يُعد قطاع الإنشاءات أحد الركائز الأساسية للاقتصاد المصري، حيث يساهم بفاعلية في دفع عجلة التنمية وتشييد البنية التحتية اللازمة للتقدم. ومع ذلك، فإن هذا القطاع الحيوي يحمل في طياته وجهًا آخر أقل إشراقًا، يتمثل في المخاطر الجسيمة التي يتعرض لها العمال، والتي غالبًا ما تؤدي إلى ارتفاع معدلات الحوادث والإصابات. تبرز هنا إشكالية التباين الواضح بين الإطار التشريعي الطموح للسلامة والصحة المهنية، والواقع الميداني الذي يشهده عمال البناء في مصر. ونحن نهدف هنا إلى استعراض الوضع الراهن للسلامة في المواقع الإنشائية المصرية، وتحليل التحديات القائمة، ومقارنة ذلك بالمعايير الدولية، وصولًا إلى تقديم حلول ومقترحات عملية؛ لتحسين بيئة العمل وضمان سلامة الأيدي العاملة.
الإطار التشريعي المصري للسلامة والصحة المهنية في الإنشاءات
لقد أولت التشريعات المصرية اهتمامًا متزايدًا بقضايا السلامة والصحة المهنية، تجسد ذلك في قانون العمل المصري الجديد رقم 14 لسنة 2025. يتناول هذا القانون في الفصل الخامس منه (من المادة 202 إلى المادة 231)، بشكل مفصل، التزامات المنشآت بتوفير بيئة عمل آمنة وصحية. يؤكد القانون على ضرورة قيام أصحاب العمل بتوفير كافة وسائل السلامة والوقاية من المخاطر، وإجراء تقييم دوري للمخاطر المحتملة، بالإضافة إلى وضع خطط طوارئ فعالة؛ للتعامل مع أي حوادث قد تقع. كما يستند القانون إلى قرارات وزارية تنفيذية سابقة، مثل قرار وزير القوى العاملة رقم 211 لسنة 2003 الذي يحدد شروط واحتياطات توفير وسائل السلامة، وقرار وزير القوى العاملة رقم 126 لسنة 2003، الذي يوضح النماذج الإحصائية للإصابات والحوادث. علاوة على ذلك، يحدد الكود المصري لإدارة مشروعات التشييد (الكود رقم 311- 2009) المهام والمسئوليات المتعلقة بالسلامة والصحة المهنية في المشاريع الإنشائية. ورغم هذا الإطار التشريعي الجيد، لا تزال هناك فجوة بين النصوص القانونية والتطبيق الفعلي على أرض الواقع، مما يستدعي مراجعة مستمرة لآليات التنفيذ والرقابة.
المعايير الدولية وأفضل الممارسات (منظمة العمل الدولية)
تعتبر منظمة العمل الدولية (ILO) مرجعًا عالميًا في وضع معايير السلامة والصحة المهنية. إذ تُعد اتفاقية المنظمة رقم 167 بشأن السلامة والصحة في التشييد لعام 1988، وتوصيتها المكملة رقم 175، من أهم الوثائق التي ترسم ملامح بيئة العمل الآمنة في قطاع الإنشاءات. ترتكز الاتفاقية 167 على مبادئ أساسية، تضمن توفير بيئة عمل خالية من المخاطر، وتحدد مسئوليات أصحاب العمل في هذا الصدد، وتؤكد على حق العمال في المشاركة الفعالة في قضايا السلامة. كما تشدد على أهمية الوقاية وتوفير معدات الحماية الشخصية اللازمة. أما التوصية 175، فتركز على جوانب حيوية مثل التدريب المستمر للعمال، وتفعيل آليات التفتيش، وجمع البيانات الدقيقة عن الحوادث والإصابات. وتأتي مدونة الممارسات الخاصة بمنظمة العمل الدولية للسلامة والصحة في التشييد ((إصدار 2022)) لتقدم توصيات عملية مفصلة لتطبيق هذه المعايير. والجيد هنا، أن مقارنة هذه المعايير بالتشريعات المصرية، بالرغم من أن مصر لم تصدّق رسميًا على الاتفاقية 167، تُظهر توافقًا في الأهداف والمبادئ العامة، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في ترجمة هذه المبادئ إلى ممارسات يومية فعالة في المواقع الإنشائية المصرية.
الواقع الميداني: إحصائيات وحوادث بارزة في قطاع الإنشاءات المصري
يكشف الواقع الميداني في قطاع الإنشاءات المصري عن تحديات كبيرة في تطبيق معايير السلامة، وهو ما تؤكده الإحصائيات المتاحة، وإن كانت تعاني من نقص في الشمولية والدقة في بعض الأحيان. وقد أظهرت دراسة تحليلية لحوادث مواقع البناء في مصر خلال الفترة من 2012 إلى 2019، أن:
- أعمال الخرسانة كانت الأكثر تسببًا في الحوادث بنسبة 21.6%، تليها أعمال الحفر بنسبة 15.3%، ثم الأعمال الكهربائية بنسبة 11.4%.
