الهجوم الواسع الذي شنته “الدعم السريع” على مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، يمثّل نقطة تحول ميدانية وسياسية خطيرة في مسار الصراع. فمنذ ساعات فجر 25 أكتوبر، هاجمت القوات الفاشر من خمسة محاور في عملية منسقة، استهدفت مواقع الجيش السوداني في محيط قيادة الفرقة السادسة مشاة، وامتدت إلى الأحياء الغربية من المدينة. وفي تلك المناطق، وقعت موجة نزوح عالية، إذ فرّ أكثر من 20 ألف مدني نحو أطراف الفاشر، حيث وثّقت مقاطع فيديو متداولة عمليات اعتقال وإذلال وتصفية، نفذتها قوات الدعم السريع بحق بعض الفارين بحجة انتمائهم أو تعاونهم مع الجيش.

وفي الوقت ذاته، تزامن هجوم الفاشر مع هجمات أخرى منسقة في ولاية شمال كردفان، ما يشير إلى أن الدعم السريع ينفذ خطة توسع ميداني، تهدف إلى السيطرة على حزام استراتيجي، يربط دارفور بالخرطوم عبر محاور كردفان. ففي مدينة بارا التي كان الجيش قد استعادها الشهر الماضي بعد معارك عنيفة، شنت قوات الدعم السريع هجومًا واسعًا متزامنًا مع هجوم الفاشر، تمكنت خلاله من دخول المدينة بعد انسحاب القوات الحكومية. أعقب ذلك عمليات تصفية بحق عناصر الجيش الذين تم أسرهم، إلى جانب قتل أكثر من 300 مدني بطريقة وحشية وانتقامية، ما دفع آلاف السكان إلى الفرار نحو الأبيض وقرى مجاورة. وبعد أن بسطت سيطرتها على بارا، توجهت القوات المهاجمة نحو محلية أم دم حاج أحمد بشمال كردفان، حيث نفذت عمليات نهب وترهيب للمدنيين، قبل أن تواصل تحركها إلى منطقة زريبة الشيخ البرعي، وتمارس ذات الانتهاكات في المناطق التي كان الجيش قد استعادها خلال الشهرين الماضيين. هذا النمط السريع والعنيف من الهجمات خلق موجة نزوح جديدة في شمال كردفان إذ أجبر سكان مدن أخرى على الرحيل مرة ثالثة؛ خوفًا من تكرار سيناريو بارا والفاشر.

الهجوم المتسارع يشير، إلى أن الدعم السريع يسعى إلى تأمين طريق استراتيجي، يربط بين الخرطوم ودارفور مرورًا بأم روابة والرهد وكوستي؛ تمهيدًا للسيطرة على مدينة الأبيض التي تُعدّ المعقل الأكبر المتبقي للجيش في غرب السودان. المعارك التي دارت مؤخرًا في قرية أم بشار قرب الرهد، كشفت أن المعركة على أبواب الأبيض باتت وشيكة، وأن الدعم السريع يحاول تطويق المدينة من أكثر من محور.

حرب الميدان ومساومات الطاولة

جاء هذا التصعيد الميداني في توقيت بالغ الحساسية، إذ تزامن مع اجتماعات الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، الإمارات، السعودية، مصر) التي انعقدت لبحث مستقبل السلام في السودان. ورغم أن مخرجات الاجتماع شددت على “ضرورة التوصل إلى هدنة إنسانية عاجلة، ووقف دائم لإطلاق النار في السودان”، واتُفق على إنشاء لجنة عملياتية مشتركة بين الدول الأعضاء لتعزيز التنسيق في أولويات إنجاز السلام، إلا أن هذه الدعوات لم تترجم عملياً على الأرض، حيث لم تتمكن الرباعية من فرض أي هدنة حقيقية أو حتى وقف مؤقت للقتال. تزامن التصعيد الميداني مع الاجتماع، يُفهم في سياق أوسع لإعادة رسم معادلة القوة في السودان، ويبدو أن هناك “سماحاً ضمنياً”، وليس دعماً معلناً من الجانب الأمريكي لتقدم الدعم السريع وتراجع الجيش، عبر ما يمكن وصفه بـ“التواطؤ بالصمت” أو الإبطاء المتعمّد في الردّ الدولي على تحركات الدعم السريع، مما منح قواته زمناً ومساحة للتحرك الميداني الواسع.

