قبل أربعة عشر عاماً، منذ أن وضع رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل، ميلس زيناوي، حجر الأساس لمشروع سد عملاق على مجرى النيل الأزرق قبيل الحدود مع السودان، وتغير اسمه لأكثر من مرة، حتى سمي بمشروع سد النهضة الإثيوبي العظيم، كانت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة تستخدم مشروع السد كرمز للوحدة الوطنية، مستخدمة كل وسائل التعبئة الجماهيرية المتاحة، حتى حظي المشروع داخل إثيوبيا بإجماع شعبي واسع كمشروع وقضية عابرة للخلافات العرقية والتحديات السياسية والإقليمية، التي لا تزال سببا في إعاقة فرض السلام الاجتماعي وبناء دولة، يعيش فيها كل القوميات الإثيوبية دون اقتتال.

رغم الدعاية الإعلامية الضخمة والحملات السياسية للتعبئة الشعبية داخل إثيوبيا وعبر المهاجرين من الجاليات الإثيوبية في أمريكا وأوروبا، لم يحقق السد رغم التقدم في مراحل بنائه وتخزين المياه والبدء في تشغيل التوربينات الكهربائية، أي تقدم ملحوظ في تقديم حل سحري ومستدام لتوحيد الأمة الإثيوبية، لكن على العكس شهدت العشر سنوات الأخيرة تصاعد التوتر الداخلي واندلاع حرب التيجراي التي راح ضحيتها آلاف المواطنين، ولم يحقق اتفاق السلام الهش في 2022 الأمن الاجتماعي حتى الآن.

رمز وطني يروج للوحدة المحلية والهيمنة الإقليمية

روجت الحكومة المركزية الإثيوبية في أديس أبابا لمشروع السد كأداة قوية لتعزيز الهوية والوحدة الوطنية، والمتابع للحملات السياسة المكثفة، قد يكون السد نجح في تحقيق جزء من ذلك الهدف، وذلك بالنظر إلى التمويل الشعبي، حيث جمعت الحكومة والبنوك الإثيوبية مساهمات وسندات من المواطنين الإثيوبيين داخل البلاد وخارجها، وهي السندات التي أشعرت الإثيوبيين بالفخر بملكية هذا المشروع الضخم، وتجاوز الانقسامات العرقية والسياسية.

الخطاب الإثيوبي الرسمي ينظر دائماً إلى السد، بأنه المنقذ لتلبية النقص الحاد في الطاقة محليًا، بل وتوفير فائض للتصدير، مما يعد بمستقبل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تخدم جميع الأقاليم.

ولم تكن الأهداف المحلية فقط هي الدافع الإثيوبي الوحيد للسد، لكن هناك أيضا تحقيق حلم الهيمنة المائية على نهر النيل، والاستقلال والسيادة الوطنية، حيث ظلت الاستراتيجية والخطاب الإثيوبي، يسعيان لتفكيك الوضع القانوني والتاريخي القائم لنهر النيل وإقامة واقع جديد، تكون فيه إثيوبيا هي المتحكم الأوحد في تدفق المياه من المنبع.

وسعت إثيوبيا لتعزيز مفهوم الهيمنة، وذلك عبر التأكيد، بأن السد هو حق سيادي مطلق غير قابل للتفاوض، وهو ما كان سبباً لإفشال كل جولات التفاوض مع مصر والسودان، وتعثر كل جهود الوساطة الإفريقية والدولية، وتعاملت إثيوبيا وفق سياسة فرض الأمر الواقع بالمضي في بناء السد وعمليات الملء أحادياً، دون التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزم مع دولتي المصب، في محاولة لتغيير مفهوم النهر الدولي، والادعاء بأن النيل الأزرق هو “نهر إثيوبي” على الأراضي الإثيوبية، وأن السيادة الوطنية تمنحها الحق المطلق في استغلاله.

هذه الدعاية الإثيوبية لاقت قبولا محليا واسعا لدى الإثيوبيين المتعطشين للانتصار، خاصة وأن الحكومة استخدمت أيضاً قضية السد كقضية وجودية “لبقاء الدولة”، والادعاء بأن السد سيكون الذراع الأقوى للسلطة في محاربة الفقر وتوفير الكهرباء لأكثر من 65% من سكان إثيوبيا المحرومين منها، مما يضع أي معارضة للسد كمعارضة لحق الإثيوبيين في التنمية.

حدود سد النهضة كحل للوحدة الوطنية

في نظرة سريعة على جذور الانقسامات والصراعات العرقية العميقة في إثيوبيا ومدى ارتباطها بقضايا هيكلية في بناء الدولة الإثيوبية ذاتها، لا يمكن تصور أن مشروع بنية أساسية ضخم، يمكنه أن يكون الحل لإنهاء هذه الصراعات وتمرير رؤية الحكومة المركزية في أديس أبابا وفرض سيطرتها على باقي القوميات.

يحمل الواقع الإثيوبي تعقيدات جوهرية، تتمثل في التحديات العرقية والإقليمية، حيث تمثل إثيوبيا واحدة من أكثر الدول تنوعاً في القارة الإفريقية من حيث العرقية واللغة والدين، وهو ما يعزز الصراعات والتوترات المزمنة، بسبب قضايا تقاسم السلطة والموارد الفيدرالية والحكم الذاتي الإقليمي.

