خبير موارد مائية: رسائل القاهرة واضحة ومحددة وقد لا نحتاج الحل العسكري.

الكنيسة تتمسك بـ”ورقة الدبلوماسية الشعبية” كحل مبتكر لتحريك المفاوضات.

فيما يشبه ضربة مزدوجة، بحسب وصف محللين، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية، عدة تصريحات بشأن الموقف المصري من سد النهضة، تزامنًا مع انعقاد قمة شرم الشيخ، مؤكدًا أن القاهرة لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء إدارة إثيوبية غير منضبطة.

ولاقت تصريحات “السيسي” خلال أسبوع المياه، الأحد الماضي، ترحيبًا واسعًا، نظير كونها مرتبة في سياقاتها، حاسمة في حتمية التصدي لأية أضرار، قد تلحق بمصر؛ جراء تصرفات وخطوات غير مسئولة من الجانب الإثيوبي- على غرار ما لحق بالسودان- الأسبوع الماضي.

وسبق أن حذرت القاهرة في سبتمبر من العام الماضي، من المساس بأمنها المائي، في سياق خطاب رئاسي إبان تخريج دفعة جديدة من الأكاديمية العسكرية، أكد خلاله السيسي على أن مصر تستخدم كافة أدواتها لمواجهة الشر المحتمل.

وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال الفترة ذاتها، قال وزير الخارجية بدر عبد العاطي في كلمته: “مخطئ من يتوهم، أن مصر ستغض الطرف، أو تتسامح مع تهديد وجودي لبقائها”.

رسائل القاهرة في “أسبوع المياه”

وبما تضمنه الخطاب الرئاسي الأخير بشأن تهديدات سد النهضة للأمن المائي المصري، وتعثر المفاوضات منذ 10 سنوات مع الجانب الإثيوبي، اعتبر محللون، أن “إثيوبيا” ستكون وجهة “السيسي” القادمة لحسم الملف الأهم، في أعقاب إتمام اتفاق إنهاء الحرب على غزة، والمضي قدمًا باتجاه إعمار القطاع.

يقول د. عباس شراقي- أستاذ الجيولوجيا، والموارد المائية: إن لغة الخطاب الرئاسي بشأن “سد النهضة” إبان أسبوع المياه، وعلى مقربة من انعقاد قمة “شرم الشيخ”، تعكس حرصا على وضع الملف المائي أمام زعماء العالم في لحظة فارقة من تعنت الجانب الإثيوبي.

ويضيف خبير الموارد المائية في تصريحات لـ”مصر 360″، أن إشارة الرئيس إلى “إدارة غير منضبطة” لسد النهضة، تكشف للعالم سوء تقدير المسئولين الإثيوبيين، مما تسبب في أخطار جسيمة، نجم عنها فيضان، دمر بنية الخرطوم، بعد تصريف ما يقرب من 75 مليون متر مكعب.

وفي يوليو الماضي، وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نهر النيل، بأنه يشكل شريان الحياة للمصريين، في تصريحات قصد بها إظهار اهتمامه بملف سد النهضة، وتحريك المفاوضات.

من “الخرطوم” لـ”المنوفية”

ولم تنفك تصريحات “السيسي” التحذيرية عن الدعوة إلى تحرك دولي إفريقي لعقد اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل، وملء السد، إذ تؤكد أن لجوء مصر إلى المفاوضات ليس ضعفًا، بل تعبيرًا عن قوة الموقف، ونضج الرؤية، وإيمانًا بأن الحوار هو السبيل الأمثل.

يرجع “شراقي” الرسائل المصرية تزامنًا مع انعقاد قمة “شرم الشيخ” إلى بروتوكول متبع في أسبوع القاهرة للمياه، نافيًا تضرر مصر من تصريف مياه السد، كما حدث في السودان.

وأردف قائلًا: “ما حدث في محافظة المنوفية- الأسبوع الماضي- لا علاقة له بسد النهضة، لافتًا إلى أن السد العالي هو المتحكم في مياه النيل، وأن تأثر أراضي طرح النهر جاء؛ بسبب زيادة المياه، والأمطار”.