هذا الموقف يعكس فهماً استراتيجياً مختلفاً بين أطراف الرباعية، إذ ترى أبوظبي في الدعم السريع قوة أكثر مرونة وقابلية للضبط والتعامل التجاري والأمني مقارنة بالجيش التقليدي الذي يحتفظ ببنية مؤسسية وطنية، يصعب إخضاعها للنفوذ الخارجي. أما واشنطن فتبدو أقرب إلى تبني مقاربة “اللا حسم” أي الإبقاء على ميزان القوة مفتوحاً دون انتصار لأي طرف لإجبار الجانبين على العودة إلى التفاوض لاحقاً، في ظل واقع ميداني جديد. لذلك، يمكن القول إن التسامح الدولي مع تقدم الدعم السريع بعد تراجعه في الأشهر الماضية كان مدروساً، وهو ما اتضح من غياب أي إشارة للمساءلة عن المجازر في بارا أو دارفور في البيانات الرسمية والاكتفاء بعبارات فضفاضة حول “الهدنة الإنسانية”، وهي مفردات تُستخدم عادة، حين يراد تثبيت خطوط القتال الحالية كأمر واقع، يخدم الطرف المتقدم ميدانياً. فكلما طال أمد تثبيت تلك الخطوط تحوّل التقدم الميداني إلى مكسب سياسي قابل للترجمة في أي تسوية لاحقة.

في هذا السياق، جاء تصريح مسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي على قناة الجزيرة أمس؛ ليؤكد هذا الاتجاه، حين قال إن “الهجوم على الفاشر ومناطق كردفان سيهيئ أرضية التفاوض وفقاً لخارطة الطريق”، وهو ما يمكن فهمه كمنح “ضوء أخضر ضمني” للدعم السريع للتحرك داخل المدن، بعد أن كانت المطالب الأمريكية في وقت سابق تتركز على وقف الحصار فقط. هذا التحول في اللغة السياسية، يعكس واقعاً جديداً في قراءة واشنطن وأبوظبي لموازين القوى في السودان، بحيث يُسمح ميدانياً بتوسع الدعم السريع مؤقتاً لتسريع الوصول إلى طاولة تفاوض بشروط مختلفة.

في المقابل، يُنظر إلى هذه التحركات بوصفها جزءاً من إعادة توزيع النفوذ الإقليمي في السودان، إذ تواصل الإمارات تحركاتها داخل المكون السياسي المدني في محاولة لبناء نفوذ سياسي جديد، يمكن توظيفه مستقبلاً لضمان مصالحها الاقتصادية والعسكرية. هذه المقاربة تثير قلقاً متزايداً في الأوساط الإقليمية؛ لأنها تتقاطع مع محاولات لتقويض التوازنات التقليدية في منطقة القرن الإفريقي وغرب البحر الأحمر، ما قد ينعكس سلباً على منظومة “الأمن القومي العربي”، وخاصة المصري الذي يعتمد على استقرار السودان كعمق استراتيجي جنوبي.

وعلى الرغم من أن القاهرة تلتزم خطاباً متحفظاً في تناولها العلني للأزمة، إلا أن مقاربتها تنطلق من رفض واضح لتفكيك مؤسسات الدولة السودانية أو تحويلها إلى مناطق نفوذ متنافسة بين القوى الإقليمية. فاستمرار الفوضى في السودان لا يشكل تهديداً داخلياً له وحده، بل يمتد إلى تهديد مباشر لمصالح وعمق الأمن القومي المصري عبر الحدود الجنوبية في ظل تزايد نشاط المجموعات المسلحة وتمدّد ظواهر التهريب والسلاح والمرتزقة.

وبذلك، فإن المشهد السوداني اليوم يعكس صراعاً متعدد المستويات: داخلياً بين الجيش والدعم السريع على بقاء الدولة، وإقليمياً بين قوى تحاول توظيف الحرب لترسيخ نفوذها، ودولياً بين مشاريع ترى في السودان ورقة لإعادة تشكيل التوازنات في إفريقيا والبحر الأحمر. ومع غياب موقف حازم، يظل الشعب السوداني يدفع ثمن هذه الحسابات المعقدة، في حرب تتخذ من “الهدنة” شعاراً ومن “إعادة رسم النفوذ” غاية خفية.