في صعود جديد لجيل زد Gen Z على المشهد السياسي والاجتماعي في إفريقيا، تنتشر موجة احتجاجات “جيل زد” كظاهرة عابرة للحدود في القارة الإفريقية خلال الشهرين الماضيين، والتي بدأت بالمغرب لتمتد إلى كينيا ومدغشقر وأنجولا وأوغندا وغيرها، رغم اختلاف السياق الاجتماعي والمرجعية السياسية الوطنية، إلا أن القاسم المشترك بين الاحتجاجات هو قيادة الشباب لموجات الغضب ضد الفساد الحكومي، وتدهور الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة غير المسبوقة، عبر منصات التواصل الاجتماعي التي باتت الأدوات الرئيسية للتنظيم والتعبير عن الغضب ضد الأنظمة القائمة.
تختلف السياقات الوطنية لموجة الاحتجاجات الأخيرة، كذلك قدرة النظم السياسية على احتوائها عبر الاستجابة السلمية ومحاولة خلق برامج إصلاح حقيقية تلبي المطالب الشعبية، كما يحدث في المغرب، أو قلب نظام الحكم وعزل الرئيس من قبل القيادات العسكرية، كما حدث في مدغشقر، أو العنف والتعامل بالقوة مع المتظاهرين إلى حد سقوط القتلى كما حدث في كينيا، وهو ما يطرح التساؤل عن مدى استمرارية الزخم والقدرة على خلق أجندة تغيير هيكلي، أم أن الأمر مجرد موجة احتجاجات عابرة.
دوافع وسياق وطني مختلف
انطلاق الاحتجاجات بقيادة جيل زد، ضد السلطة بشكل مباشر في تجاوز لكل المؤسسات المدنية والسياسية التقليدية، كان قاسما مشتركا يعكس غياب الثقة في الأحزاب والنقابات، والتي باتت كيانات شكلية معظمها يوالي السلطة، ومن يجلس على كرسي الحكم في الدول الإفريقية، ورغم أن الاحتجاج على الفساد والفقر والبطالة كان قاسما مشتركا أيضاً في مطالب المحتجين، إلا أن السياق الوطني كان مختلفاً.
المغرب
في المغرب، كان دفع الأولويات الحكومية نحو إصلاح الصحة والتعليم ومكافحة الفساد، هو أساس الاحتجاج، ففي منتصف سبتمبر الماضي، ظهرت دعوات افتراضية عبر المنصات الاجتماعية للاحتجاج، لاقت رواجاً بين الشباب عبر هاشتاج GenZ212#، حيث يشير 212 إلى رقم الاتصالات الدولية للمغرب، و Gen Z إلى قادة الحراك من مواليد العقد الأخير من حقبة التسعينيات، ومطلع الألفية الجديدة للبدء في تظاهرات سلمية في 27 سبتمبر، لتنطلق التظاهرات من الدار البيضاء إلى مدن أخرى تحت شعارات “حرية، عدالة، كرامة اجتماعية، الشعب يريد إسقاط الفساد، ما بغيناش كأس العالم الصحة أولاً”.
ورغم البداية السلمية للتظاهرات، إلا أن التعامل الأولي لقوات الأمن معها بالقوة؛ تسبب في اتساع رقعة التظاهرات وامتدادها على مستوى المدن المغاربية ووقوع العديد من حوادث العنف التي أدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص ومصابين، إلا أن استجابة النظام في المغرب كانت سريعة، إذ ظهر رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش، في أول تعليق رسمي؛ ليعلن تجاوب حكومته مع مطالب المحتجين واستعدادها للحوار والنقاش، حتى هدأت التظاهرات نسبياً، فيما بقي نحو 600 شخص، بينهم قُصر محتجزون، لدى قوات الأمن، وينتظرون محاكمتهم- وفقا للجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
كانت استجابة ملك المغرب، محمد السادس للتظاهرات غير مباشرة، إذ أعرب عن دعمه لبرامج التنمية دون الإشارة أو التعليق على الاحتجاجات، ففي خطاب رسمي له مؤخراً، دعا الملك الحكومة إلى تشغيل الشباب والنهوض بقطاعي الصحة والتعليم، وضرورة محاربة الفوارق بين الطبقات.
