قبل أربعة أيام من التدخل العسكري لحلف “الناتو” في ليبيا، التي أفضت إلى تحطيمها وإدخالها دوامات الاحتراب الأهلي، اعترف العقيد “معمر القذافي” في تسجيل صوتي للقناة الفرنسية الثالثة بتمويل حملة “نيكولا ساركوزي” عام (2007)، التي دخل بمقتضى نتائجها قصر الإليزيه.
كان ذلك التصريح في توقيته ورسالته عملا انتقاميا مقصودا لفضح الرئيس الفرنسي، الذي يقود الحملة العسكرية والسياسية على ليبيا مطالبا برأسه.
“صديقي العزيز ساركوزي مصاب بخلل عقلي”.
هكذا وصف طبيعة العلاقة، التي جمعت ساركوزي والقذافي، صداقة استحالت إلى عداوة، انتهت باغتيال الأول والتمثيل بجثته، وسجن الثاني بحكم قضائي فرنسي لمدة خمس سنوات.
بأسرارها وخلفياتها تبدو القضية، كأنها اقتطعت من قصص المافيا الإيطالية.
اتصالات جس نبض بين ممثلين للمرشح الرئاسي الفرنسي “ساركوزي” والعقيد الليبي “القذافي”، مهدت للقاء مباشر بينهما.
هكذا جرت صفقة سرية في غرف مغلقة، تعهد بمقتضاها “ساركوزي” دعم السياسة الليبية وتخفيف حدة الحملات الغربية عليها مقابل تمويل حملته الانتخابية بـ(٥٠) مليون يورو- حسب وثيقة موقعة من رئيس الاستخبارات الليبية على عهد “القذافي”.
باعترافات أمام جهات التحقيق الفرنسية، نقلت ثلاث حقائب من طرابلس إلى باريس معبأة بـ(٥) ملايين يورو من قيمة الصفقة.
دخل على الخط وسطاء تحوطهم ظلال وشبهات، بعضهم اعترف بدوره في الصفقة وبعضهم الآخر اختفى في ظروف غامضة.
طالت القضية واستفاضت الصحافة الفرنسية في تعقب أسرارها وخفاياها، حتى قضت السلطات القضائية بإدخال الرئيس الأسبق السجن، كما لم يحدث لأحد آخر، فرنسي أو أوروبي، في مثل مركزه منذ الحرب العالمية الثانية.
وصفه الحكم القضائي، بأنه “زعيم عصابة من الأشرار”.
لم يعترف ولا نازعته فكرة الاعتذار.
قال إنها: “فضيحة قضائية”.
“لا أدخل السجن كرئيس سابق، بل كمواطن بريء رافع الرأس واثقا من براءتي”.
حمل معه إلى السجن كتابين، لكل منهما رسالة تناقض الأخرى.
الأول، “عن سيرة المسيح”، كأنه طلب مُضمَر للتسامح.
والثاني، رواية “الكونت دي مونت كريستو” لـ”ألكسندر دوماس”، كأنه ينتوي الانتقام من الذين أدخلوه السجن ظلما.
بدا المجتمع الفرنسي منقسما دون إخلال باحترام القضاء وأحكامه.
في منطقة رمادية تماما وقف الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”.
قبل أن يودع السجن بأيام قليلة، استقبله في قصر الإليزيه.
برر تصرفه قائلا: “احترام استقلال القضاء واجب، لكن من الطبيعي أن ألقى أحد أسلافي في كل هذه الظروف الصعبة”.
ربما أراد تجاوز أحوال الانقسام، وربما خشي أن يلقى المصير نفسه مستقبلا!
لم يكن سجن رئيس سابق حدثا عارضا، بقدر ما كان تكريسا للأزمة السياسية المتفاقمة، التي تكاد تدخل البلاد في دوامة لا تنتهي من الأزمات المتلاحقة على كافة الأصعدة.
بتلخيص ما تعاني فرنسا تبعات انهيار مقومات الجمهورية الخامسة، التي أسسها “شارل ديجول”، دون أن تعرف إلى أين تتجه؟
في فراغ السقوط المتزامن للحزبين الكبيرين، اللذين هيمنا على الحياة السياسية الفرنسية- “الجمهوريون” و”الاشتراكي” صعد الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون”، مرشحا مستقلا، لكن الرهانات عليه أخفقت، وبدت فرنسا كلها مرشحة لانهيارات سياسية أخرى، قد تدفعها إلى أقصى اليمين.
