الصراع مع القوى العظمى.. كيف بدأ ولماذا؟
تعتبر ثورة 1952، أول من استخدم دور مركز مصر الجيو استراتيجي والجيو ثقافي، في التحرر والاستقلال الوطني، كما وصفه بدقة الدكتور جمال حمدان، حيث بُعْدَي الموقع Site والموقف Situation. فبحكم الموقع، كانت مصر دائمًا ملتقى العرب، وأحيانًا ملجأً وملاذًا، بل وخط دفاع أخير عن التراث العربي. ففي العصر الوسيط، حين بدأت أخطار الأندلس وقلاقل المغرب، تدفق العلماء والصناع على مصر (كابن خلدون مثلًا)، ومن العراق مع الطوفان المغولي وبعده، انتقلوا بالآلاف إلى مصر. وفي العصور الحديثة خاصة، كانت مصر بؤرة، تستقطب موجات النازحين والمهاجرين من الشام من المثقفين والمضطهدين، وفي كل الحالات، كانت تلعب دور المنار للإسلام والعروبة. وفي النتيجة تبدو مصر في حدود تجانسها القاعدي الأساسي، مع ذلك، بوتقة العالم العربي في معنى ما.
ومن ثم، فلا ترجع الحركة السياسية لجمال عبد الناصر إلى تطلعاته التي تتجاوز حدود مصر- كما ذكر كمال حسن علي في مذكراته- ولكنها كانت استراتيجيته في السياسة الخارجية، بل كما أشار مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم. والتي تحقق المصلحة الوطنية المصرية من جهة، ومصلحة العالم العربي والعالم الثالث من جهة أخرى.
خلفيات ميلاد السياسة الخارجية المصرية
يمكن القول إن عام 1955، هو عام ميلاد السياسة الخارجية المصرية، كما يقول السفير عبد الرؤوف الريدي. فقد كانت مصر قد توصلت لاتفاق الجلاء مع بريطانيا عام 1954. فرغم أن تصريح 28 فبراير 1922 أعاد وزارة الخارجية، إلا أنه لم تكن هناك سياسة خارجية مصرية، فقد كان الاحتلال البريطاني هو من يحدد اتجاه علاقات مصر الخارجية. وبجانب الاحتلال البريطاني، كانت هناك قوة جديدة معادية، قد ظهرت في الإقليم قبل سبع سنوات وهي إسرائيل، خاضت مصر معها أولى حروبها عام 1948، وانتهت بتوقيع اتفاقية الهدنة عام 1949.
خلال الثلاثين عامًا التي أعقبت عودة وزارة الخارجية عام 1922، كانت السياسة الخارجية المصرية قبل 23 يوليو 1952– إذا جازت التسمية- محورها الأساسي المفاوضات مع بريطانيا من أجل الجلاء، ولا شيء آخر. فبعكس ما يرى عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق: “أن السياسة الخارجية المصرية لم تبدأ من الصفر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، حين ضرب بعض الأمثلة على ذلك، “فمثلًا اعتراف مصر بالاتحاد السوفيتي في وزارة الوفد، والذي اتخذ القرار في وزارة على ماهر عام 1939، ووٌضع موضع التنفيذ في وزارة الوفد عام 1943”. باعتباره دليلًا على استقلالية الوفد، فالوفد كان بأمر بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية عام 1942، رغمًا عن أنف الملك، وليس بأمر الشعب. وكان القرار بسبب تحالف بين الدول الغربية والاتحاد السوفيتي في مواجهة دول المحور، هذا علاوة، أن الاتحاد السوفيتي كان قائمًا قبل اعتراف الوفد به بأكثر من عشرين سنة.
