استعرضنا في المقالين الأول والثاني من هذه السلسلة، كيف حولت إسرائيل العملية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ إلى حرب إقليمية شاملة، مستغلة ما تملكه من تفوق عسكري ومساندة أمريكية وغربية، للذهاب أبعد بكثير مما يتطلبه الرد على العملية الفلسطينية، وذلك بالتحرك، وبكل سرعة، نحو تنفيذ مخطط أكثر اتساعا وتدميرا، يبدأ بتصفية القضية الفلسطينية من جذورها، وضم باقي أرض فلسطين التاريخية، والقضاء على كل مصادر التحدي الإقليمي المحتملة، ثم فرض الهيمنة على المنطقة كلها، للفوز بالمكاسب الاستراتيجية والاقتصادية الهائلة التي تأتي من ذلك، وصولاً إلى تحقيق حلم إسرائيل الكبرى، وهو ما أجمله رئيس الوزراء الإسرائيلي في القول، إن إسرائيل تعيد رسم خريطة المنطقة.

كما تناولنا ما تراكم لإسرائيل خلال العقود الأخيرة من تطورات داخلية، تنتقص من أسباب نجاحها التاريخي، ثم ما أضافته حرب غزة، والمنهج الجنوني الذي خاضتها به إسرائيل، من تعقيد مشاكلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداخلية، وانقلاب مكانتها عالمياً من دولة معروفة بالقوة والكفاءة وحسن التصرف إلى دولة منبوذة ومتهورة ومتهمة بقائمة من جرائم الحرب.

كان المخطط أن يكون هذا هو المقال الأخير في السلسلة، إلا أن أحداث الأسابيع الأخيرة، بدءاً بالضربة التي حاولت إسٍرائيل توجيهها إلى قيادات حماس في الدوحة، ثم القمة العربية الإسلامية التي أعقبتها، وأخيراً اتفاق وقف إطلاق النار، فرضت تأخير إكمال السلسلة، كما أضافت تطورات وتفاصيل، ترتب عليها إضافة جزء رابع.

*      *      *

فبعد توقف الحرب على الأقل مؤقتاً، أصبح واجباً التفكير في رد فعل جيران إسرائيل من الدول العربية والقوى الإقليمية الأخرى، على ما كشفت عنه الحرب، وكيف تؤثر تصرفات إسرائيل وأفكار حكومتها حول مستقبل المنطقة على حساباتهم وتوجهاتهم. وفي حين كان تركيز المقالين السابقين، على ما يجري من أحداث وتحليلها، يركز هذا المقال والمقال التالي على محاولة توقع واستقراء المستقبل، وما عسى أن تفعله دول المنطقة للدفاع عن حقوقها ومصالحها وأمنها القومي، والاستراتيجيات التي ينبغي عليها اتباعها، إذا أرادت أن تسهم في تشكيل خريطة المنطقة، وأن تمنع إسرائيل من تحقيق أطماعها ومخططاتها للهيمنة.

والمؤكد، أن ممارسات إسرائيل خلال العامين الماضيين، ومواقف وتصرفات قادتها، أظهرت وجهاً لها، كانت الدول العربية قد اختارت أن تتناساه؛ استعداداً للانتقال إلى مرحلة جديدة من التعايش معها في سنوات “عملية السلام”، بحيث لم يعد منطقياً أو مقبولاً، اعتبار وقف إطلاق النار مبرراً للعودة إلى الأوضاع السابقة، كأن شيئاً لم يكن. فقد جاءت تصرفات إسرائيل خلال هذه الحرب لتكشف عن قوة عدوانية توسعية، لا تقف أطماعها في جيرانها، إلا عند حدود قدراتها العسكرية، دون اعتبار للقانون الدولي، أو لمبادئ حسن الجوار التي تعد أساساً وشرطاً ضرورياً لإقامة علاقات طبيعية مع جيرانها، ناهيك عن الاعتبارات الإنسانية أو الأخلاقية، كل هذا مقترناً بأنها لم تعد تنشغل بصورتها لدى الرأي العام العالمي، بل ولا حتى عند قطاع متزايد من يهود العالم.

إلا أن التهديد انتقل إلى مستوى جديد وأكثر خطورة مع تواتر التصريحات والتصرفات التي تتجاوز كل الخطوط الحمراء، وكل المحرمات في العلاقات الإقليمية والدولية، بالحديث الصريح عن أطماع إقليمية وحلم إسرائيل الكبرى، الأمر الذي بلغ قمته في الاعتداء المباشر على قطر، الحليف الوثيق للولايات المتحدة والوسيط الحيوي في مفاوضات إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، في المحاولة الفاشلة لاغتيال قادة حركة حماس.