سقوط النخبة السياسية الفرنسية بجناحيها اليمين التقليدي والاشتراكي المعتدل، بدأت مقدماته في صعود رجل بمواصفات “ساركوزي”.
لم يكن وحده الذي تورط بوقائع فساد ثابتة، لكنه بدا الأشد اندفاعا بلا حياء في طلب الأموال مقابل المواقف.
بتقدير آخر، لم يكن وحده في غزو “الناتو” لليبيا باسم حماية أهلها.
كان معه- من أصدقاء “القذافي” القدامى- رئيس الوزراء الإيطالي الراحل “سيلفيو بيرليسكوني”.
كلاهما عقد صفقات، وادعى صداقات، لكنهما في لحظة الحسم لم يتورعا عن تدمير ليبيا بلا رجفة عين والتخلص من “القذافي” نفسه.
إنها اللعبة الكبرى داخلة فيها مصالح عليا وترتيبات لموازين قوى في جنوب البحر المتوسط.
كان على الخط نفسه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير“، ووزيرة الخارجية الأمريكية وقتها “هيلاري كلينتون”، وليبيون تصوروا أن الخلاص ممكن من بوابة تدخل “الناتو”، وهو رهان دمر ليبيا ووضع وجودها على مقصلة الانتحار الداخلي.
إنه الوجه الفرنسي لرئيس الوزراء الإيطالي الراحل “جوليو أندريوتي”، الذي تحطمت سمعته تماما بانكشاف علاقاته الوثيقة مع عصابات المافيا، لكنه استعار أساليبها دون ارتباطاتها.
كان صعود “ساكوزي” نقطة فاصلة في تاريخ الجمهورية الخامسة سحبت منها أي رصيد سياسي وأخلاقي.
هو نقطة تصدع خطيرة، لكنه لم يكن وحده، فقد تآكلت المؤسسة من داخلها، صدقيتها واحترامها ومستقبلها.
قبل الانتخابات الفرنسية (2007)، التي جاءت به لموقع الرئاسة حذر الصحفي الفرنسي الشهير “إريك رولو” في عشاء على النيل بدعوة من الدكتور “حسام عيسى” الفقيه القانوني ونائب رئيس الوزراء الأسبق، يضم ثلاثتنا، مما قد يحدث، إذا ما انتخب رئيسا.
فيما روى أنه استدعى في عيد الثورة الفرنسية (14) يوليو من موقعه وزيرا للداخلية عددا من الصحفيين المقربين في ذات التوقيت الذي كان الرئيس “جاك شيراك” يستقبل كبار الصحفيين في قصر الإليزيه.
عندما أخذ الرئيس يوجه للأمة كلمة متلفزة، بدا أن وزير داخليته، المتوثب للجلوس على مقعده في الإليزيه، ضَجِراً إلى حد عدم احتمال الاستماع إليها.
قال بصوت مرتفع وهو ينتفض من على كرسيه: “ما هذا الكلام الفارغ الذي يقوله؟!”، ثم أمسك بـ”الريموت كونترول” مغلقا جهاز التلفزيون.
كان ذلك مشهدا استعراضيا أراد أن يقول به: “أنا الرجل القوي الآن، شيراك لا يعني شيئا”.
أخذت القصة تنتشر، بدلالاتها السياسية، التي تتجاوز ما هو متعارف عليه في العلاقات بين الرؤساء ووزرائهم.
المسكوت عنه في قصة صعود وغروب “ساركوزي”، إنه بعد خروجه من السلطة حاز منصبا شرفيا كمستشار لإحدى الدول الخليجية، التي شاركت في غزو ليبيا بالتحريض والتمويل براتب قيمته (٥) ملايين يورو سنويا!
كانت تلك مكافأة على تحطيم دولة عربية جوهرية في حجم ليبيا!
يستلفت الانتباه بالقصة الليبية الدور الذي لعبه الفيلسوف الفرنسي الصهيوني “برنارد هنري ليفي” في تقديم بعض وجوه المعارضة إلى مراكز النفوذ الغربية، بما فيها “هيلاري كلينتون”، وقد اعتبر نفسه- بحسب ما كتب وروج- أبا روحيا للثورة!
أية ثورة؟!
تبددت الأوهام كلها، ولقي “ساركوزي” بعض ما يستحق.
باليقين، فإن أخطر أدواره التحريض على ليبيا وقيادة عملية تحطيمها.
مضت معه وخلفه كلاب الصيد، كلها لا بعضها، بهدف تصفية الحسابات مع سياسات “معمر القذافي”، لكن ذلك لا يعفيه من مسئولية ما جرى.