصة أن كوشنر يدير شركة استثمار بمليارات الدولارات مرتبطة بدول في الخليج العربي.

كوشنر رأس الحربة في دعم إسرائيل

كوشنر مولود لعائلة يهودية من نيوجيرسي لها علاقات جيدة مع المسئولين السياسيين بإسرائيل ومع اللجنة الأمريكية للشؤون العامة الإسرائيلية “إيباك” التي تُمثّل اللوبي الذي يستخدمه يهود الولايات المتحدة لتوفير الدعم لدولة الاحتلال بجميع أشكاله، وفي مقدمتها الدعم المالي وحملات التبرع في انتخابات الكونجرس.

درس كوشنر بمدرسة يهودية خاصة في نيوجيرسي، والتحق بجامعة هارفارد، رغم أن علاماته الدراسية كانت سيئة، بفضل تبرع والده للجامعة بمبلغ 2.5 مليون دولار، كما حصل في جامعة نيويورك، عام 2007 على شهادة في القانون، وهي الجامعة نفسها التي تبرع لها والده بمبلغ ثلاثة ملايين دولار عام 2001.

رسخ كوشنر الابن وجوده في عالم العقارات، خاصة بعد سجن والده شارل كوشنر عام 2004 بتهمة التهرب الضريبي ورشوة الشهود، واشترى ناطحة سحاب قرب أبراج ترامب بمبلغ 1.8 مليار دولار، كما اشترى صحيفة “نيويورك أوبزرفر” الأسبوعية بمبلغ 10 ملايين دولار، وهو سلوك يتبعه الكثير من رجال الأعمال اليهود، الذين لديهم وسائل إعلام تتناول العالم وفقا لرؤيتهم.

وجوه يهودية تحيط بترامب

من الوجوه المؤثرة في اليهودية قرار إدارة ترامب ستيفن ميلر الذي يملك شركة، تُدعى “أمريكا أولاً ليجال”، وديفيد فريدمان محامي ترامب في قضايا الإفلاس قبل عام 2016، وسفير إسرائيل خلال إدارته الأولى وكان جزءًا أساسيًا من الفريق الذي حقق قائمة طويلة من أولويات الحكومة الإسرائيلية من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس إلى التوسط في اتفاقيات إبراهيم.

من بين الشخصيات أيضًا ستيف ويتكوف الذي أصبح مشهوًرا خلال الشهور الأخيرة، باعتباره مبعوث لترامب للشرق الأوسط، وويتكوف، رجل أعمال بمجال العقارات وصديق ترامب في رياضة الجولف منذ ثمانينيات القرن الماضي، كما تتضمن القائمة ميريام أديلسون، المتبرعة السخية للقضايا المؤيدة لإسرائيل واليهودية، مقتفية إرث زوجها الراحل، قطب الكازينوهات شيلدون أديلسون.

كما تتضمن بوريس إبشتاين مساعد مخضرم لترامب وخبير إستراتيجي سياسي، وهوارد لونتيك، الملياردير ورئيس شركة كانتور فيتزجيرالد المالية، وهو من داعمي القضايا المؤيدة لإسرائيل، بما في ذلك مجموعة المستجيبين الأوائل “يونايتد هتسلاه” و”بيرثرايت”، التي تنظم رحلات مجانية لمدة 10 أيام للمجموعات اليهودية إلى البلاد.

تتضمن القائمة المحيطة بترامب إليزابيث بيبكو عارضة أزياء سابقة، وكثيرًا ما تدافع عن القضايا اليهودية والمؤيدة لإسرائيل، وكانت عام ٢٠١٩، متحدثةً باسم مجموعة تُدعى “جيكسودوس” التي تُشجع الشباب اليهود على ترك الحزب الديمقراطي، كما انتقدت مرارًا معاداة السامية في الجامعات (تقصد المؤيدين لفلسطين بالجامعات).

من الوجوه اليهودية أيضًا لي زيلدين، عضو الكونجرس اليهودي السابق، والذي دائمًا ما يفتخر بتأسيس جده لكنيس يهودي بأمريكا، ولورا لومر، وهي يهودية يمينية متطرفة وذات سجل حافل بالتعليقات العنصرية والمتعصبة ضد المسلمين، وسيد روزنبرج المُدافع الشرس عن إسرائيل بعد هجمات 7 أكتوبر، وويل شارف محامي سابق لترامب، والذي تفاخر في لقاء مع موقع Jewish Insider، بأنه يحضر صلوات السبت في كنيس حاباد.