وفي موضع آخر، يذكر عمرو موسى: ” أن بدايات الشخصية المستقلة لمصر، كانت في الأربعينيات عبر الدعوة إلى إنشاء جامعة الدول العربية وبدء القمة العربية”، و”قرار دخول حرب فلسطين الذي اتخذه الملك فاروق عام 1948″. والحقيقة، أن الجامعة العربية كانت ضمن خطة بريطانيا وحلفائها لما بعد الحرب العالمية الثانية. بل إن دخول مصر حرب 48 كان مرتبطًا بسياسة بريطانيا وخطة تقسيم فلسطين. فلو لم يدخل العرب لاستولى اليهود على كامل التراب الفلسطيني. فقد كان دخول الجيش المصري وكذلك المتطوعين المصريين الحرب، مستحيلًا بغير رضا الاحتلال البريطاني، وإلا ما سمحت لهم بعبور قناة السويس. ويؤكد ذلك، أن دخول الحرب كان بقرار من الملك فاروق ورغما عن الحكومة التي كانت رافضة. ويؤكد ذلك محمود رياض وزير الخارجية الأسبق حين قال: “… وكانت الحكومة المصرية قد اتخذت قرارًا بعدم اشراك القوات المصرية في أي عمليات خارج الأراضي المصرية، وأبلغ رئيس الوزراء المصري النقراشي باشا الجامعة العربية بذلك عام 1947”.
من جهة أخرى، كان لتحولات البيئة الدولية دورها في توجهات الضباط الأحرار. فقد هيأت الحرب العالمية الثانية لمصر مركزًا دوليًا بارزًا، على الصعيدين السياسي والعسكري. فقد كانت القاهرة مقرًا آمنًا لعدة مؤتمرات ولقاءات هامة بين القادة السياسيين والعسكريين، من إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة والصين وتركيا. فقد كانت مصر نقطة تحول بارزة في تاريخها المعاصر. فموقع البلاد الجغرافي جعل منها مركزًا رئيسيًا للجهد الحربي “للحلفاء”، كما شد إليها الجهود المضادة من جانب “المحور”. ومن ثم، فإن إحدى المعارك الرئيسية التي حولت مجرى الحرب، قد دارت رحاها عام 1942 عند موقع العلمين. كما كان الموقع الجغرافي أيضا، مسئولًا عن جعل مصر قاعدة لمركز تموين الشرق الأوسط، الذي أنشأته بريطانيا، وما لبثت أن انضمت إليه الولايات المتحدة، لتوجيه النشاط الاقتصادي في المنطقة، بحيث تستطيع أن تلبي حاجتها الأساسية. وهو أيضًا المسئول عن اتجاه بريطانيا إلى جعل مصر مركز الثقل بالنسبة إلى مؤسسة جامعة الدول العربية، التي كان الهدف منها في البداية، مجاراة تيار القومية الصاعد في المشرق العربي، وخلق أداة لاستدامة السيطرة الإمبراطورية البريطانية.
من جهة ثالثة، يرى المؤرخ الأمريكي جيفري أرونسون: “أن مصر كانت تقع في قلب الجهود، التي كانت الولايات المتحدة تبذلها، لخلق نظام إقليمي، يتم من خلاله الحفاظ على نفوذها وتوسيع نطاق مصالحها”. فاهتمام واشنطن المتنامي بنفط الشرق الأوسط، أثر على تطور العلاقات الأمريكية – المصرية. وراح مخططو السياسة في الخارجية الأمريكية، يركزون على الأهمية الاستراتيجية الواضحة لقناة السويس في نقل النفط والبضائع. ولمصر نفسها كمركز للمواصلات والاتصالات، وللتركة بالغة الأهمية للهيمنة الإمبريالية الغربية، التي كانت بريطانيا العظمى تمارسها” .
ومع نجاح الاتحاد السوفيتي في تفجير القنبلة الذرية عام 1949، كان التغيير المفاجئ في التوازن الاستراتيجي، يتسم بأهمية قصوى للمخططين الاستراتيجيين، كما كان له تأثير مباشر وفوري على سياسة الولايات المتحدة تجاه مصر. ففي عام 1949 استدعى وزير الخارجية الأمريكية سفيره في باريس جيفرسون كافري، ليخبره برجاء الرئيس ترومان، ورجائه هو أيضًا له، أن يقبل مد خدمته في السلك الدبلوماسي، لأن هناك مهمة، يعتقدون أنه أكثر من يصلح لها، وهي سفارة الولايات المتحدة في القاهرة.