ويشكل تشغيل سد النهضة تحديا كبيرا أمام الإدارة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد، إذا ما تعثر في تحقق الآمال المنتظرة لدى الشعب، خاصة مع حالة التوتر الإقليمي التي تصاحب إنشاء السد منذ وضع حجر الأساس حتى إعلان تشغيله، مع مصر والسودان، والحملات الدبلوماسية التي تتعرض لها إثيوبيا بصفتها دولة تهدد السلم في الإقليم بالعبث بمياه النيل.

وتبقى قضية الصراع الدائم على السلطة بين العرقيات الإثيوبية الثلاث الرئيسية، الأورومو والتيجراي والأمهرة، مسألة أعقد من أن تحسمها قدرة الحكومة المركزية على توليد كميات إضافية من الكهرباء، أو بناء سد ضخم على مجرى النيل؛ بهدف التحكم في جريان المياه في النهر وإثارة العداء مع مصر والسودان، إذ أن هذه الصراعات تدور حول الوجود، والهوية، والأرض، والتحكم في مؤسسات الدولة وامتلاك القوة، وليس الشعور بالفخر الوطني لامتلاك مشروع بنية أساسية ضخم.

ثلاثي الصراع وحروب الهوية والسلطة

منذ إنشاء الدولة القومية في إثيوبيا بمفهومها الفيدرالي، استمرت الصراعات على السلطة والموارد بين القوميات الكبرى الثلاثة، وهي الأورومو– الأكبر في عدد السكان– لكنها الأكثر معاناة تاريخياً من التهميش رغم وصول رئيس الوزراء الحالي، آبي أحمد، المنتمي للأورومو إلى السلطة، ولكنه لم ينه الصراع، بل فجر مطالب أخرى حول توسيع نفوذها، بما فتح باباً للصراع الداخلي المسلح على يد جيش تحرير أورومو.

بوصول آبي أحمد للسلطة، بدأت قومية الأمهرة، وهي ثاني أكبر قومية في إثيوبيا– وذات القوة المهيمنة على الدولة الإثيوبية تاريخياً- تشعر بالتهديد من فقدان نفوذها، لتدخل هي الأخرى في صراعات مسلحة إذ ترفض المساس بالمناطق المتنازع عليها، والتي كانت تخضع لسيطرتها، إذ تُعد جزء رئيسي من ميليشيا فانو التي تخوض صراعا مسلحا في مناطق مختلفة داخل إثيوبيا.

ولا تزال قومية التيجراي تشكل توتراً للحكومة المركزية بقيادة أبي أحمد، خاصة الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي التي اعتادت الهيمنة على الحكم لثلاثة عقود، حتى رحيل رئيس الوزراء ميليس زيناوي، حيث انتهت محاولات آبي أحمد لفض هذه الهيمنة بحرب أهلية واسعة لمدة عاميين من 2020 حتى 2022، وانتهت باتفاق سلام هش، لا يزال عاجزا عن حل جميع القضايا العالقة.

وفقاً لردود الأفعال لقادة وممثلي القوميات الإثيوبية خلال افتتاح السد في موسم فيضان النيل لهذا العام، كانت هناك حالة من الاحتفاء بالسد كقضية إجماع وطني، خلقت حالة من تحويل الانتباه عن الأزمات الداخلية وهدنة وطنية مؤقتة، لكن سرعان ما عادت الخلافات مع استعداد إثيوبيا لعقد الانتخابات الوطنية السابعة في يوليو من العام المقبل- حسب إعلان الرئيس الإثيوبي تايي أتسكي سيلاسي، في خطاب مطول أمام البرلمان الأسبوع الماضي.

لم توقف الاحتفالات بافتتاح سد النهضة المظاهرات والاحتجاجات المشتعلة في تيجراي؛ بسبب رغبة الأهالي الذين نزحوا خلال الصراع في منطقة تيجراي العودة إلى ديارهم، مع تزايد الإحباط إزاء بطء وتيرة العودة والتقاعس السياسي الملحوظ بشأن مصير الأراضي المتنازع عليها، إذ لا يزال هناك أكثر من 878,000 نازح داخل الأراضي الإثيوبية، إضافة إلى تقديرات بأكثر من 70,000 نازح من تيجراي في السودان، إذ اتهمت جبهة تحرير تيجراي في آخر بيان لها عقب افتتاح سد النهضة مباشرة الحكومة الإثيوبية بتنفيذ، ما أسمته بـ”الإبادة الجماعية الصامتة” في تيجراي، بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من توقيع اتفاق السلام.

قد يكون سد النهضة نقطة التقاء عاطفية مؤقتة، خدمت حكومة آبي أحمد في مواجهة التهديدات والتفكك الداخلي، لكنه لا يقدم أي آليات لحل النزاعات على الهوية أو الحدود الإثنية والتمثيل السياسي، وهي جوهر التحدي الوجودي الذي يواجه الحكومة الفيدرالية الإثيوبية في حماية الأمن القومي.