- السلالم كانت مسرحًا لـ22.7% من الحوادث، والسقالات لـ20.6%، والأرضيات لـ12.4%.
- السقوط من ارتفاع كان السبب الرئيسي لوقوع الحوادث بنسبة 36.5%، يليه سقوط شيء على الرأس بنسبة 19.3%، ثم الانزلاق بنسبة 17.2%.
- وعند تحليل حوادث السقوط من ارتفاع، تبين أن 38.9% منها كانت نتيجة السقوط من ارتفاع أقل من 2 متر، و22.5% من السقالات، و21.6% من المبنى، و17.0% من السلم.
يكشف الواقع الميداني في قطاع الإنشاءات المصري عن تحديات كبيرة في تطبيق معايير السلامة، وهو ما تؤكده الإحصائيات المتاحة، وإن كانت تعاني من نقص في الشمولية والدقة في بعض الأحيان. وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ إجمالي عدد حالات إصابات العمل في مصر 8317 حالة عام 2023، بانخفاض قدره 15.6% عن عام 2022. وسجلت محافظة القاهرة أكبر عدد من حالات إصابات العمل بنسبة 24.2%.
وعلى الرغم من أن الإحصائيات العامة لا تفصل دائمًا قطاع الإنشاءات بشكل مستقل، إلا أن البيانات تشير، إلى أن أكبر عدد لحالات الإصابة كان نتيجة سقوط الأشخاص بنسبة 31.6%، يليه الإصابات الخطأ أو التصادم بأشياء بنسبة 27.0%. هذه الأسباب تتوافق بشكل كبير مع طبيعة المخاطر في بيئة العمل الإنشائية. وتُعزى هذه الأرقام المقلقة إلى عدة أسباب جذرية، منها:
- عدم الالتزام بالمعايير: مثل غياب النظافة والترتيب في المواقع، ونقص التفتيش الحكومي، وعدم كفاءة المعدات القديمة أو عدم توفرها، والتردد في تخصيص الموارد الكافية للسلامة.
- العمالة غير المدربة أو غير القانونية: التي تفتقر إلى الوعي بمخاطر العمل وإجراءات السلامة.
- الضغط لإنهاء المشاريع بسرعة: مما يدفع بعض المقاولين إلى التهاون في تطبيق إجراءات السلامة لتوفير الوقت والتكاليف.
التحديات والحلول المقترحة
تتعدد التحديات التي تواجه تحقيق بيئة عمل آمنة في قطاع الإنشاءات المصري، أبرزها نقص الوعي بأهمية السلامة بين جميع الأطراف، وضعف آليات الرقابة والتفتيش، والافتقار إلى التدريب الكافي والفعال، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية التي قد تدفع للتهاون في إجراءات السلامة. كما أن عدم وجود قاعدة بيانات موحدة وشاملة لحوادث العمل يعوق وضع استراتيجيات وقائية فعالة.
لمواجهة هذه التحديات، يمكن اقتراح مجموعة من الحلول المتكاملة:
- تعزيز الإطار التشريعي والتنفيذي: يجب تفعيل القوانين الحالية وتطبيق العقوبات الرادعة على المخالفين لضمان الالتزام بمعايير السلامة.
- تطوير ثقافة السلامة: يتطلب ذلك حملات توعية مكثفة وبرامج تدريب إلزامية ومستمرة لجميع العاملين في القطاع، من العمال إلى المهندسين والمشرفين، لغرس الوعي بأهمية السلامة.
- زيادة عدد المفتشين وتأهيلهم: لضمان الرقابة الفعالة والمستمرة على المواقع الإنشائية، مع تزويدهم بالصلاحيات والأدوات اللازمة.
- الاستثمار في المعدات الآمنة: يجب على الشركات استبدال المعدات القديمة وغير الآمنة بأخرى حديثة، تتوافق مع معايير السلامة العالمية.
- إنشاء نظام وطني موحد لجمع وتحليل بيانات حوادث العمل: يتيح هذا النظام تحديد الأسباب الجذرية للحوادث ووضع استراتيجيات وقائية مستنيرة.
- التعاون بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني: لتبادل الخبرات وتوحيد الجهود نحو تحقيق بيئة عمل آمنة ومستدامة.
الخاتمة
إن السلامة المهنية في قطاع الإنشاءات المصري ليست مجرد إجراءات شكلية أو رفاهية، بل هي ضرورة قصوى، تمليها الاعتبارات الإنسانية والاقتصادية على حد سواء. إن الاستثمار في سلامة العمال هو استثمار في رأس المال البشري، الذي يُعد المحرك الأساسي للتنمية. ومن خلال تضافر الجهود بين الحكومة، وأصحاب العمل، والعمال، والمجتمع المدني، يمكن لمصر أن تحقق بيئة عمل آمنة ومستدامة في قطاع الإنشاءات، مما يضمن حماية الأرواح، ويعزز الإنتاجية، ويدعم مسيرة التنمية الشاملة للبلاد.