من جهة أخرى، أثار حريق القاهرة في 26 يناير 1952 انزعاج الولايات المتحدة، التي كانت تنظر إلى الثورات الاجتماعية، باعتبارها في مصلحة الاتحاد السوفيتي، إن لم تكن بإيعاز سوفيتي شيوعي. وفي فبراير 1952 أوفد وزير الخارجية الأمريكية أتشيسون، رئيس قسم الشرق الأوسط في السي آي إيه لمصر، كرميت روزفلت، لإقناع الملك فاروق بتنفيذ برنامج إصلاح، لينتزع فتيل الثورة من المجتمع المصري، ويحفظ له عرشه. لكن جهوده مع الملك فاروق فشلت في تنفيذ ثورة سلمية.
يقول المؤرخ الأمريكي هيو ويلفورد Hugh Wilford: “كان الأمريكيون ينظرون بتقدير وجدية للضباط الأحرار المنضبطين، الذين أتوا لتحمل مهمة الحكم في مصر، ولهم ملامح تعكس حياتهم الخاصة. فناصر كان رجلاً مكرساً لأسرته، يعيش حياة متواضعة. وجميعهم مختلفون عما وصفوه بالفاجر فاروق licentious Farouk، وحتى بنيتهم الجسدية نحيفة ورياضية، بعكس جنرالات فاروق ذوي الكروش”.
ويضيف: “لقد استقبل الملك فاروق كيرميت روزفلت استقبالًا حارًا، عندما عاد لمصر عام 1952، لكنه وجد، أن الملك لم يكن من نوع الرجال الذي يبحث عنه، فقد كان الملك فاقد القدرة على تركيز أفكاره، وكم من جلسة أبدى فيها الملك تفهمًا عميقًا، لما يدور في مملكته، ووافق على اتخاذ بعض الإجراءات الأساسية في خطة روزفلت، لتطهير جهاز الدولة من المرتشين والفاسدين، ولكنه في اليوم التالي يختفي عن الأنظار، مفضلًا هوايته في العربدة والجنس، ضاربًا عرض الحائط، بكل ما اتفق عليه في اليوم السابق. ولا يتحرج في الأسبوع التالي، من اتخاذ إجراء ينسف خطة روزفلت بأكملها، وكانت النتيجة أن اضطر روزفلت في مايو 1952، أن يرفع يديه مستسلمًا، وموافقًا على أن الجيش وحده هو القادر على مواجهة الموقف المتدهور في مصر”.
وفي الساعات الأولى من يوم 23 يوليو، قام عبد الناصر- الذي كان حريصًا على إحباط التدخل البريطاني- بإيفاد علي صبري لإبلاغ السفير كافري، بأن الانقلاب هو أمر داخلي محض. ونظرًا لخبرات أعوام 1882 و1942. وفي السنين الأولى بعد الثورة، كان عبد الناصر يعتقد- عند النظر في خريطة القوى العظمى- أن أمريكا قادرة على لعب دور مفيد وبناء في الشرق الأوسط، لأنها وحدها من بين القوى العظمى، كانت تبدو قادرة على التأثير في الأحداث في الاتجاه الصحيح، بينما كانت روسيا مشغولة بأمور أخرى، والصين بعيدة جدًا، وبريطانيا وفرنسا ما زالتا تتنازعان ما تبقى من إرثهما الاستعماري.
في 5 مارس 1953 اجتمع أنطوني إيدن مع الرئيس الأمريكي أيزنهاور وجون دالاس، ليتباحثوا في أمور الدفاع عن الشرق الأوسط بصورة متكاملة، والذي تمخض عن مشروع منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط MEDO. وفي 11 مايو 1953، كان جون فوستر دالاس أول وزير خارجية أمريكية يزور الشرق الأوسط لتوجيه القوة الصاعدة للوطنية الثورية، حيث كان يدرك أن بؤرة الحرب الباردة، تنتقل من أوروبا إلى العالم الثالث فيما بعد الاستعمار. وكان دالاس متحمسا؛ لأن يرى مصر، الدولة الذي اعتبرها مفتاح تطور قوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولذلك كانت القاهرة أول محطة فيه، في جولة تشمل 12 دولة، وتستغرق ثلاثة أسابيع. وقد تحدثت الصحافة عن أهمية موقعها الاستراتيجي على حرية وأمن العالم الحر.