بالنظر إلى نتائج الاحتجاجات في المغرب والتعامل الأمني معها، يمكن القول إن المحرك الرئيسي كان سياسات الحكومة وإهمال الخدمات الاجتماعية، بخاصة الصحة والتعليم لصالح مشاريع أخرى في وقت تركز الحكومة أغلب المشروعات لاستضافة كأس العالم 2030 عبر تطوير البنية التحتية الرياضية واللوجستية من خلال توسيع وتحديث الملاعب وشبكات الطرق والمطارات والسكك الحديدية، دون أن يكون الهدف الأقصى للمتظاهرين هو إسقاط النظام السياسي.
مدغشقر
على العكس من تظاهرات جيل الألفية في المغرب، كانت مدغشقر المسار الأسرع لإسقاط النظام نفسه بتدخل عسكري مباشر لعزل الرئيس، رغم أن الشرارة الأولى للتظاهرات كانت احتجاجاً على فشل الخدمات الرئيسية من المياه والطاقة، إلا أن مستوى العنف كان مختلفا، إذ تصاعدت الاحتجاجات بشكل سريع تدخل على إثره الجيش بعزل الرئيس، فيما تسبب في أزمة دستورية.
اندفعت تظاهرات جيل زد في مدغشقر بمطالب معيشية محلية بشكل أساسي، ثم تصاعدت لتشمل الدعوة إلى إصلاح النظام ومساءلة الحكومة، وذلك بسبب سوء الخدمات الأساسية، وتفاقم الفقر، إذ تشهد مدغشقر انهيارا اقتصاديا حادا، ويعيش نحو 80% من السكان تحت خط الفقر، بالإضافة إلى تدهور غير مسبوق في الخدمات الأساسية، أبرزها: الانقطاعات المتكررة في الكهرباء والماء.
في منتصف أكتوبر الجاري، انضمت وحدات من الجيش إلى المتظاهرين، حيث انضمت وحدة النخبة في الجيش إلى المحتجين، وهو ما دفع الرئيس أندري راجولينا، للفرار معلناً في خطاب، بثه على موقع فيسبوك، أنه اضطر للانتقال إلى مكان آخر؛ حفاظاً على حياته.
ورغم استمرار المطالب الشعبية في مدغشقر دون حل، إلا أن الانقلاب العسكري أصبح القضية الأبرز، إذ بدأ الحاكم العسكري الجديد العقيد مايكل راندر يانيرينا، تشكيل حكومة مدنية والتنصل من أي اتهامات بمحاولة الانقلاب من أجل السيطرة على السلطة، والتأكيد على دعم الحركة الشبابية التي تطالب بالإصلاح الشامل ومكافحة الفساد، ولكن دون تقديم أي ضمانات حقيقية لتنفيذ هذه المطالب أو إمكانية التخلي عن السلطة، رغم ما أعلنه في أولى خطاباته، بأن السلطة للشعب والتعهد بإجراء انتخابات في خلال عامين، وهو الخطاب الذي يشبه أغلب خطابات العسكريين بعد تنفيذ محاولات الانقلاب.
وفقاً لقرار الاتحاد الإفريقي في 16 أكتوبر بتعليق عضوية مدغشقر، فإن ما حدث في مدغشقر وفق الرؤية الإفريقية هو انقلاب عسكري مكتمل الأركان، وليس ثورة شعب يقودها الشباب ضد فساد رئيس مدني منتخب، وهو ما قد يزيد عزلة القادة العسكريين الجدد في مدغشقر، ويضعهم أمام ضغوط إقليمية ودولية متزايدة، قد تحيل من تنفيذ أي من الوعود الإصلاحية في الداخل.
كينيا
في شرق القارة، لم تكن موجة الاحتجاجات في كينيا التي يقودها جيل زد هي الأولى، حيث تشهد البلاد العديد من الاحتجاجات الدموية لأسباب سياسية واقتصادية، حيث تبقى الأزمات الاقتصادية والسياسات المالية للحكومة هي المحرك الرئيسي للاحتجاجات الحالية بعد الإصرار على فرض زيادات ضريبية جديدة على المواطنين، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وتفشي الفساد، والمحاولة لتمرير قانون المالية الذي يتضمن زيادات ضريبية، بما في ذلك ضريبة القيمة المضافة على الخبز والسيارات، رغم التراجع عنه العام الماضي، بعد سياسات قمعية وأمنية ضد من تظاهروا على هذا القانون في 2024.