هذا التحول الجذري في طبيعة التهديد الإسرائيلي، وما شكله من صدمة كبرى لدول المنطقة، فرض عليها إعادة تعريف أولوياتها الاستراتيجية بشكل كامل. فرغم وقف إطلاق النار في غزة وبدء إغاثة سكانها، وبجانب عودة الاهتمام بمعالجة الانقسام الفلسطيني وأزمة السلطة الفلسطينية، وإلحاح العمل على إيجاد تسوية عادلة ودائمة للقضية الفلسطينية، أصبح الأمر بالنسبة لدول المنطقة جزءا من مشكلة أكبر، وهو إسرائيل ذاتها، وكيفية التعامل مع الخطر الذي يمثله المشروع الصهيوني في صورته الماثلة، بطبيعته العدوانية التوسعية، ونخبته السياسية اليمينية المتطرفة، وبمؤسسات الدولة التي تسودها النزعة العنصرية، وبجيشها الذي يمارس العنف المفرط بدون قيود، لا سيما وقد تبين تعذر إصلاح حالها وتعديل توجهاتها سواء بإبداء المرونة والكرم تجاهها، أو بانتظار أن تأتي انتخاباتها بحكومة أكثر اعتدالاً وتعقلاً، ما دامت استمرت على بنيتها السياسية والعقائدية الحالية.

يزيد من مركزية التهديد الإسرائيلي للاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط، تراجع قلق دوله من إيران بعد الضربة الإسرائيلية الأمريكية لها، وتحول تركيزها إلى الدفاع عن نفسها؛ بدلاً من التحركات التي أثارت قلق دول المنطقة، وازدياد حرصها على التقارب مع جيرانها لتأمين نفسها. كما أن هذا التحول الكبير في المشهد الاستراتيجي، أصبح يطغى على التناقض حول الإسلام السياسي، وهو ما ساهم في التقريب بين القوى العربية الرئيسية وبين كل من تركيا وقطر، بعد فترة من الجفاء والشكوك المتبادلة.

وقد جاء انعقاد القمة العربية الإسلامية في الدوحة يوم ١٥ سبتمبر ٢٠٢٥، وما قيل فيها من بيانات، وما صدر عنها من قرارات كمؤشر، على أننا ربما نكون بصدد بداية عملية تحول استراتيجي جذري في التوجهات العربية والإقليمية.

صحيح، أن القرارات لم تكن بها من الفاعلية ما يكفي للتصدي لما تقوم به إسرائيل، وإنهاء الوضع المأسوي في غزة، وصحيح أن مواقف بعض الدول العربية المهمة لا زال غير واضح. كما أن قرار مصر تجديد اتفاق استيراد الغاز من إسرائيل وتوسيعه، يثير تساؤلات حول مدى إدراك التحدي الجديد، إلا أن الإنصاف يقتضي القول، إن هذا الواقع الاستراتيجي الجديد يحتاج وقتاً لهضمه واستيعاب دلالاته، وبلورة ما يتطلبه من تغييرات كبرى في الحسابات والتوجهات، ثم ترجمة ذلك إلى سياسات على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري بكل تعقيدها وصعوبتها. والحاصل أنه، في حين كانت إسرائيل تستعد لهذا اليوم منذ عشرات السنين، لدرجة أنها أقامت الدولة واقتصادها وسياساتها الخارجية كلها لتكون جاهزة له، تصورت أغلب دول المنطقة أن الأمور تسير في عكس هذا الاتجاه تماما، نحو التوصل إلى تسوية سياسية، وتعايش وتطبيع للعلاقات مع إسرائيل، فلما جاءت لحظة المواجهة، كانت إسرائيل في قمة الاستعداد للانتصار، بينما كان جيرانها أبعد ما يمكن عن الاستعداد للتصدي لها، وكانت الفجوة بين جاهزية الطرفين، المادية والمعنوية، في أكبر حالاتها.