تشمل القائمة أيضًا مارك روان، المستثمر الملياردير في وول ستريت، وهو حفيد أستاذ اقتصاد بجامعة نيويورك، يُدعى إيمانويل شتاين، المعروف باستشهاده بالتلمود في كل أفكاره “العلمية” والعملية، كما يشغل منصب رئيس مجلس إدارة اتحاد اليهود المتحدين في نيويورك، وتلقى انتقادات؛ بسبب استخدام نفوذه لمكافحة النشاط المناهض لإسرائيل في الحرم الجامعي بعد السابع من أكتوبر.

نفوذ يهودي متغلغل منذ عقود

النفوذ اليهودي متغلغل في أمريكا منذ تأسيسها، فأقطاب رجال الأعمال الكبار مثل هنري ليمان ماركوس جولدمان، مؤسس بنك جولدمان ساكس، وإبراهام كون، مؤسس كون لوب، أصبحت شركتاهما من أكبر الأسماء في وول ستريت، وجاكوب شيف، الذي استطاع بعد الحرب الأهلية الأمِريكية توجيه ملايين الدولارات من رأس المال الاستثماري الأوروبي إلى الصناعة الأمريكية، وخاصةً قطاع السكك الحديدية، ولعب دورًا حيويًا في تحويل الولايات المتحدة من سوق ناشئة إلى قوة اقتصادية عظمى.

لليهود أيضًا الفضل في تأسيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فـ “بول واربورج”، مؤسس شركة كون لوب الذي وصل إلى الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين قاد الجهود المبذولة لإنشاء بنك مركزي، وكان أحد مهندسي نظام الاحتياطي الفيدرالي، وعضوًا في أول مجلس إدارة له، والغريب أن الدور الأكبر كان لليهود الألمان، وأجداد ترامب كانوا مهاجرين من ألمانيا أيضًا.

العقول الثلاثة الأكثر أهمية للنظام النقدي الأمريكي، هم في الأساس من اليهود سواء بول واربورج، اليهودي الألماني الذي كتب قانون الاحتياطي الفيدرالي، وإيمانويل جولدن وايزر، اليهودي الروسي الذي أشرف على تفاصيل عمليات مجلس الاحتياطي الفيدرالي خلال الثلاثين عامًا الأولى من عمره، وهاري دكستر وايت، سليل عائلة يهودية ليتوانية، والذي أسس صندوق النقد الدولي.

تطور التغلغل الإسرائيلي على مدار قرون، حتى بات يتحكم فيمن يصل للبيت الأبيض فـ60% من التمويل الذي يحصل عليه الحزب الديموقراطي، و35% للحزب الجمهوري مصدره اليهود الموالون للكيان الصهيوني، كما تموضعوا بشكل كبير في وسائل الإعلام بجميع أنواعه ولديهم شبكة من محامين وأطباء وأكاديميين ونقابيين وفصائل طلابية في مختلف الجامعات الأمريكية تدعم إسرائيل.

التنوع الاقتصادي.. خطة الشركات اليهودية

تغلغلت الشركات الإسرائيلية بمختلف المجالات في الولايات المتحدة الأمريكية، فالعديد من الشركات البارزة في الولايات المتحدة أسهها اليهود، والتي تتنوع مجالاتها بين الأطعمة والمشروبات مثل، سنابل ودانكن دونتس وهاجن داز و”بن آند جيريز”، لكنهم ركزوا في العقدين الأخيرين على التقنية مثل، الفيسبوك وجوجل وأوركل، وغيرها من الشركات الكبرى.

منذ عام 2004، تمكنت أكثر من 40 شركة إسرائيلية من الاستثمار في مقاطعة فيرفاكس بولاية فيرجينيا الأمريكية، ومن عام 2016 تم إدراج أكثر من 60 شركة إسرائيلية في بورصة ناسداك في نيويورك.

مدينة نيويورك موطنٌ لـ 560 شركة ناشئة بمجال التكنولوجيا أسسها إسرائيليون، وفي العام الماضي، بلغ عدد الشركات الناشئة الإسرائيلية بنيويورك، بما في ذلك الشركات العامة 450 شركة في المدينة التي يعتبرها أكثر من 20 ألف إسرائيلي موطنًا لهم، أما قائمة الشركات التي أسسها اليهود في أمريكا ضخمة، وتتضمن أسماء في مجال التقنية والترفيه يعتمد عليها العالم كله مثل (جوجل، وديل، وفيسبوك، وورنر بروس، ودريم ووركر).

وفر التعاون التقني مجالات واسعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي استفاد على مدار 4 سنوات من تكنولوجيا مايكروسوفت الأمريكية لتشغيل نظام مراقبة قوي، يجمع ملايين المكالمات الهاتفية المدنية الفلسطينية التي تُجرى يوميًا في غزة والضفة الغربية عبر الوحدة 8200، وهي وكالة التجسس العسكرية النخبوية، قبل أن تكتشف الشركة الأمريكية أن تل أبيب انتهكت شروط خدمة الشركة بتخزينها هذا الكم الهائل من بيانات المراقبة على منصة Azure السحابية.