لكن وزارة الموارد المائية، والري حملت إثيوبيا مسؤولية تدهور الأوضاع، بعد تداعيات ما جرى بقرى المنوفية، مشيرة في بيان لها مطلع أكتوبر الجاري، إلى أن “أديس أبابا” اتبعت تصرفات أحادية متهورة في إدارة سد النهضة، واعتبرتها مخالفة للقانون الدولي، وتهديدًا مباشرًا لأمن شعوب دول المصب.

وحسب تصريحات سابقة لوكيل وزارة الزراعة بمحافظة المنوفية ناصر أبو طالب، فإن نحو 1084 فدانًا من الأراضي الزراعية تأثرت بارتفاع المنسوب، لافتًا إلى أنها أراض غير صالحة للبناء، أو الزراعة نظير طبيعتها المنخفضة، والمعرضة سنويًا للغمر.

خيارات “مصر” المفتوحة

عطفًا على ما جاء في تصريحات الرئيس بشأن “سد النهضة”، باتت كل الخيارات مفتوحة، حسب “خبير الموارد المائية”- عباس شراقي- فالقاهرة لم تعد تحتمل، وفق ما جاء في رسائل خطاب “أسبوع المياه” تهديدًا زائدًا لأمنها المائي، وألحق عبارة “لن نقف مكتوفي الأيدي” بسابقتها التي وردت في خطاب سابق “اللي عايز يجرب يجرب”.

وعن المفاوضات المتعثرة منذ 14 عامًا بين الجانبين المصري، والإثيوبي، لم يجنح خطاب “القاهرة” إلى التصعيد فقط، بقدر ما أبدى تمسكه بالشرعية الدولية إزاء التعنت الإثيوبي، فيما وصفه “شراقي” بـ”خطاب قوة”، وخطوة نحو الحسم.

ويشير- أستاذ الموارد المائية- إلى أن مصر لم تتلقَّ سوى نحو 25 في المئة من حصتها المتوقعة هذا العام. فيما أنفقت نحو 500 مليار جنيه في مشروعات مائية، تجنبًا لآثار سد النهضة.

وحسب مراقبين، فإن غياب اتفاق قانوني- ثلاثي- شامل، وملزم بشأن إدارة، وتشغيل سد النهضة، وترك دول المصب عرضة لمخاطر متكررة، هو الدافع وراء حرص “السيسي” على التلويح، بأن القاهرة لن تظل مكتوفة الأيدي، بالتوازي مع دعوته لطرح حلول مبتكرة.

ويرى “شراقي”، أن مصر تؤكد بما لا يقبل الشك قدرتها على اتخاذ أية إجراءات تجاه أية أخطار، قد لا تستطيع مواجهتها مستقبلًا، مشيرًا إلى أنها اتخذت مسارًا طويلًا من الدبلوماسية والتفاوض أمام الجهات الأممية، ومجلس الأمن.

ويستطرد قائلًا: “مصر لن تموت إذا استمر سد النهضة، لكن ذلك لا يعني استغلال الموقف ضدها، مؤكدًا أن الرئيس لا زال يجنح إلى ضرورة التوصل إلى توافق وتعاون مستقبلي، وبناء علاقات جيدة مع الجانب الإثيوبي”.

وحسب الخطاب الرئاسي تزامنًا مع “أسبوع القاهرة للمياه”- الأحد الماضي- فإن القاهرة قدمت خلال السنوات الماضية “بدائل فنية رصينة، تلبي الأهداف المعلنة لإثيوبيا، وتحفظ مصالح دولتي المصب”، إلا أن هذه الجهود “قوبلت بتعنت لا يفسر إلا بغياب الإرادة السياسية، وسعي لفرض الأمر الواقع، مدفوعا باعتبارات سياسية ضيقة، ومزاعم باطلة بالسيادة المنفردة على نهر النيل”.

وتطالب مصر والسودان بالتوصل إلى اتفاق ثلاثي قانوني ملزم قبل استكمال مراحل الملء والتشغيل، بينما تقول إثيوبيا إنها لا تعتزم الإضرار بمصالح أي دولة، وهو ما أدى إلى تجميد المفاوضات منذ عام 2024، بعد استئنافها لفترة قصيرة في 2023.

الحل العسكري.. إلى أين؟

وحول اللجوء إلى حل عسكري ضمن حزمة “الحلول المبتكرة”- حسبما تضمن خطاب الرئيس- رجح “شراقي” عدم طرحه الآن بشكل جذري، غير أنه يظل مطروحًا حال تهديد مصالح مصر المائية.