*      *      *

بعبارة أخرى، فإن دول المنطقة لم تعد تستطيع النظر إلى إسرائيل، باعتبارها مجرد “جار مزعج”، يمكن التعايش معه، ناهيك عن جار يمكن التعاون معه، وأصبح ضرورياً أن تشرع دوائر صنع واتخاذ القرار ومؤسسات الأمن القومي لدى هذه الدول في عملية إعادة تقييم عميقة لوضع إٍسرائيل وتوجهاتها المستقبلية، ليس فقط من باب المناصرة الواجبة لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته، وإنما أيضاً لما أصبحت تمثله من مخاطر على أمن المنطقة واستقرارها، وعلى الأمن القومي لهذه الدول ذاتها ومصالحها العليا. هذا يعني أن إسرائيل باندفاعها وشراستها في مواجهة دائرة خصومها الضيقة المسماة بـ”محور المقاومة”، فتحت الباب لنشأة دائرة أوسع من الخصومة الاستراتيجية في المنطقة، تحيطها دائرة عالمية أوسع من الاستنكار والنبذ، كرد فعل على الخطر الذي أصبحت تمثله إسرائيل لأمن واستقرار المنطقة والعالم، ولمبادئ القانون الدولي والتعايش السلمي. إلا أن الحلقة الأهم في هذه الدائرة، تظل القوى الإقليمية الأكبر، وتحديداً مصر والسعودية وتركيا وإيران، ثم تأتي بعد ذلك باقي دول مجلس التعاون الخليجي والأردن والعراق وسوريا ولبنان.

في مصر، لم يعد يُنظَر إلى الحديث عن وجود أطماع لإسرائيل في سيناء، على أنه مجرد كلام تقف معاهدة السلام بين البلدين، حائلاً دون أن يصبح خطراً فعليا، فبعد إعلان إسرائيل رغبتها في تهجير سكان غزة إلى سيناء، وتصاعد الحديث الجاد عن حلم “إسرائيل الكبرى“، بما في ذلك من رئيس الحكومة نفسه، وممارسات إسرائيل في سوريا ولبنان وقطر، انبعثت من جديد مخاوف مصر التي صاحبت بدء تنفيذ المشروع الصهيوني، وكانت سبب انخراطها في الصراع مع إسرائيل.

وبغض النظر عن أن العادة جرت على تحفظ القيادات السياسية والعسكرية في مصر عند الحديث عن إسرائيل، فإن نبرة الانتقادات المصرية انتقلت إلى مستوى غير مسبوق من الحدة، وصلت إلى استخدام مفردات كانت قد غابت عن الخطاب الرسمي المصري منذ سبعينات القرن الماضي، مثل اتهامها صراحة بارتكاب جرائم حرب، واعتبارها سبب عدم استقرار المنطقة، بل والتلميح إلى أنها عدو، وإلى استعداد مصر عسكرياً لمواجهة أي تهديد لها على نحو لا لبس في أن إسرائيل هي المقصودة به. كما كان ملفتا التطور المتسارع في العلاقات مع كل من إيران وتركيا، بعد سنوات من التوتر والشك، فيما قد يكون مؤشراً إلى تغيير في الاعتبارات التي تحكم في العلاقات الخارجية.

حتى فيما يتعلق بالنواحي العسكرية، التي يشوب تناولها محاذير عديدة في مصر، لا سيما في ضوء الالتزامات والقيود التي تفرضها معاهدة السلام، فإن عدداً متزايداً من المتخصصين في مصر وخارجها، يتحدث عن تحولات ذات دلالة في سياسة مصر الدفاعية، لا يمكن تفسيرها إلا بأنها تأتي للتعامل مع تهديد إسرائيلي محتمل.

والحقيقة، أن هذا يشابه رؤية الأردن وتخوفاتها تجاه مخططات إسرائيل في الضفة الغربية، وهو ما ينعكس في الموقف الأردني المتشدد من إسرائيل ومن مخططات تهجير سكان الأراضي المحتلة، وإن كانت الأمور تتخذ أبعاداً أكثر حساسية وخطورة في حالة الأردن؛ بسبب تركيبها الديموجرافي، وحجمها السكاني والجغرافي، وظروفها الاقتصادية وقدراتها العسكرية.

كما أن هذه التوجهات الإسرائيلية، وما تحمله من تهديد مباشر لكل من السعودية وتركيا، بعضها ضمني وبعضها صريح، تمثل أيضاً تحدياً لتطلعاتها إلى أن تصبح قوى رئيسية في المنطقة، بعد أن كانتا، قبل حرب غزة الكبرى، على استعداد للتعايش مع إسرائيل بصورة أو بأخرى. فتوسع إسرائيل في استخدام القوة العسكرية يهز بعنف مناخ الاستقرار الضروري للخطط التنموية لهذه الدول ورؤاها الاقتصادية الإقليمية، كما أن أطماع إسرائيل في الهيمنة تتصادم مباشرة مع تطلعاتها، بصورة تجعل التصدي لمشروع إسرائيل الإقليمي شرطاً لتحقيق هذه التطلعات.

