تشكل تصريحات ومواقف محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع من مصر مؤشرا مهما لمجريات الصراع السوداني السوداني، وأيضا لحالة التضاغط المصري الإماراتي بشأن السودان، حيث جاءت تصريحات حميدتي الأخيرة؛ لتكشف على نحو ما مدى التضاغط الداخلي بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، عشية مفاوضات غير معلنة رسميا  بين الطرفين في واشنطن، بينما تظل حالة التفاعل المصري الإماراتي حول السودان تحكمها مظلة أوسع متضمنة مظلة شاملة لهذه العلاقات، لا تقتصر على السودان، ولكنها تملك مفردات متنوعة على الصعيد الاقتصادي مؤثرة في مجمل المشهد السوداني والإقليمي .

في هذا السياق، فإنه من المهم رصد أنه منذ اندلاع حرب السودان، حيث تحولت العلاقة بين قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) ومصر من تباين محسوب إلى مواجهة سياسية مكتومة ذات أبعاد إقليمية. فالعلاقة التي اتسمت قبل الحرب بقدر من التنسيق الحذر بين الخرطوم والقاهرة، تحولت لاحقًا إلى ساحة اتهامات متبادلة وتوتر دبلوماسي عميق، تجاوز في بعض جوانبه المربع الثنائي ليمس شبكات النفوذ الخليجية، لا سيما الإمارات والسعودية، في التوازن الإقليمي المحيط بالسودان.

قبل اندلاع الحرب، لم تكن علاقة حميدتي بمصر متينة بالمعنى السياسي أو الأمني، لكنها لم تكن عدائية كذلك. فالقاهرة، التي كانت تنظر إلى المؤسسة العسكرية السودانية بوصفها شريكها الطبيعي، كانت تتحفظ على تمدد نفوذ الدعم السريع، وتتعامل مع حميدتي، باعتباره فاعلًا غير منضبط في معادلة السلطة، خاصة بعد سقوط نظام عمر البشير عام 2019.


مع ذلك، أدركت مصر أن حميدتي يمثل رقمًا في معادلة القوة، وأن تجاهله يعني خسارة القدرة على التأثير في مسار الانتقال السياسي. فاستقبلت القاهرة حميدتي رسميًا في مارس 2021، حيث التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، في زيارة حملت في ظاهرها رسائل دعم للتوافق السوداني، لكنها في جوهرها كانت محاولة مصرية لاحتواء رجل بات يمتلك ذراعًا عسكرية واقتصادية مؤثرة، تمتد إلى إقليم دارفور وحتى الحدود الليبية.

في المقابل، سعى حميدتي إلى كسب الشرعية الإقليمية، فقدم نفسه كشريك محتمل في إدارة مرحلة الانتقال، محاولًا طمأنة القاهرة، بأنه لا يشكل تهديدًا لمصالحها في النيل أو في الملف الليبي. غير أن الشكوك ظلت قائمة في القاهرة، خاصة مع تصاعد مؤشرات ارتباط حميدتي بعلاقات اقتصادية وأمنية مع دولة الإمارات التي بدت في حالة تضاغط مع سياسيات أبوظبي في السودان.


وقد شكلت حادثة قاعدة مروي الجوية في إبريل ٢٠٢٣ لحظة مفصلية في علاقة حميدتي بمصر الذي تجاهل أمرين: الأول، أن هناك اتفاقا عسكريا بين الجيشين المصري والسوداني، ظل قائما لعدة سنوات مرتبط بحماية الحدود المشتركة، بينما امتدت استراتيجياته إلى ضمان وبلورة حالة التوازان الإقليمي تحت مظلة أزمة سد النهضة.

أما الأمر الثاني، فهو تجاهل سلسلة القيادة والسيطرة في الجيش السوداني، حيث شكلت حادثة قاعدة مروي الجوية في إبريل 2023 لحظة مفصلية في علاقة حميدتي بمصر. ففي الأيام الأولى لاندلاع القتال بين الجيش السوداني والدعم السريع، وجد المصريون أنفسهم في قلب الصراع السوداني الذي يعرفون مدى ارتباطه بالنسيج الاجتماعي السوداني، وذلك بعد أن تم احتجاز مجموعة من المصريين المتواجدين في القاعدة العسكرية بمروي، وذلك لتدريب القوات الجوية السودانية على مقاتلات ميج ٢٩، وعلى الرغم من أن محمد حمدان دقلو قد سعى إلى امتصاص الغضب المصري بإعلان الإفراج عنهم لاحقًا “تقديرًا لمصر”، إلا أن المشهد كان صادمًا في القاهرة، حيث اعتُبر احتجاز الجنود المصريين “إهانة وطنية”، وتعبيرًا عن استخفاف الدعم السريع بالعلاقة مع الدولة المصرية. وردّ الجيش المصري ببيان حازم، أكد فيه أن وجود قواته في السودان كان “لأغراض تدريبية” ضمن اتفاق رسمي بين البلدين، ملوحًا ضمنيًا بأن ما حدث لن يُنسى.

