إن حدث سقوط مدينة الفاشر، الواقعة في إقليم دارفور، يتجاوز كونه مجرد تطور ميداني عادي ضمن سياق الحرب السودانية الراهنة؛ ليصبح نقطة تحول حاسمة. هذا التحول ليس محصورًا في الأهمية الرمزية للمدينة أو في موقعها الجغرافي الحيوي فحسب، بل يتجذر فيما تمثله هذه الواقعة من مؤشرات عميقة، تكشف عن طبيعة موازين القوى الفعلية بين فاعلين رئيسيين في الساحة السودانية، وهما الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع. إن هذه الديناميكية الجديدة تفرض بالضرورة إعادة تشكيل شاملة ومفصلة للمشهدين العسكري والسياسي على حد سواء، ليس فقط داخل الحدود السودانية، ولكن أيضًا على المستوى الإقليمي الأوسع. لا يمكن التعامل مع ما جرى في الفاشر، باعتباره حادثًا عسكريًا منعزلًا أو نتيجة لتفوق تكتيكي لحظي؛ بل يجب وضعه في إطار سياق أوسع، حيث يشير هذا السقوط إلى تقدم ملحوظ في مشروع تفكيك الدولة السودانية وتحويلها إلى أقاليم متنازعة ومتصارعة، تقع تحت السيطرة الفعلية لميليشيات مسلحة، تتمتع بروابط وامتدادات خارجية.

من المنظور العسكري، يبرهن سقوط مدينة الفاشر، على أن طبيعة الحرب في السودان قد تخطت الحدود التقليدية للسيطرة المكانية الكلاسيكية. فالصراع لم يعد يدور حول الاحتفاظ بمواقع ثابتة أو السيطرة على العواصم الإدارية لفترة طويلة، بل تحول إلى ما يمكن وصفه بـحرب استنزاف طويلة المدى. هذه الحرب تدار من خلال آليات معقدة، تعتمد على تشكيل تحالفات متبدلة وسريعة التغير، وتنفيذ عمليات عسكرية نوعية ومباغتة، تعتمد بشكل أساسي على التفوق في عنصري الحركة والمرونة، وعلى قدرة جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية. هذا التفوق في الحركة والمعلومات أصبح أكثر أهمية وتأثيرًا من التفوق التقليدي الذي توفره حيازة السلاح الثقيل.

لقد أظهرت قوات الدعم السريع، في سياق سيطرتها على الفاشر، اعتمادها على تكتيكات متقدمة، تتسم بالسرعة والمناورة. ونتيجة لذلك، تمكنت من فرض سيطرتها الكاملة على المدينة. كان هذا النجاح أيضًا؛ نتيجة مباشرة للتدهور اللوجستي الهائل الذي عانى منه الجيش السوداني، وضعف خطوط إمداداته الحيوية في منطقة غرب السودان الشاسعة. إن فشل الجيش في تأمين إمداداته يعكس عمق الأزمة الهيكلية التي تواجهها الدولة المركزية وقدرتها على دعم قواتها في الأطراف النائية.

وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته قوات الدعم السريع وسيطرتها على الفاشر كنقطة استراتيجية، فإنه من الخطأ الاستنتاج أن هذا التطور يمثل نهاية لقدرة الجيش السوداني على الاستمرار في الصراع. فالجيش لا يزال يمتلك حتى الآن القدرة النارية الثقيلة الكافية لإحداث فرق في الميدان. والأهم من ذلك، يمتلك الجيش شبكة من التحالفات الميدانية المعقدة، والتي تشمل القوات المشتركة من الحركات المسلحة التي كانت قد وقعت اتفاق جوبا للسلام. بعض هذه الحركات أعاد تموضعه الاستراتيجي مؤخرًا ليصبح في مواجهة مباشرة مع قوات الدعم السريع.

هذا التموضع الجديد للحركات المسلحة، ليس بالضرورة دعما مطلقا للجيش، بل هو في كثير من الأحيان دفاعا عن مناطق النفوذ التقليدية الخاصة بها أو سعي استراتيجي لحماية وجودها السياسي المستقبلي المتوقع في أي تسوية قادمة. في هذا الإطار المعقد، برز دور القوات المشتركة- والتي تضم حركات تحرير السودان والعدل والمساواة، بالإضافة إلى وحدات قبلية مسلحة مختلفة- كعنصر فاعل لا يمكن تجاهله، حيث تحاول هذه القوات، أن تخلق نوعا من أنواع التوازن الميداني بين دعم الجيش كرمز للدولة المركزية، ومواجهة تغول قوات الدعم السريع الذي يهدد استقلال مناطقها. ومع ذلك، فإن هذه القوات المشتركة تخوض في الوقت ذاته معركتها الخاصة مزدوجة الملامح .

