ثلاث سنوات مرت على تلك الصورة.. ثلاثة كنا.. نقف مبتسمات.. في صيف 2017.. خلفنا نافورة وقصر مهيب.. كارترايت هول في مدينة برادفورد.. معرض للفنون المدنية في غرب يوركشاير بإنجلترا يتمتع بإطلالات خلابة على المدينة.. ونحن ننظر إلى الكاميرا، مبتسمات، واثقات.
هي ناشطة حقوقية نسوية وموظفة بمجال العمل الاجتماعي في إنجلترا، بريطانية من أصل آسيوي مسلم، والأخرى منتجة برامج تلفزيونية، بريطانية هي الأخرى.
وأنا بينهما خبيرة استشارية، يمنية سويسرية، لبرنامج وثائقي عرضته القناة الرابعة الإنجليزية في نوفمبر 2017 بعنوان “المشكلة في الزواج الإسلامي“.
جمعنا العمل على البرنامج، وعلى الهدف وهو إيجاد حل للقضية.
التقينا في هذا المكان لعقد ورشة عمل مع مجموعة من الناشطات البريطانيات المسلمات، استُخدمت بعض وقائعها في البرنامج.
قفزت الصورة أمامي، عندما فتحت هذا الأسبوع صفحتي على “فيسبوك”، الذي لديه تقليد يعرفه وتعرفه من يستخدمه وتستخدمه.
من وقت لآخر، يذكرنا بصورة أو منشور وضعناه على حائطنا قبل سنوات، لعلنا نكرر وضعه من جديد.
وأنا في المقابل، لدي تقليد أيضًا، أنظر إلى الصورة أو المنشور، ثم أقرر، هل أنشره من جديد أم لا، بعض المنشورات أو الصور فات وقتها، وبعضها الأخر يذكرنا بمواقفنا، وغيرها بحزننا.
هذه المرة، نظرت إلى الصورة، وابتسمت، ابتسامة فيها حرقة، ومرارة، وقلت لنفسي انشريها من جديد، وذكري من لا يريد أن يتذكر بالموضوع، ثم أكتبي عنه من جديد.
الموضوع هو قضية لازالت قائمة، وتؤرقني إلى يومنا هذا، فأكثر من ستين في المائة “61%” من زيجات البريطانيات المسلمات تتم بشكل ديني فقط، أي أنها غير موثقة رسميًا، هذه نتيجة استطلاع للرأي عمل عليه الفريق البحثي ونشرته القناة في البرنامج الوثائقي.
بعضكم سيتساءل، وأين المشكلة؟ كلنا نتزوج زواجًا دينيًا، صحيح، ليس الكل بالطبع، ولكن في منطقتنا الشرق الأوسطية، لا نعرف الزواج المدني، لكن هذا موضوع آخر، أعود إليه في مقال قادم.
ما يهمنا هنا هو أن الزواج الديني وحده لا يحمي حقوق المرأة في بريطانيا، ويجب أن يكون موثقاً مدنياً.
الزواج الديني لا يحمي حقوق المرأة، ولذا تجد الكثيرات من البريطانيات المسلمات يضطرن إلى اللجوء إلى محاكم شريعة في بريطانيا، وهي محاكم تُشبه محاكم قبلية، بعضها يكاد يكون طالبانيًا، وهناك من يخضعن لقوانين الشريعة في الطلاق والزواج، وهي قوانين دينية تم وضعها بين القرنين السابع والعاشر الميلادي، وهي مجحفة، يجب تغييرها.
وفي حين أن تغيير هذه القوانين، يأخذ وقته في البلدان العربية والمسلمة، يبدو لي من الغريب أن يتم تطبيقها في بريطانيا، والأغرب أن تغض الحكومة البريطانية عن المعاناة المأساوية لهذه النساء!، ولذا تجدوني إلى اليوم غاضبة.
في سويسرا، وطني الثاني، تم سن قانون مدني يعود تاريخه إلى العام 1874 يحمي المرأة ويدفع بمدنية الدولة في الوقت ذاته.