وقد انعكس ذلك بوضوح في التغير الواضح في موقف السعودية من التطبيع مع إسرائيل. فبعد أن كانت الاتصالات السعودية الأمريكية الإسرائيلية، تتجه نحو صياغة ترتيبات، تتضمن تقريب السعودية إلى الاتفاقات الإبراهيمية، إن لم يكن انضمامها الكامل لها، وتحدث الإعلام عن زيارة سرية لنتنياهو إلى السعودية ولقائه بولي العهد السعودي في نوفمبر ٢٠٢٠، تحول الموقف السعودي جذرياً بعد نشوب حرب غزة الكبرى، حيث أعلنت المملكة، أن أي حديث عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل يتوقف على إقامة دولة فلسطينية، وليس فقط التحرك صوب إقامتها، هذا بالطبع بجانب استخدام لغة شديدة في إدانة إسرائيل وممارساتها.

كما أن موقف تركيا تخطى الهجوم المعتاد إلى اتخاذ خطوات عملية، امتداداً للتصعيد الذي سبق حرب غزة، عندما أوقفت أنقرة التدريبات العسكرية المشتركة ذات الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، خاصة سلاح الجو. فبعد نشوب الحرب قطعت تركيا علاقاتها التجارية مع إسرائيل، ووصلت علاقات البلدين إلى أدنى نقطة في تاريخها، وأصبحت تركيا تتحدث عن إسرائيل كتهديد استراتيجي. وقد تجسد هذا التناقض بشكل عملي في سوريا، التي تمثل الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة لحدودها ومجالها الجوي تحدياً صريحاً لتركيا، أهم حليف للنظام الجديد في دمشق.

والحقيقة، أن الضربة الإسرائيلية لقطر، وما يتكشف من أطماع اقتصادية إقليمية لإسرائيل، أوضحت لدول الخليج، أن تجنب الصدام معها أو التحالف مع الولايات المتحدة لا يكفي لتحقيق طموحاتها في الأمن والرخاء، وأن سياسات البلطجة والاستقواء التي تتبعها إسرائيل ستتصادم مع مصالحها، إن آجلاً أو عاجلاً، وستهدد ما تملكه من موارد يهمها أن تستثمرها لصالحها، وليس لإرضاء دولة أخرى أو تحت ضغط ابتزازها.

أما إيران، التي كانت قد اختارت أن تعادي إسرائيل وتتحداها مع تحالف إقليمي مسلح برعايتها، فهي تخرج من هذه الحرب الكبرى في وضع استراتيجي مختلف جذرياً؛ نتيجة للضربات الإسرائيلية والأمريكية المباشرة لها ولحلفائها في لبنان وسوريا واليمن. ولكن رغم الخسائر العسكرية والإقليمية التي لحقت بها، وما تعانيه من مشاكل داخلية، فإنها لم تتراجع عن موقفها من إسرائيل، وإن كان بحسابات تختلف عن السابق. وبعد أن كانت إيران تتجاهل مصالح حكومات دول المنطقة في مساعيها لبناء شبكة تحالفاتها الإقليمية، أصبحت تدرك اليوم، أنها تحتاج إلى مساندة الدول الرئيسية في المنطقة، في ظل ظروف جديدة، تأمل في أن تتيح لها بناء مساحة أكبر من التضامن معها، بعدما أصبحت إسرائيل تمثل تهديداً لأمن ومصالح الجميع، سواء كانوا من دول “الممانعة” أو “الاعتدال”.

*      *      *

خلاصة ما سبق، هي أن تفجر تطلعات إسرائيل للتوسع والهيمنة الإقليمية، وطموحها إلى إعادة رسم خريطة المنطقة على هواها، حَوَّلَها إلى تهديد صريح للمنطقة ولقواها الرئيسية، وتحد مباشرة لأمنها القومي ومصالحها العليا. لكن يبقى السؤال، عما إذا كان هذا سيتحول إلى مقاومة فعالة، قادرة على إحباط مساعي نتنياهو، وإعادة توجيه دفة المنطقة نحو مسار يستعيد حقوق الشعب الفلسطيني، ويحفظ الأمن القومي العربي والإقليمي والمصالح العليا لدول المنطقة، وهذا ما سيتم تناوله في المقال المقبل.

اقرأ أيضا : النظام الإقليمي القادم.. الجزء الأول: لماذا نحن هنا؟

اقرأ أيضا: النظام الإقليمي القادم… الجزء الثاني: أطماع إسرائيل بين قوتها وحدودها

        * سفير مصر السابق في إسبانيا