لقد أصبحت الخارطة الميدانية في السودان، نتيجة لهذه التفاعلات المعقدة، متعددة الأطراف والولاءات. تتقاطع في هذا المشهد الحسابات العسكرية البحتة مع الحسابات السياسية المعقدة والمتشابكة. هذا التداخل والتعدد في الأطراف والحسابات، يعقد على نحو كبير إمكانية حسم الصراع عسكريًا في المدى القريب المنظور.

وفيما يتعلق بإمكانية استعادة الجيش للفاشر، فإن الاحتمالات تظل مرهونة بجملة من العوامل الداخلية، حيث يتوقف الأمر على قدرة الجيش على حصوله على دعم مباشر، ربما يكون من الولايات المتحدة الأمريكية في حال قبولها للصفقة المتعلقة بالموارد والمعروضة عليها من جانب الجيش- طبقا للتسريبات- حيث سيكون من الممكن إعادة تنظيم قواته بشكل فعال، والأهم من ذلك، استعادة وتأمين خطوط إمداده الحيوية التي تمتد من الشمال، مرورًا بالولاية الشمالية ومنطقة كردفان. إن فشل تأمين هذه الخطوط سيعني استمرار العزلة اللوجستية للقوات في إقليمي دارفور وكردفان أيضا.

وطبقا لهذه المعطيات من المنتظر، أن يؤثر الموقف الإقليمي، وبخاصة من دول الجوار المباشر للسودان كمصر وتشاد وليبيا، حيث سيؤثر بشدة وبشكل مباشر على مدى قدرة الجيش على التحرك والتخطيط للمستقبل، وذلك مع تخوف هذه الدول من امتداد الفوضى والاضطرابات الأمنية إلى أراضيها. وبالتالي، فإن أي تحرك عسكري كبير قد يؤدي إلى زعزعة استقرار هذه الجبهات سيتعرض لضغوط إقليمية مضادة.

على المدى القصير، يحمل سقوط الفاشر آثارًا عميقة ومفصلية على مستقبل الكيان السوداني كدولة. فسيطرة قوات الدعم السريع على هذه المدينة الاستراتيجية تعني أن الحرب قد دخلت فعليًا مرحلة جديدة وخطيرة من التفكك الجغرافي الواضح. لم تعد العاصمة الخرطوم، هي مركز الثقل الوحيد الذي تتنازع عليه القوى المتصارعة. بل بدأت تظهر مراكز ثقل إقليمية جديدة، تفرض نفسها على الرقعة الجغرافية السودانية.

في هذا السياق، يجد السودان نفسه اليوم أمام سيناريوهين، يسيران بالتوازي ويشكلان المستقبل القريب: الاحتمال الأول هو استمرار حرب الاستنزاف التي ستؤدي إلى استنزاف كامل وممنهج لموارد وقدرات الدولة بالكامل. أما الاحتمال الثاني، فهو الدخول في مرحلة تفاوض سياسي، تفرضها وتحدد شروطها موازين القوى الجديدة التي تشكلت نتيجة لسقوط الفاشر.

فيما يخص القاهرة، فإن سقوط الفاشر يحمل في طياته دلالات استراتيجية، تتجاوز حدود الجوار المباشر مع السودان. فالموقع الجغرافي للمدينة، بوصفها نقطة تماس حيوية بين إقليم دارفور وتشاد وغرب السودان، يجعلها بوابة محتملة ومرشحة بقوة لتدفق السلاح والمقاتلين المرتزقة نحو الحدود الغربية لمصر.

كما أن التمدد العسكري واللوجستي لقوات الدعم السريع في هذا الاتجاه الغربي والجنوبي الغربي من السودان، يعزز المخاوف الاستراتيجية المصرية من اقتراب وتعاظم نفوذ قوى إقليمية منافسة، ذلك أن التوازنات الأمنية المعقدة على حدود مصر الجنوبية ستتعرض لاختلال عميق وخطير في بنيتها. هذا الاختلال يهدد أمن مصر القومي بشكل مباشر.

ومع أن القاهرة ما زالت تلتزم حتى الآن سياسة الحذر المعلن في تعاملها مع الأزمة السودانية، فإن التطورات الميدانية الأخيرة التي تمثلت في سقوط الفاشر، تدفعها دفعًا إلزاميًا نحو إعادة تقييم شاملة وموضوعية لخياراتها الاستراتيجية. ويصبح هذا التقييم أكثر إلحاحًا في ضوء عضويتها في اللجنة الرباعية الخاصة بالملف السوداني.

وهكذا يبدو أن أمام القاهرة معادلة دقيقة وحساسة، تتطلب موازنة استراتيجية فائقة، تهدف إلى الحفاظ على دورها الوسيط التقليدي في الأزمة السودانية، دون أن تنجر إلى مواجهة مفتوحة ومكلفة. وفي الوقت نفسه، يجب عليها حماية أمنها القومي وحصانة حدودها في ظل احتمالات تسلل الفوضى أو عبور الجماعات المسلحة عبر الحدود الطويلة والمترامية الأطراف.