لم يعد الحديث عن تفكك السودان مجرد تخوف سياسي، بل احتمال قائم في ظل الانهيار المتسارع لمؤسسات الدولة، واتساع سيطرة القوى المحلية على حساب المركز. فمنذ سقوط الفاشر المدينة التي كانت رمزًا لوحدة دارفور داخل السودان، بدا أن الخيط الذي يربط الأطراف بالعاصمة، ينقطع وأن البلاد تدخل طورًا جديدًا، تتبدل فيه ملامح السلطة والهوية معًا.

تفكك السودان إن حدث لن يكون انفصالًا تقليديًا كما في تجربة الجنوب، بل تفتتًا تدريجيًا، تتوزع فيه السيطرة بين كيانات محلية وقبلية وأمنية متداخلة. هذه الصيغة لا تنتج دولًا جديدة، بقدر ما تخلق مساحات رمادية خارجة عن السيطرة المركزية، يتحكم فيها من يمتلك القوة الميدانية أو الموارد أو طرق الإمداد. العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعها تتفاعل لتنتج حالة تفكك بطيء غير معلن، إذ تتآكل شرعية الدولة المركزية ويتراجع الولاء الوطني لصالح الولاءات المحلية، فيما تنهار سلاسل الإنتاج، وتتحول موارد الدولة إلى مصادر نفوذ لأطراف مسلحة.

في هذا السياق، تزيد التدخلات الإقليمية والدولية المشهد تعقيدًا. فالسعودية تنظر إلى السودان من زاوية أمن البحر الأحمر واستقرار حدودها الغربية، والإمارات تتعامل معه كامتداد لنفوذ اقتصادي وأمني، يربط القرن الإفريقي بالساحل الليبي، والولايات المتحدة تتعامل مع الملف بوصفه أزمة، تحتاج إدارة لا أولوية جيو سياسية، بينما ترى القاهرة أن السودان مسألة وجودية تمس أمنها القومي المائي والجغرافي. هذا التباين في الرؤى جعل السودان ساحة تنافس لا بناء، إذ يتقاطع فيها النفوذ الخليجي والدولي على حساب فكرة الدولة الوطنية.

تأتي هذه التطورات، فيما تواجه مصر ضغطًا استراتيجيًا متزايدًا في أكثر من اتجاه. فشرقًا تنشغل بملف غزة وسيناء، وغربًا تتابع المشهد الليبي، وجنوبًا تواجه تحدي سد النهضة. وسط هذا التشابك قد يُنظر إلى السودان كمصدر تهديد إضافي، غير أن إدارة القاهرة للأزمة يمكن أن تحول هذا التحدي إلى فرصة لإعادة التموضع وإثبات قدرتها على إدارة الأزمات الإقليمية دون انخراط عسكري.

إن تحويل الانكشاف السوداني إلى ساحة تأثير إيجابي لمصر، يمر عبر تفعيل أدواتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بدل اللجوء إلى القوة الصلبة واستثمار موقعها في “الرباعية الدولية” لإعادة تعريف معنى الاستقرار في السودان، بما يخدم المصالح المتبادلة، ويمنع الانزلاق الكامل نحو التفكك. يذكر أن “الرباعية الدولية” المختصة بالشأن السوداني تضم الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات.

فرضية تفكك السودان، لا تعني نهاية الخرائط، بل بداية لإعادة توزيع الأدوار والنفوذ في الإقليم. فالفوضى قد تُضعف بعض الدول، لكنها تتيح لدول أخرى فرصًا لإعادة التموضع. ومصر بما تمتلكه من روابط بشرية وجغرافية وثقافية مع السودان قادرة على تحويل الانهيار الجاري إلى مدخل لإعادة بناء حضورها جنوبًا على أسس واقعية وهادئة، وأن تضبط إيقاع التحولات، بما لا يمس أمنها القومي، بل يعيد تأكيد مركزيتها في معادلات وادي النيل والبحر الأحمر. فالتحولات الكبرى كثيرًا ما تبدأ من هوامش الخرائط، لكن من يدير الهامش هو من يكتب مستقبل المركز .

ما الذي يمكن لمصر أن تفعله بعد سقوط الفاشر وقرب تفكك السودان؟

تدخل الأزمة السودانية مرحلة مفصلية، تفرض على القاهرة إعادة صياغة دورها جنوبًا كفاعل أساسي واستراتيجي، يمتلك من الإرث التاريخي والروابط المجتمعية، ما يجعله مؤهلًا لإدارة التحولات بذكاء وهدوء. فغياب المركز لا يعني بالضرورة انهيار الدولة، بل فتح مساحة جديدة أمام القوى الإقليمية لإعادة تموضعها. وهنا تبرز أمام مصر فرص نادرة لإعادة هندسة حضورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السودان، بما يحافظ على وحدة الجار الجنوبي، ويصون أمنها القومي في آن.

في ظل الانقسام الميداني وغياب سلطة جامعة، يمكن للقاهرة أن توظف شبكاتها التاريخية الممتدة عبر النيل والحدود الشمالية للسودان؛ لتثبيت نفوذ ناعم، يقوم على دعم الاستقرار المجتمعي لا على التدخل العسكري. فالمجتمعات المحلية في شمال السودان ووسطه هي الأقرب إلى التماس المباشر مع مصر، بينما تظل مناطق دارفور ذات تركيبة اجتماعية معقدة، لا تتصل مباشرة بمصر جغرافيًا أو قبليًا، ما يجعل التعامل معها قائمًا على الفهم السياسي والميداني لا على الامتداد الاجتماعي. ويمكن لتوجيه المبادرات التنموية والخدمات الأساسية والتجارة الحدودية نحو المناطق الأكثر اتصالًا بمصر، أن يخلق دوائر استقرار مرتبطة بها، تحفظ مصالحها وتحد من احتمالات الانزلاق نحو فوضى أوسع.