ويشير إلى أن ثمة حلول أخرى مبتكرة، قد تفي بتأمين الاحتياج المائي من بينها “طرق الزراعة، وتحلية مياه البحر، والبحث عن مصادر أخرى للمياه”، بجانب تعاون مشترك مع الدول ذات الفائض المائي عبر اتفاقيات زراعية، ومائية.

ويستطرد قائلًا: “لدينا جيش جاهز، ومستعد، لصد أي تهديد على الأرض، أو فيما يمس الأمن القومي المائي”.

 الكنيسة القبطية كورقة رابحة

بدورها لم تغب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عن مشهد الحلول المبتكرة في سياق تحريك مياه التفاوض الراكدة بين الجانبين المصري والإثيوبي، تماشيًا مع خطاب “السيسي” في “أسبوع القاهرة للمياه”.

وكانت الكنيسة الإثيوبية تابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية طوال 16 قرنًا، حيث كان يُعين البطريرك الإثيوبي بقرار المقر البابوي المصري، بجانب رسامة المطارنة، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، شهدت الكنيستان انفصالًا في عهد الإمبراطور “هيلا سيلاسي” عام 1959.

ويقول الأنبا بيمن– أسقف نقادة وقوص- ومنسق العلاقة بين الكنيستين المصرية، والإثيوبية: إن الكنيسة متمسكة بطرح تفعيل الدبلوماسية الشعبية كقوة ناعمة، تذيب جليد العلاقة بين الشعبين، كخطوة نحو تحريك المفاوضات، والحفاظ على الحق المائي المصري.

ويضيف في تصريح لـ”مصر 360″، أن الكنيسة تقدم خدماتها على كل الأصعدة الخدمية، بما في ذلك الطبية، والاجتماعية، لافتًا إلى أن ثمة مركز كبير لجراحات القلب، يعمل بـ”أديس أبابا” تحت إشراف كنسي برعاية الجراح المصري الدكتور مجدي يعقوب، ونظيره الدكتور جورج تادرس خبير القسطرة، ودعامات القلب.

الأنبا بيمن الذي أشاد بالبيان الرئاسي المصري، يشير إلى أن الكنيسة تولي اهتمامًا، ورعاية خاصة بالرسميين حال زيارتهم للقاهرة، دفعًا باتجاه السير بمحاذاة رؤية الدولة المصرية.

ويستطرد قائلًا: “نحن مؤثرون، لكننا لا نتدخل في السياسة، وهناك حين يكون ثمة تعاون مشترك يتحدثون عنا بكل خير”.

ولم تخرج الكنيسة الإثيوبية عن معادلة التأثير بشكل كلي، بعد أن صار نظام الحكم علمانيًا- على حد تعبيره- لكنها بشكل ودي تشير دائمًا إلى عدم سماحها للحكومة الإثيوبية بالتأثير السلبي على مقدرات الشعب المصري المائية.

ويروي- منسق العلاقة بين الكنيستين المصرية، والإثيوبية– أن القرن الثالث شهد واقعة خلاف مصري- إثيوبي، مما دعا الإمبراطور آنذاك إلى التلويح بتحويل مجرى النهر، غير أن الملاك ميخائيل ظهر للبطريرك- آنذاك- وطلب أن يذهب للإمبراطور، وينهاه عن فعل ذلك، وإلا سيتعرض الجميع للأذى.

ويستطرد قائلًا: “هذه الواقعة مسجلة في “الليتورجية الكنسية”، وثيقة كنسية لتخليد الأحداث الهامة، تمجيدًا للملاك ميخائيل، وعبارته: “لا تمدوا أيديكم إلى النهر، وإلا سيلحق بكم الأذى”.

يشار إلى أن مشروع سد النهضة أطلق عام 2011 بميزانية بلغت نحو 4 مليارات دولار، ويعد أكبر مشروع كهرومائي في قارة إفريقيا، حيث يبلغ عرضه نحو 1,8 كيلو متر، بارتفاع 145 مترًا.

وسبق أن أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2021، تعثر المفاوضات بين الجانبين المصري، والإثيوبي، مستنكرًا تعنت “أديس أبابا” حيال الوصول إلى توافق.