في محاولة لتفادي موجه العنف الدموية التي شهدتها كينيا العام الماضي، نجح الحراك الاحتجاجي بقيادة جيل زد في كينيا في إجبار الرئيس الكيني، وليام روتو على سحب مشروع القانون، مسجلاً انتصاراً كبيراً لـ”جيل زد” الذي أظهر قدرة تنظيمية هائلة عبر الهاشتاجات (مثل #EndFinanceBill).
استمرارية الزخم: تحدي تحويل الحراك الثوري إلى تغيير سياسي واقتصادي
مع تجدد احتجاجات جيل زد في أنحاء مختلفة من القارة الإفريقية، رغم اختلاف السياق السياسي والاقتصادي والمجتمعي، إلا أن إمكانية استمرار الضغط والمطالبة بالإصلاحات وإمكانية تحقيق تغيير نظامي مستقر، تبقى أحلام ومطالب خيالية، ما لم ينجح محركو هذا الحراك الثوري من جيل الألفية في تحويل قوته الرقمية إلى قوة سياسية ومؤسسية منظمة.
رغم صعوبة إيجاد تنظيم سياسي يقود المطالب التي يرفعها الشباب، إلا أن الحراك الاحتجاجي الذي يقوده جيل زد لديه عوامل قوة، تضمن استمراره أهمها: القوة السكانية “الديموجرافية”، حيث يشكل جيل زد الكتلة السكانية الأكبر في إفريقيا، ما يجعله الجيل الذي يحارب من أجل البقاء، إذ يعاني وحده من سياسات الفقر والبطالة، بالتالي فإن الدافع الأساسي للاحتجاجات لن يزول، إذا ما استمرت السياسات الاقتصادية الحالية، وهو ما يشير إلى استمرار زخم هذه الاحتجاجات.
ويظهر العامل الثاني في استمرار الاحتجاجات في القاسم المشترك لعبور الاحتجاجات عبر الحدود، حيث أن الأسباب الرئيسية للاحتجاج واحدة في أغلب البلدان الإفريقية، وهي الفساد والتفاوت وسوء الخدمات.
رغم عدم وجود قوة سياسية ومجتمعية تنظيمية تقود الاحتجاجات، إلا أن المرونة التي تمتع بها جيل زد تؤكد استمرار روح الاحتجاج، ما لم يتم تنفيذ المطالب، أغلب الاحتجاجات انتقلت إلى الشارع عبر منصات رقمية مثل تيك توك، وديسكورد، وواتس أب، وهو ما يصعب على السلطات المحلية تفكيك هذه التنظيمات أو استهداف أشخاص محددين، من المحتمل أن يكونوا وراء هذه الاحتجاجات، لذلك فإن تمتع هذا الحراك الثوري بالتعبئة السريعة يضمن له العودة للمشهد السياسي بشكل متكرر حتى تحقيق مطالبه.
مع القوة التي يتمتع بها جيل زد في الضغط من أجل تغير سياسات محددة، كما حدث في المغرب باستجابة الحكومة والملك للتظاهرات، وفي كينيا بسحب قانون المالية والضرائب، إلا أن غياب البنية السياسية يظل تحديا لقدرة هذا الحراك الاحتجاجي على التفاوض وصياغة البرامج التشريعية، أو حتى خوض الانتخابات في مواجهة أي محاولات لأطراف أخرى للاستيلاء على السلطة، كما حدث في مدغشقر أو استغلال الفرص من قبل المعارضة التقليدية التي فقدت شرعيتها ومصداقيتها.
بالنظر إلى نتائج الاحتجاجات، كانت استجابة الأنظمة في المغرب وكينيا مؤقتة لاستيعاب موجه الغضب ومحاولة الإعلان عن مسكنات للتهدئة مثل، سحب قانون مؤقت أو إطلاق بعض الإصلاحات الجزئية، دون المساس بجوهر النظام الحاكم أو شبكات الفساد الرئيسية، كما أن استخدام أدوات القمع والقوة المفرطة في مواجهة الاحتجاجات في بعض الدول مثل كينيا قد يشكل استنزافا لقوة الحركة الشبابية وقدرتها المادية والنفسية للاستمرار، وهو ما يهدد إمكانية استمرار الزخم الاحتجاجي لتحقيق إصلاحات هيكلية، ويبقى استدامة هذه القوة الشبابية في شكل سياسي مؤسسي فعال، هو التحدي الأكبر حتى لا تكون مجرد صيحة غضب عابرة.