ووفقًا لعدة مصادر، كان هذا الكم الهائل من المكالمات المُعتَرضة- والذي بلغ حجمه 8000 تيرابايت من البيانات- مُخزّنًا في مركز بيانات تابع لشركة مايكروسوفت في هولندا، لكن الوحدة 8200 قد نقلت بيانات المراقبة بسرعة إلى خارج البلاد.

رغم أن اليهود لا يمثلون إلا 2.4% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه تزداد نسبة تمثيلهم في الجهات الاقتصادية المختلفة، بما فيها البنوك والوزارات وغيرها من الجهات الأخرى، وهو الأمر الذي جعلهم من الفئات الأساسية التي تُشارك في القرار الاقتصادي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن رؤوس أموال اليهود داخل البنوك الأمريكية، تعطيها انتعاشة كبيرة، ولو سحب اليهود هذه الأموال لتعرضت البنوك إلى الانهيار، الأمر الذي يفرض نفوذًا كبيرًا لليهود على الإدارة الأمريكية.

إسرائيل.. مصنع أمريكي بالوكالة

 تُقدّم الولايات المتحدة لإسرائيل 3.3 مليارات دولار سنويًا- لا يشمل التمويل الإضافي- تستخدم إسرائيل جزءًا كبيرًا منه لشراء أسلحة أمريكية، وبدأت هذه الممارسة في سبعينيات القرن الماضي، عندما وافقت الولايات المتحدة، بعد حرب عام 1973، على منح إسرائيل مساعدات عسكرية؛ ويُسمح لإسرائيل بكسب فوائد على هذه المنح.

بدعم كبير من الولايات المتحدة، أصبحت إسرائيل مُصدّرًا عالميًا رئيسيًا للأسلحة، وبفضل الرعاية الدقيقة من قِبَل جماعات الضغط القوية، اكتسب دعم إسرائيل قاعدة جماهيرية محلية قوية.

في عهد الرئيس السابق جو بايدن، حطم التمويل الأمريكي لإسرائيل جميع الأرقام القياسية السابقة؛ ومن المرجح، أن يُحطمه الرئيس ترامب مجددًا، ويستمر هذا رغم استمرار احتلال إسرائيل غير الشرعي لفلسطين، فضلًا عن الفظائع المروعة المرتكبة ضد المدنيين في غزة والضفة الغربية.

بفضل الدعم الأمريكي أصبحت الأسلحة مصدر دخل رئيسي لإسرائيل، حيث ساهمت في عام قياسي بلغ 14.8 مليار دولار من صفقات تصدير الأسلحة عام 2024، ما يضع دولة الاحتلال، التي يبلغ عدد سكانها 10 ملايين نسمة فقط، في المركز الثامن في قائمة مصدري الأسلحة بالعالم، متأخرة بفارق نقطة واحدة فقط عن بريطانيا، ومتقدمة بفارق كبير على كوريا الجنوبية وتركيا، وهما نجمان صاعدان في مبيعات الأسلحة.

الولايات المتحدة تروج أيضًا للسلاح الإسرائيلي أيضًا، إذ استخدمت مؤخرًا صاروخ سبايك إنلوس الإسرائيلي في مروحيات أباتشي الهجومية، وتم تزويد دبابات أبرامز إم- 1 التابعة لأربعة ألوية أمريكية بأنظمة “تروفي” الإسرائيلية، التي تحميها من الصواريخ والطائرات المسيرة، ويستخدم الإسرائيليون كلا النظامين منذ سنوات ضد حزب الله في لبنان وحماس في غزة.

الجائزة الكبرى التي تتطلع إليها الشركات الإسرائيلية تكمن في أمريكا، حيث يُخطط دونالد ترامب لإنفاق مليارات الدولارات على برنامج الدفاع الصاروخي “القبة الذهبية”، وهو شبيه بـ”القبة الحديدية” في إسرائيل، ويُصرّ على أن شركات أمريكية ستُطوّر هذا البرنامج، وتُبنَى من قِبله، لكن من المتوقع أن تسلك هذه الشركات الطريق المُختصر الواضح المتمثل في استخدام الخبرة الإسرائيلية، وهو ما يعبر عنه بواز ليفي، رئيس شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية المُصنّعة لنظام “آرو” الذي قال، إن “الشركات الأمريكية ستكون في طابور الشراكات الاستراتيجية”.