يقول الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية الأسبق: بعد اجتماع ودي معي، ثم مع اللواء محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة وقتئذ، أجرى دالاس مباحثات مطولة مع عبد الناصر، واستعرضا الموقف في الشرق الأوسط. وأقنعت الجولة دالاس، بأن شمس بريطانيا قد غربت، كما حدث في الهند، وأن النظام الشمسي الأمريكي قد حل محلها. ولقد كان يريد توجيه عبد الناصر لمكافحة خطر الشيوعية العالمية. ولكنه واجه صعوبة في إقناعه، بأن روسيا تهدد مستقبل مصر، أكثر من الاحتلال البريطاني في الداخل، والجيش الإسرائيلي من الخارج.
وسأل جمال الوزير دالاس: كيف أذهب إلى شعبي، وأقول له إني قلق بشأن شخص يمسك سكينا على بعد آلاف الأميال، وأتجاهل قاتلًا بيده مسدس في قناة السويس؟ لم تكن لنا مع الاتحاد السوفيتي أية متاعب، فهم لم يسبق لهم مهاجمتنا. ولم يكن لهم قاعدة هنا، لكن البريطانيين كانوا هنا لسبعين عامًا”. وأدت محادثات الوزير دالاس مع عبد الناصر في القاهرة في مايو 1953، إلى وضع فكرة منظمة MEDO على الرف نهائيًا.
شهر العسل بين أمريكا والثورة:
بعد لقائه جمال عبد الناصر في مايو 1953، أدرك دالاس، أن الأولوية الأولى فيما يتعلق بمصر، هي حل النزاع مع بريطانيا حول قاعدة قناة السويس. وقد كانت هناك عوامل تؤثر في المفاوضات حول الجلاء، منها أعباء عبد الناصر الداخلية، حيث كان لا يساعد في هذا الشأن، أن محمد نجيب قد ضاق ذرعاً، بدور الرئيس الصوري لمجلس قيادة الثورة، متطلعًا لدور أكبر في القرارات السياسية، وشرع في بناء جسور مع الإخوان المسلمين.
كان بقسم الشرق الأوسط في السي آي إيه اتجاهان: أحدهما يمثله كيرميت روزفلت، ويرى أن قيادة مصر للعالم العربي، ستحد من خطر وجود شيوعي في المنطقة. أما الاتجاه الآخر، ويمثله جيمس أنجلتون، فلا يرى ذلك، ويرى أن إسرائيل هي من يحقق مصالح أمريكا بها. وكانت العلاقة بين كرميت روزفلت والثورة، خلال الفترة 1953- 1955، هي فترة شهر العسل. ففي تلك الفترة، كانت مدرسة كرميت روزفلت تبشر بإمكانية نجاح تقديراتها، فقد كان جمال عبد الناصر يقاوم الإنجليز بضراوة، ويختلف مع الأمريكيين برفق، ويكتفي بمقولة، إنه لا يستطيع أن يفكر في قضية الأحلاف، إلا بعد جلاء الاحتلال البريطاني، ونهاية الاستعمار في مصر. ويؤكد ذلك محمود رياض: “كان جمال عبد الناصر في السنين الأولى بعد الثورة، أكثر ميلًا للتعاون مع الولايات المتحدة منه للتعاون مع الاتحاد السوفيتي. فقد قامت الولايات المتحدة من جانبها بقبول الثورة والاعتراف بها، وعاونت في تحقيق الاتفاق مع بريطانيا، لجلاء قواتها عن قناة السويس عام 1954”.
حاول عبد الناصر تقوية موقفه في خلق جبهة عربية موحدة إزاء الضغوط الغربية، فوجه دعوة إلى رؤساء حكومات الدول العربية، إلى اجتماع في القاهرة في يناير عام 1955، ولكنه لم يخرج من المؤتمر بنتائج محددة. ولكن الحملة التي قادها عبد الناصر، للحيلولة دون انضمام الدول العربية إلى حلف بغداد نجحت، مما أثار غضب إيدن رئيس وزراء بريطانيا.
العدوان على غزة والسعي للسلاح في باندونج:
وكرد فعل على ذلك، وقع في 28 فبراير 1955 هجوم اسرائيلي على معسكر للجيش المصري في غزة، الواقعة تحت سيطرة الحاكم العسكري المصري، وقُتل نحو 40 عسكرياً مصرياً، واستشهد قائد المعسكر الرائد محمود صادق، شقيق الفريق أول محمد صادق وزير الحربية فيما بعد. وقبل ذلك، وقَّعت بغداد مع تركيا على معاهدة حلف بغداد.
