لا يختلف اثنان حول قيمة حرمة البيوت، وعدم جواز اقتحامها دونما مبرر قانوني يسمح للسلطات بالاقتحام، ولو حتى من الناحية النظرية فقط، وقبل أن نتعرض لما أتى به نص قانون الإجراءات الجنائية يصياغته المفتوحة، أعرض لكم قصة وردت عن سيدنا عمر بن الخطاب،حيث ورد في العديد من المؤلفات الإسلامية، ومن بينها كتاب جامع الأحاديث للعلامة / السيوطي أنه قد خرج عمر بن الخطاب يوما فرأى ضوء نار وكان معه عبد الله بن مسعود فتبع الضوء حتى دخل الدار فوجد سراجاً في بيت فدخل وذلك في جوف الليل فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب ومغنية فلم يشعر حتى هجم عليه عمر فقال: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله، فرفع رأسه إليه فقال: بلى يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أقبح تجسست وقد نُهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن. فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي، وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه. نجد هذا كان يستخفى به من أهله فيقول الآن رآني عمر فيتتابع فيه، وهجر الشيخ مجلس عمر حيناً، فبينما عمر بعد ذلك جالس إذ جاءه شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال علي بهذا الشيخ، فأُتي فقيل له أجب فقام وهو يرى أن عمر سيؤدبه بما رأى منه. فقال عمر: أدن مني فما زال يدنيه حتى أجلسه بجانبه ثم أسر إليه وأقسم بأنه لم يخبر أحداً من الناس بما رأى حتى عبد الله بن مسعود الذي كان معه، فأجابه الشيخ في أذنه أيضاً فقال: وأنا والذي بعث محمد بالحق رسولاً ما عدت إليه حتى جلست مجلسي هذا فرفع عمر صوته يكبر وما يدري الناس لم يكبر.

ومن الزاوية الدستورية فقد أكد على ذلك الدستور المصري الأخير، تابعا في ذلك لدستور مصر لسنة 1971، وقد جاء نص المادة 58 على أن للمنازل حرمة لا يجوز انتهاكها إلا في حالات الضرورة وبأمر قضائي مسبب. وعلى غير ذلك أقر مجلس النواب في جلسته الأخيرة على نص المادة 48 منه على أنه: استثناء من حكم المادة ٤٧ من هذا القانون لرجال السلطة العامة دخول المنازل وغيرها من المحال المسكونة في حالات الاستغاثة أو الخطر الناجم عن الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك.

ويأتي اعتراض المجتمع القانوني والحقوقي على هذه الصياغة، من حيث ما أتت به من كلام مفتوح يبيح افتحام البيوت وعدم احترام خصوصيتها، وذلك بقوله على أقل تقدير “أو ما شابه ذلك”، وهذا القول على أقل تقدير وصف لا يتفق مع الضمانة الدستورية، ويفتح الباب للسلطة العامة لاقتحام البيوت، تحت ظنون مفتوحة، لا يمكن تحديد مدلولها، كما أنه قد كان اعترض رئيس الجمهورية، على المادة 48 من قانون الإجراءات الجنائية، بسبب أن المادة لم تحدد حالات الخطر التي تجيز لرجال السلطة العامة دخول المنازل وغيرها من المحال المسكونة، بما قد يمس بالحماية الدستورية المقررة لها ما دام لا توجد محددات أو تعريف متوافق عليه الحالات الخطر، وهو ما رأى فيه الرئيس السيسي إعادة النظر في هذه المادة من أجل تحديد هذه الحالات أو وضع تعريف لها منعاً من التوسع في التفسير وامتدادها لحالات لم يقصدها المشرع الدستوري لدى صياغة نص المادة (58) من الدستور، سيما أن حرمة المنازل وغيرها من المحال المسكونة من الحقوق الأصيلة واللصيقة بالشخصية التي يجب الانحياز لها من خلال الصياغة المحكمة لأي استثناء يرد عليها.

