أسوأ مقاربة ممكنة للفتن الطائفية، التي تنشأ من وقت لآخر، إنكارها، كأنها أحداث عابرة.
الإنكار بالتجهيل نقيض المبالغة بالتخويف.
ما الذي حدث فعلا في قرية الجلف بمحافظة المنيا؟
وما حقيقة ما تناثر من معلومات وشبه معلومات عن عقاب جماعي وتهجير قسري بأحكام عرفية تذرعا بوأد الفتنة؟
الملف أخطر من تركه بلا تقص جدي، أو لجان تحقيق حتى يدرك المجتمع كله حقيقة، ما هو كامن في بنيته من ثغرات ونقاط ضعف.
إذا تقوضت حقوق المواطنة وغيب القانون، فإن الفتن الطائفية سوف تتمدد بأخطارها من وقت لآخر، وأحيانا لأوهى الأسباب.
مع ذلك يصعب الادعاء، أن إنفاذ القانون وحده يضع حدا للفتن الطائفية ويمنع تكرارها.
بذات القدر يصعب الادعاء، أن المسألة كلها أمنية، أيا كانت التحفظات والتساؤلات، التي تتردد عند كل فتنة بشأن أداء مؤسسات الدولة.
إذا ما أردنا أن نضع الأمور في نصابها، فإن إنفاذ القانون مدخل رئيسي، لكنه ليس المدخل الوحيد، وتحسين أداء مؤسسات الدولة مدخل آخر، لكنه لا يلخص الملف المحتقن وتعقيداته.
صلب أية مواجهة هو إصلاح البيئة العامة وفتح شرايين المجتمع، وهذه مسألة سياسات عامة، تضمن الحق في التنفس السياسي والحق في العمل والثروة الوطنية وتكافؤ الفرص.
اليائسون والمحبطون هم وقود أية فتن طائفية.
أهم ما تحتاجه مصر، أن تتعرف بأكبر قدر من المكاشفة على مواطن الفتن أسبابها وجذورها والخطايا التي أسست لها.
كانت الخطيئة الكبرى استخدام ورقة الدين واللعب بنيرانها لأسباب سياسية.
في يوم (٦) نوفمبر (١٩٧٢) داهمت الفتنة الطائفية مصر لأول مرة منذ عقود طويلة.
بدت أحداث “الخانكة” بتوقيتها وملابساتها صدمة هائلة، هزت المجتمع المصري.
كانت مقاليد السلطة قد استتبت لـ”أنور السادات” بعد إزاحة منافسيه عليها، والزج بهم في السجون بعد أحداث مايو (1971).
ينسب لتجربة “جمال عبد الناصر”، أنها ضربت الأساس الاجتماعي للنخبة القبطية وجردتها من أراض وممتلكات ومصانع بالقوانين الاشتراكية.
هذا اتهام شائع وله صدى، رغم أن القوانين نفسها طبقت بلا تمييز، واستفادت من ثمارها الطبقة الوسطى، والفئات المحرومة بغض النظر عن الانتماء الديني.
بقدر عمق التحولات وما انطوت عليه من فلسفة اجتماعية، تعمل بقدر ما تستطيع على إشاعة العدالة والمساواة وإعلاء قيم المواطنة، تأكد التماسك الوطني، وخفتت النزعات الطائفية إلى حدود كبيرة.
ما الذي استدعى الفتنة من مكامنها، ولم يكن النظام الجديد قد كشف عن توجهاته في النظر إلى حقوق المواطنة، والبلد يتأهب لخوض حرب تقرر مصيره؟
تبدى احتمال أن يكون هناك من طلب إرباك الوضع الداخلي، أو تفجيره بالفتن، قبل أية مواجهات عسكرية منتظرة، لكنه لم يثبت ولا قام عليه دليل.
أرجح الاحتمالات هو الجو العام نفسه.
لم يكن الرئيس الجديد مقنعا لقطاعات كبيرة من المصريين بقدرته على ملء فراغ سلفه الراحل، وريح المعارضة تهب عليه من داخل نظامه وخارجه على السواء.
بدأ التفكير مبكرا، وهذا ثابت ومؤكد بشهادات واعترافات، في استخدام الورقة الدينية لضرب التيارين الناصري والماركسي.
جرت اتصالات لعودة أقطاب جماعة “الإخوان المسلمين” من الخارج والتصالح معها.
برز في الحلقة الرئاسية المقربة “محمد عثمان إسماعيل” محافظ أسيوط الأسبق صاحب العبارة الشهيرة: “أعداء النظام ثلاثة، الشيوعيون والناصريون والأقباط”.