منذ تلك اللحظة، تراجعت الثقة تمامًا. وأخذت القاهرة تنظر إلى حميدتي، باعتباره خصمًا، لا يمكن التفاهم معه، فيما بدأ الأخير يتبنى خطابًا متوترًا تجاه مصر، متهِمًا إياها بدعم “الانقلاب العسكري” في السودان، ومساندة الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان.


مع اتساع نطاق الحرب، أخذ خطاب حميدتي تجاه مصر منحى تصعيديًا. ففي مقابلات متعددة مع وسائل إعلام عربية ودولية، اتهم القاهرة بالانحياز الكامل للبرهان، وبأنها تسعى لإعادة إنتاج “نظام عسكري تابع”، وفق تعبيره. كما أشار إلى أن مصر “تخشى من قيام نظام ديمقراطي حقيقي في السودان”، وأن دعمها للمؤسسة العسكرية “ينطلق من رؤية ضيقة للأمن الإقليمي”.

في المقابل، حرصت القاهرة على ضبط ردودها الرسمية، واكتفت وزارة الخارجية المصرية بتصريحات، تؤكد “وقوف مصر على مسافة واحدة من جميع الأطراف السودانية”، مع تجديد الدعوة إلى وقف إطلاق النار والحوار الوطني..


لم يكن التوتر بين حميدتي ومصر منعزلًا عن الموقف الإماراتي. فالإمارات التي بنت علاقة استراتيجية مع حميدتي منذ مشاركته في حرب اليمن إلى جانب التحالف العربي، ظلت تراهن عليه كقائد، يمكنه حماية المصالح الاقتصادية الإماراتية في قطاع الذهب والمواني، فضلًا عن كونه قادرًا على موازنة نفوذ الإسلاميين داخل الجيش السوداني.

وفي الوقت الذي اعتبرت فيه القاهرة، أن الدعم الإماراتي لحميدتي يشجع على استمرار الحرب، رأت أبوظبي أن موقف مصر “منحاز للبرهان”، ويعطل أي حل سياسي شامل..
على خلاف الإمارات، التزمت المملكة العربية السعودية موقفًا حذرًا. فمنذ اللحظة الأولى للحرب، سعت الرياض، بالشراكة مع واشنطن، إلى رعاية مفاوضات جدة بين الطرفين، واضعةً نفسها في موقع الوسيط الإقليمي. ومع أن السعودية تدرك صعوبة التعامل مع حميدتي، باعتباره فاعلًا شبه عسكري، لا يمتلك شرعية مؤسساتية، إلا أنها لم تُقصِ قواته من معادلة التفاوض، حرصًا على الحفاظ على قنوات الاتصال الضرورية لإنجاح جهود الوساطة.

الموقف المصري التقى مع الموقف السعودي عند هذا المنحنى الذي تم بلورته في مسار جدة الذي بدأ بقدر من تباين مصري سعودي، حيث كان موقف الرياض أقرب إلى الحياد التام بين الجيش السوداني والدعم السريع، حماية ربما لأمن البحر الأحمر من عوامل تصاعد التهديدات فيه، ولكن الموقف السعودي تحرك مؤخرا ليكون أقرب للموقف المصري في الانحياز للجيش السوداني في ضوء أمرين: الأول أن انهيار هذه المؤسسة، يعني انهيار الدولة ذاتها، أما الأمر الثاني، فكان حجم الإدانات الدولية التي صدرت ضد ممارسات الدعم السريع في الحرب السودانية، والتي ارتقت إلى حد الاتهام بممارسة الإبادة الجماعية.


على الصعيد الدولي، تباينت المواقف بين واشنطن وبروكسل تجاه التوتر المصري- حميدتي. الولايات المتحدة، رغم انتقادها لانتهاكات الطرفين في السودان، ظلت حذرة في التعليق على توتر علاقة حميدتي بمصر، خشية أن يؤدي ذلك إلى إضعاف جهود الوساطة السعودية- الأمريكية. أما روسيا، التي تقيم علاقات مع كل من الجيش والدعم السريع، فقد استفادت من الانقسام العربي حول السودان لتعزيز حضورها عبر شركة “فاجنر” سابقًا، ولاحقًا من خلال القنوات الدبلوماسية الرسمية…


ونستطيع القول ختاما، أنه بشكل عام سوف تنعكس التطورات الميدانية والتفاوضية دوما على علاقة حميدتي بمصر، وسوف تظل تعكس في جوهرها لمدى تحول السودان من ساحة متماسكة لدولة قادرة على التحول للتعافي الوطني، أو دولة هشة قابلة لتقاطعات النفوذ والمصالح على المستويين الإقليمي والدولي..