الفقرة 3 من المادة 97، وهي في الواقع مربط الفرس، تحدد بصورة لا لبس فيها أن “عقد الزواج الديني لا يجوز قبل الزواج المدني“، فالزواج المدني هو الأساس، وبعدها يتزوج من يريد بأية صورة دينية.
جاء القانون المدني السويسري، ليوحد القوانين المتعددة المتداولة والمعمول بها في الكانتونات الست والعشرين فيها، في قانون مدني واحد، يسري على الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، وقوانين الطلاق والزواج تندرج أيضًا ضمن القانون المدني.
فعندما يحدث الطلاق يُطّبق القانون المدني على الزوجين، حيث يحمي الطرفين بشكل متساو وعادل، وتحديدًا منذ التعديلات التي دخلت حيز التنفيذ عام 1988، نحترم كافة الأديان، لكن القانون الموحد، الذي يحترم كرامة والحقوق المتساوية للزوجين، يسري على الجميع.
الوضع مختلف في بريطانيا، فهي لا تعرف قانونًا شبيها يُصر على عقد الزواج المدني قبل الديني.
في الواقع ما تعرفه هو قانون للزواج صدر عام 1949، اعتبر أن عقد الزواج الديني للمسيحيين واليهود والكويكرز “وهي طائفة دينية بروتستانتية مسيحية عُرفت بتسامحها وإنسانيتها ودورها الأساسي في إلغاء العبودية”، هذا العقد هو في نفس الوقت عقد لزواج مدني مسجل، ولذا يسرى القانون المدني في الزواج والطلاق على هذه المجموعات الدينية.
كان القانون يعكس الوضع السكاني لبريطانيا حينها، والمجموعات الدينية المتواجدة فينها، لكن الوضع تغير مع العقود التي تلت الخمسينات من القرن. وفد عليها العديد من سكان دول الكومنولث، الدول التي استعمرتها بريطانيا سابقاً. ومعها تغيرت التركيبة السكانية والدينية للمجتمع البريطاني، لتنضّم إليها أديان أخرى، من بينها الديانة الإسلامية.
يعيش اليوم في بريطانيا ما يزيد على أربعة ملايين شخص من أتباع ديانة الإسلام، أي نحو 6.3% من عدد سكان بريطانيا، إحصائية مركز بيو للبحوث لعام 2017.
في العقود الأولى من وصولهم التزم المهاجرون والمهاجرات بالقوانين المعمولة في بريطانيا، وعند حدوث طلاق كانوا يلجأون إلى القانون المدني للطلاق، مثلهم مثل غيرهم.
لكن أسباب عديدة، من بينها انتشار المد الديني الأصولي المتطرف في صورته الديوباندية والجماعة الإسلامية الباكستانية، أدت إلى انغلاق بعض هذه الجاليات، وتحولها إلى غيتوات منعزلة، كأنهم يعيشون في مجتمعات موازية بتقاليد خانقة، وقوانين دينية لا تطبق حتى في بلدانهم الأصلية.
والأهم أن أكثر من تعاني هي المرأة، التي يُحملونها مفاهيم الشرف والتقاليد، والويل لمن تسول لها أن تعيش حياتها كما تريد.
هذا الوضع انعكس أيضًا على قضايا الزواج والطلاق، فمن جانب، انتشر خطاب يدعو المسلمين إلى عدم إتباع “قوانين أهل الكفر” والالتزام بقوانين الشريعة، رغم أن قوانين ما يسمونهم بـ”أهل الكفر”، هي التي حمتهم ووفرت لهم الأمان والكرامة والضمان الاجتماعي.
ومن جانب أخر، كان هناك عدم إدراك من قبل الكثير من الأسر المسلمة بطبيعة القوانين القائمة في بريطانيا، فالكثيرون والكثيرات اعتقدن أن الزواج الديني معترف به أمام القانون البريطاني، لكن الواقع أن القانون البريطاني لا يعترف بالزواج الديني إلا بعد تسجيله مدنياً.