يقول محمود رياض: “كان رأي الرئيس عبد الناصر، ضرورة إعطاء مشاريع التنمية الأولوية في الإنفاق، كما كان مقتنعًا بأن اتفاقية الهدنة، تحول دون قيام نزاع مسلح. وقد استمر عبد الناصر على موقفه هذا، إلى أن قامت إسرائيل بالهجوم على قطاع غزة. ويضيف رياض: “ولكن الرئيس عبد الناصر ذكر لي بعد هذه الغارة، بأن خطة التنمية وبناء المستشفيات والمدارس، يجب ألا تؤخر بناء جيش قوي لحماية أمن مصر”.
ويقول الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية الأسبق: “كانت باندونج محطة هامة لمصر ولعبد الناصر من عدة وجوه؛ فقد أعطت دفعة جديدة للقوة المعادية للاستعمار، والتي اشتركت فيها مصر منذ ذلك الوقت، بشكل أكثر نشاطًا وفعالية من ذي قبل. وهي التي سمحت ببداية الجماعة الأفرو آسيوية، وفتحت لعبد الناصر آفاقًا جديدة، وساعدته في أن يكتشف العالم من حوله، وقد تلقى الوفد المصري لباندونج، الذي كان يرأسه جمال عبد الناصر، ترحيبًا رسميًا وشعبيًا”.
كانت فكرة الحياد تنمو أكثر وأكثر في تفكير جمال عبد الناصر، خصوصًا بعد أن توطدت علاقاته بـ”جواهر لآل نهرو”، الذي اتخذ من القاهرة محطة دائمة له ذاهبًا أو عائدًا من أوروبا. فقد لعب سفراء الهند الثلاثة الذين تعاقبوا على مصر وقتها، أدوارًا بالغة الأهمية في توثيق العلاقات بين مصر والهند. وقد اهتم جمال عبد الناصر، بما كان يسمعه من نهرو في تعميق فكرة الحياد، وبآرائه عن الموقف العالمي، وعن التخطيط، وعن الدور الحاسم الذي يلعبه العلم والتكنولوجيا في تشكيل العصر الحديث. كما كان المارشال جوزيب بروز تيتو صديقًا آخر في فكرة عدم الانحياز، وكانت تجاربه العالمية غنية، وكانت معرفته بالكتلة الشرقية عميقة، وكانت المحادثات بين الاثنين تحليلًا مركزًا، ودراسة واسعة بأبعاد الموقف الدولي وتوازناته. ومرة أخرى، لعب سفير يوغوسلافيا المقتدر “جيرجا”، دورًا بارزًا في توثيق العلاقة بين مصر ويوغوسلافيا. وقد أدى إعلان ناصر اعتزامه الذهاب إلى باندونج إلى إغضاب دالاس تمامًا، بل إن دالاس حاول تمامًا إقناع عبد الناصر بإلغاء حضوره مؤتمر حركة عدم الانحياز .
وفي التاسع من إبريل، غادر عبد الناصر القاهرة متوجهًا إلى العاصمة الإندونيسية، حيث توقف في طريقه، في كل من كراتشي، ونيودلهي، ورانجون. وفوجئ عندما وجد الزعيم الصيني شو اين لاي في انتظاره، وهو يهبط من الطائرة في رانجون في 15 إبريل، وفي اجتماع خاص معه في اليوم نفسه، أثار عبد الناصر قضية المساعدة العسكرية، هل يمكن أن يبحث شواين لاي موقف السوفيت من إمداد مصر بالسلاح؟ فنبهه شو اين لاي إلى المصاعب التي يمكن لمثل هذه الخطوة، أن تسببها لمصر مع الغرب. فأعلن عبد الناصر، أنه مستعد لمواجهة العواقب المحتمة لذلك، لأن الاتحاد السوفيتي مصدر السلاح الأخير المتاح له.
في الحلقة الثالثة، نتناول السياسة الخارجية مع معارك صفقة السلاح وتأميم القناة ومشروع السد العالي.