إن مقاربة القاهرة لدارفور ليست معزولة عن رؤيتها الأشمل لمنع تفكك السودان، بل تمثل أحد مفاتيحها الجوهرية. فترميم النسيج الاجتماعي في الإقليم وإعادة الثقة بين مكوناته يعني عمليًا استعادة إحدى أهم دوائر التوازن التي بغيابها يتهاوى الكيان السوداني. ومن هذا المنطلق، يمكن لمصر أن توظف حضورها التاريخي وثقلها الرمزي لبناء جسور مصالحة اجتماعية واقتصادية، تمتد من غرب السودان إلى شماله وشرقه، بما يعيد تشكيل مفهوم الوحدة على أسس مرنة، تتلاءم مع الواقع الميداني الراهن. تراهن القاهرة هنا على فكرة أن الاستقرار لا يُفرض من المركز، بل يُبنى من الأطراف، وأن دارفور بما تمتلكه من عمق قبلي وموارد بشرية قادرة، على أن تكون بداية لإعادة ترميم الدولة السودانية لا نهايتها. فبدلًا من أن تتحول دارفور إلى ساحة لتقاسم النفوذ بين قوى إقليمية متنافسة، يمكن أن تصبح نموذجًا لإحياء الدولة عبر مقاربة تشاركية، تحفظ مصالح كل المكونات، وتمنح مصر موقعًا محوريًا كضامن للتوازن وميسر للتسويات.

لكن إلى جانب أدوات النفوذ الناعمة يدرك صانع القرار في القاهرة أن واقع الميدان يفرض أحيانًا ضرورة التلويح بعناصر القوة الصلبة، لا باعتبارها خيارًا للمواجهة، بل كإشارة إلى امتلاك القدرة على الحماية والردع. فاستقرار الحدود الجنوبية لمصر، لا ينفصل عن التوازن الأمني في شمال السودان، وأي فراغ هناك قد يفتح المجال أمام قوى أو جماعات معادية لملء الفجوة. هنا، تتحرك القاهرة ضمن مفهوم “القوة الوقائية” أي بناء جاهزية دفاعية وردعية كافية لتأمين حدودها وممرات النيل وخطوط الإمداد الاستراتيجية دون الدخول في انخراط مباشر. هذه القدرة على الإيحاء بالقوة دون استخدامها، تمثل في حد ذاتها أداة سياسية تعيد لمصر وزنها التقليدي في معادلات الأمن الإقليمي، وتُبقي المبادرة في يدها. وبهذا المعنى، يصبح توازن الأدوات بين النفوذ الناعم والقدرة الصلبة هو ما يضمن فعالية الدور المصري في مرحلة ما بعد الفاشر، ويمنع تحوّل السودان إلى ساحة منفلتة، تهدد الجوار المصري.

النهج المصري في هذه المرحلة، ينبغي أن يجمع بين المرونة والفاعلية، إذ يتعين على القاهرة تفادي الانخراط المباشر في النزاعات المسلحة؛ حفاظًا على موقعها كقوة وسيطة مقبولة من مختلف الأطراف، وفي الوقت نفسه استثمار وجودها العميق في البنية الاجتماعية والسياسية للسودان؛ لتصبح القوة الإقليمية الأكثر قدرة على التواصل مع الجميع دون انحياز. استخدام أدواتها الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية يمكن أن يرسخ استقرارًا طويل الأمد، يجعل من حضورها في السودان عامل توازن لا توتر.

مقاربات إقليمية ودولية

وفي الإطار الإقليمي والدولي الأوسع، يمنح موقع مصر داخل الرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات فرصة؛ لإعادة تعريف موقعها ضمن توازن القوى الجديد. فبينما تركز واشنطن على إدارة الأزمة لا حلها، وتنظر الرياض من زاوية أمن البحر الأحمر، وتوسع أبوظبي نفوذها عبر واجهات اقتصادية وأمنية، يمكن للقاهرة أن تكون قوة الربط والتوازن التي تجمع بين الأمن والتنمية، وتمنع تحوّل السودان إلى ساحة تنافس خليجي ودولي. كما تستطيع استثمار التباين بين الرياض وأبوظبي لتثبيت موقعها كضابط لإيقاع العلاقات الخليجية الإفريقية وإعادة هندسة الرباعية، بحيث تتحرك وفق رؤية مصرية، تحفظ وحدة السودان، وتخدم المصالح الإقليمية المشتركة.

ورغم تعدد الملفات المُرهقة من غزة شرقًا إلى ليبيا غربًا وسد النهضة جنوبًا، يبقى السودان الملف الأكثر ارتباطًا بالعمق الوجودي المصري. فخسارته لا تعني فقدانا سياسيا فحسب، بل تفكيكًا لحزام الأمان الاستراتيجي الممتد. من هنا تصبح الأزمة السودانية اختبارًا لقدرة القاهرة على الانتقال من إدارة الأزمات إلى صناعة التوازنات وتحويل الفوضى إلى فرصة لإعادة ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية، تمتلك شرعية التاريخ والجغرافيا معًا.