ومن جانب ثالث، كان بعض الأزواج يتعمدون تضليل زوجاتهم، وعدم تسجيل زيجتهم مدنيًا كي لا يحصلن على حقوق متساوية في الثروة والملك وحضانة الأطفال في حال الطلاق، أو ليتمكن الزوج من الدخول في زواج متعدد.
نتائج هذا الوضع الكارثية تكتشفها المرأة عند طلاقها، وحينها تكتشف أن القانون البريطاني، لا يعترف بزواجها، وأن القانون المدني الذي يحميها ويحمي كرامتها لا يُطبق عليها، فتضطر إلى اللجوء إلى محاكم الشريعة، وهنا تدخل في دوامة تعيدها إلى القرون الوسطي.
المحاكم تُصر أغلبها على المرأة أن تستمر في زواجها، رغم العنف المنزلي الذي تعاني منه الكثيرات، وفي الواقع هذه المحاكم تعتبر أنه من حق الرجل تأديب زوجته، بكلمات أخرى ضربها.
وبعضها لا ترى غضاضة من زواج الطفلات، والبعض الآخر لا يعتبر أن غصب الفتاة على الزواج يعتبر مبرراً للطلاق، وفي معظم الأحوال، تضع هذه المحاكم شروطًا مُجحفة ومتحيزة على المرأة كي تساعدها على الطلاق، وفي الغالب تضطر المرأة إلى التخلي عن حقوقها المالية وحقوقها في الحضانة كي تفر من جحيم زواجها، أو تقبل بالجحيم من جديد كي تبقى مع أطفالها.
تعرفت على هذا الواقع عن قرب خلال فترة بحث، شملت زيارات ميدانية في بريطانيا، وأثمرت عن كتاب “المرأة والشريعة: آثار التعددية القانونية في بريطانيا”، الذي صدر عام 2016 في لندن بالإنجليزية “تتم ترجمته حاليًا إلى الألمانية”.
تعرفت على هذا الواقع وقهرني، لم أتوقع أن أرى مثل هذا الظلم يحدث وسط دولة مثل بريطانيا، ولذا لم أتردد في الانضمام إلى فريق عمل البرنامج الوثائقي حول هذه القضية، وكل من عمل في هذا البرنامج كان هدفه تغيير هذا الواقع في بريطانيا.
وكان للبرنامج فضل التوعية، من خلال المجموعات النسائية التي عملت على إجراء الحوارات واللقاءات مع ألف امرأة مسلمة في عينات مختارة داخل بريطانيا.
نحو ثلث العينة، اكتشفت من خلال البرنامج أن زيجاتهم غير معترف بها في بريطانيا. وأكدت أكثر من 78% رغبتهن في تسجيل زواجهن، وكانت هذه حصيلة إيجابية للبرنامج.
لكن الهدف الأساسي، أي تغيير القانون بحيث يتم عقد الزواج مدنيًا قبل الزواج الديني، وإنهاء عمل محاكم الشريعة، وحماية حقوق المرأة البريطانية المسلمة، هذا الهدف الأساسي لم يتحقق، ولم يتغير القانون، وظلت محاكم الشريعة تعمل، رغم التحقيقات التي أجراها مجلس العموم ومجلس اللوردات “والتي شاركت فيها كخبيرة”، وازداد الوضع سوءً داخل المجتمعات المغلقة.
الحكومة البريطانية ظلت مُصّرة على تجاهل الموضوع، وانشغلت، وكان انشغالها خائفاً ومتعمدًا، إذن ثلاث سنوات مرت على تلك الصورة، لثلاث نساء، يعملن من أجل قضية، وقفن أمام العدسة يبتسمن واثقات.
الصورة تعكس قضية، والقضية لازالت دون حل، أكتب عنها من جديد كي أذكر من لا يريد أن يتذكر.