لكن لم يأبه مجلس النواب بكتلته التصويتيه المحسوبة على الحكومة يأي من الآراء الفقهية أو العلمية أو الدستورية التي تحافظ على قداسة البيوت، وأقرت ذلك النص على ما جاء عليه، بتلك الصورة المعيبة، والتي تأكل ما تبقى من حقوق وحريات أو ضمانات يجب أن يتمتع بها المواطنون في مواجهة تعسف السلطة العامة، أو انحرافها عن المسار لقانوني في شأن حرمة المنازل، حتى أنه لم تتماش مع النص الدستوري ذاته، وكأن هذا المجلس لم يكن به أعضاء قانونيون أو لم يكن يترأسه علم من أعلام القانون، وختم مجمل أعماله بموافقة بأغلبيته، لكون الأصوات المعارضة لا ترقى عدداً في الوقوف ضد هذا النص، وكأن المجتمع ذاته لم يعد في حسبانها، أو لم تكن تلك الأصوات الموافقة على هذا النص رفقة غيره من نصوص قانون الإجراءات الجنائية المعيبة معبرة عن حقيقة وجودها كنواب أو ممثلين عن أصوات ناخبيهم، إن صح التعبير، أو لم يكن في حساباتهم سوى تقديم ولاء أكثر من المطلوب للسلطة الحاكمة.

ومن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا، والذي جاء في الحكم رقم 5 لسنة 4 قضائية أن “المشرع الدستوري – توفيقًا بين حق الفرد في الحرية الشخصية وفي حرمة مسكنه وحياته الخاصة وبين حق المجتمع في عقاب الجاني وجمع أدلة إثبات الجريمة ونسبتها إليه – قد أجاز تفتيش الشخص أو السكن كإجراء من إجراءات التحقيق بعد أن أخضعه لضمانات معينة لا يجوز إهدارها تاركًا للمشرِّع العادي أن يحدد الجرائم التي يجوز فيها التفتيش والإجراءات التي يتم بها”. وهو ما يفهم منه أن المشرِّع الدستوري قد كفل الحماية اللازمة لحرمة الحياة الخاصة باعتبارها أحد الحقوق الإنسانية والدستورية، والتي من صورها حرمة المراسلات الإلكترونية وجميع وسائل الاتصالات، وسريتها وحظر مصادرة أي منها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها. جاء هذا النص عامًا مطلقًا دون قيد أو تخصيص، ولم يتضمن سوى حالة استثنائية وحيدة، وهي وجود أمر قضائي مسبب، ومحدد المدة بالاطلاع عليها، أو رقابتها، وفقًا للأحوال التي يبينها القانون.

لكن لم يشفع الإرث الفقهي المصري أو القضائي، ولا حتى الحقوقي في الوقوف حائلاً دون إقرار ذلك النص على النحو السابق ذكره، وكأن أعضاء مجلس النواب كانوا على اتفاق على أن تُختم دورتهم التشريعية بإقرار ذلك القانون بكل ما جاء به من عيوب، لا تتوافق على أقل تقديرات مع أي أسس علمية في الصياغة أو ضمانات الحقوق، وهو ما تمثله قيمة قانون الإجراءات الجنائية من بين غيره من القوانين، في كونه هو القانون الفارق ما بين عسف السلطات وضماناتها لحقوق المواطنين حال كونهم هم الفريق الأضعف حين كونهم في حالة تماس مع القوانين العقابية، إذ إن مجرد ارتكاب الشخص لجريمة لا يصلح أن يكون مبرراً للعسف بحقوقه الإجرائية، وهو الأمر الذي تم إقراره في مشروع قانون الإجراءات الجنائية الأخير.

إذن ما تبقى للمجتمع المصري من أو ضمانات بعد إقرار ذلك القانون، لا أرى سوى أن الأمر هو إعادة لتدوير نصوص الطوارئ في كتاب قانون الإجراءات الجنائية، وهو الأمر الذي سوف تثبته الأيام، وسوف تعود الدائرة مرة جديدة لصناعة قانون يتوافق مع حقوق المجتمع المصري.