شرع تحت عباءة النظام في تأسيس “الجماعة الإسلامية” بالجامعات المصرية لمواجهة الطلاب اليساريين الذين يعارضون “السادات”.
أفضت اللعبة بنتائجها وتداعياتها بنهاية المطاف إلى اغتيال الرئيس، وشيوع الإرهاب في الصعيد ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
لم تكن قد أخذت عند وقوع فتنة “الخانكة” كامل أبعادها مثل إعلان “السادات”، أنه “رئيس مسلم لدولة مسلمة”، لكنها وفرت بيئة سلبية، احتضنت الفتنة، وذكت نيرانها التي داهمت المصريين على غير توقع أو انتظار.
شكلت لجنة برلمانية لتقصى الحقائق ترأسها الفقيه القانوني الدكتور “جمال العطيفي”، انتهت بعد عشرين يوما إلى استخلاصات وتوصيات، لاقت قبولا عاما، لكنها أودِعت الأدراج إلى الأبد.
تمددت الفتن واشتعلت النيران في “سمالوط” و”أبو زعبل” (١٩٧٨) و”الزاوية الحمراء” (١٩٨١) و”شبرا” و”الزيتون” و”إمبابة” (١٩٩١) و”الكشح” (٢٠٠٠)، كما مناطق أخرى على الخريطة، ربما لم يسمع باسمها أحد من قبل، حتى وصلنا في يناير (2011) إلى الحادث المروع في كنيسة “القديسين” بالإسكندرية، بعد أربع ساعات من بداية ذلك العام الفارق في التاريخ السياسي المصري.
وقد هدفت موجة الاعتداءات بالسلاح على الكنائس المصرية عام (2013) إضفاء طابع ديني على الصراع السياسي، الذي أفضى إلى إخراج جماعة “الإخوان المسلمين” من الحكم.
بصور أخرى ولأسباب مختلفة جرت بعد ذلك فتن طائفية في محافظات “المنيا” و”بني سويف” و”أسوان” وغيرها، حتى داهمتنا أخيرا أحداث قرية الجلف.
“في مصر فتنة طائفية”.
كانت تلك عبارة قاطعة بدأ الأستاذ “أحمد بهاء الدين” في مارس (١٩٨٧) سلسلة أعمدة يومية، استغرقت أسبوعا عن فتنة، كادت تبدد السلام النفسي قبل الاجتماعي، وتذهب بالعقل إلى ما يتجاوز الجنون.
في تلك الأيام انشغلت مصر بقصص وشائعات عن “القماش الذي يُظهر الماء عليه رسم الصليب، والكف التي إذا صافحتك طبعت على يدك رسم الصليب”.
“كنت ارتعد لسريان هذه الخرافات، وما يترتب عليها من حقائق نفسية وعقلية ومادية مرعبة”.
كان قد مضى ربع قرن على “تقرير العطيفي”، وبدا الكلام كله عودا على بدء.
التعصب هو المادة الخام لكل فتنة، و”له ميكانيكية ثابتة عبر كل العصور وكل المجتمعات، فالأزمة الاقتصادية وضيق الرزق وتوتر الحياة من أسبابه”.
في ردات الفعل الاجتماعية يجرى البحث عن أكباش فداء.
كما أن “الإحباط إزاء عدو خارجي مثلا، أو العجز عن مواجهة تحديات خارجية، يجعل الناس في عجزهم، ينكفئون على صراعات داخلية، لم تكن موجودة من قبل.
“فإذا كان العنصر الخارجي صعبا، فقد يُهيأ للبعض أن العنصر الداخلي أسهل”.. “وإذا انعدمت القدرة على مواجهة أعداء حقيقيين، فالبحث يتجه تلقائيا إلى إيجاد أعداء غير حقيقيين للتنفيس”.
المعنى، أن التعاسة الاجتماعية، كما العجز الوطني، من محركات الفتن، فضلا على إحباط الشباب الذي يعاني سوء التعليم والبطالة، والأفق مسدود أمامه، والدور السلبي الذي يلعبه الإعلام أحيانا والجهالات التي تُنسب إلى الدين ظلما.
“هذه بذور التعصب التي يأتي من يصب عليها الزيت، فتتحول إلى نار”.
هكذا كتب الأستاذ “بهاء” قبل نحو أربعة عقود، كأنه يتحدث عما يحدث الآن.
هذا بذاته لافت ومنذر.
المعنى، أننا أمام أزمة سياسات تحتاج إلى مراجعة عند الجذور.






