لاتزال أصداء التطبيع الإسرائيلي الإماراتي تثير الجدل وتفتح باب التساؤلات على مصراعيه حول مصير العداء العربي الإسرائيلي، ولماذا غابت رائحة الدم العربي عن أنوف الحكومات وما السبب وراء تغيير المواقف رغم استمرار الكيان الصهيوني في نهب الأراضي العربية وإراقة دماء أصحابها وغزل المكائد لتحقيق حلمه الأكبر في السيطرة على الأرض من النيل إلى الفرات.
مشاهد غابت عن الصورة
منذ عقود مضت، كانت تمثل إسرائيل العدو الأول لكل ما هو عربي، فقد نشأت الأجيال العربية، على أن الكيان الصهيوني، كيان مغتصب للأرض وهاتك للعرض، وسافك للدماء، وأن السلام معه مرهون بعودة الأرض المسلوبة، وكانت التظاهرات لا تنطلق على الأرض العربية إلا للتنديد بالانتهاكات الصهيونية، ضد العرب في فلسطين وسوريا ولبنان.
فداخل أروقة الجامعات كانت تهتز الأرض بهتافات الطلبة ضد التجاوزات الصهيونية في حق الفلسطينيين، وكانت تتربى أجيالًا على تأجيج العداء مع هذا الكيان المحتل، ما كان يجعل الحشود العربية تصطف أمام السفارات الإسرائيلية منددة بأي انتهاك تقترفه إسرائيل في حق العرب، والمساجد والكنائس تأن وتعلن موقفها الرافض للتجاوزات الصهيونية، فيما تضطر الحكومات لاتخاذ مواقف موالية لشعوبها خوفًا من السخط الشعبي ضدها في حالة الصمت.
العداء العربي الإسرائيلي حاضرًا في كل مكان وفى أي وقت
تلك المشاهد التي كانت تجعل العداء العربي الإسرائيلي حاضرًا في كل مكان وفى أي وقت، ولكن منذ الألفية الجديدة بدأت الأمور تتغير وتتخذ منحنى معاكس، وغابت قضية العداء مع إسرائيل، وانزوت مشاهد التضامن مع الدول المنكوبة بالتواجد الصهيوني على أراضيها، ولم تعد الحشود الرافضة للانتهاكات الصهيونية تظهر إلا في أضيق الحدود، نتيجة لأسباب مختلفة منها التضيق الأمني في بعض البلدان، ومحاصرة التظاهرات في بلدان أخرى، ومنع التعبير عن الرأي في قضايا من هذا النوع، هذا بخلاف غياب الألة الإعلامية عن طرح المناقشات المستمرة عن النزاع الصهيوني العربي.
ومع غياب فكرة القومية العربية، واتخذا كل دولة المنحنى المناسب لمصالحها فقط تراجعت قوة العداء، وانخفضت نبرة الكراهية ضد ما هو إسرائيلي، وباتت مشاهد الدم الفلسطينية معتادة ومكررة، وسلب الجولان والغارات على لبنان محل خلافات في دوافعها، ومع طول المدة وغياب الضغط العربي في إبراز النزاع بات التواجد الصهيوني أمر واقع، بل ومكتسبًا لتعاطف قائم على تزييف الحقائق.
القوى الناعمة وهدم أسطورة العداء العربي الاسرائيلي
في الوقت الذي كانت فيه الآلة الإعلامية العربية غائبة عن الأحداث، ومنفردة بتناول أخبار كل دولة على حدة، كانت الآلة الإعلامية الصهيونية تبرز حقها في الحياة والتواجد والعيش على الأرض المحتلة، التي تعتبرها حقًا لها وميراثًا آن الآوان أن يعود لأصحابه.
وقد أدرك الكيان الصهيوني قيمة القوى الناعمة، في تحقيق ما فشل فيه السلاح، وتحقيقها لنتائح تفوق بكثير تلك التي يحققها صوت البارود، لذا استطاعت استخدام هذا السلاح، واخترقت به العقول العربية ووجهتها للاتجاه الذي يخدم مشروعها الاستيطاني ويهدم أي وجود لعداء محتمل قد يهدد هذا المشروع.
فلم يكن ظهور شخصية مثل أفيخاى أدرعى، متحدث قوات الاحتلال الصهيونى، على السوشيال ميديا، وتفاعله مع العرب، وإنشاؤه حوارات ومناقشات معهم على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك من قبيل الصدفة، بل هو أكبر دليل على تلاعب الصهاينة بالعقول العربية.
ففي الوقت الذي كان يعتقد فيه العرب أن وجود حساب لأفيخاي سوف يمكنهم من الانتقام من جيش الدم الصهيوني، كان الأخير يوجه الفكر العربي في اتجاهات محددة تجعل النزع يتحول من عربي إسرائيلي إلى عربي عربي.
القضية الفلسطينية
ففي القضية الفلسطينية، سعى أفيخاي إلى تحويل دفة الصراع اتجاه حركة حماس، وتوجيه الأعين نحوها فيما آلت له الظروف بفلسطين، الأمر نفسه في لبنان التي عمل على توجيه الرأي العام العربي لانتقاد حزب الله فقط دون النظر لإسرائيل، مستخدمًا في ذلك حيلة جاذبة للمتفاعلين من خلال الاشتباك مع شخصيات شهيرة من فنانين وإعلاميين.
وسعت إسرائيل لإنتاج العديد من الأعمال الفنية العربية، أو التي تشهد تواجدًا عربيًا، وبات وجود اسم فنان عربي أو مطربة عربية يشارك في عمل فني إنتاج إسرائيلي أو بمشاركة إسرائيلية أمرًا معتاد ولا أزمة فيه، بل والبعض يرحب بحجة إرساء منهج “قبول الأخر” الذي كان بوابة الكيان الصهيوني لاختراق العقول العربية.
التحركات الصهيونية نجحت في كسر الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل
في الرياضة أيضًا وجدنا تمثيًلا ومشاركة عربية إسرائيلية أكثر من مرة، في العديد من الألعاب الرياضية، بعد أن كانت تقابل بالاعتذار من جانب العرب مهما كانت العقوبة، الآن باتت تتم بترحيب تحت شعار احترام “الروح الرياضية”.
على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، زادت المناقشات حول تقبل التواجد الإسرائيلي، وزادت الهجمات ضد حركات المقاومة، وتشويه صورتها، بعد أن تم اختراق جزء كبير منها، لتصبح منبوذة من العرب، ومشكك في أهدفها ومساعيها التي باتت بعيدة بالنسبة للكثير من العرب عن مقاومة الاحتلال.
كل تلك التحركات الصهيونية، نجحت في كسر الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل، والذي كان يقف حائلًا ضد أي قبول للكيان الصهيوني القائم على سلب الأراضي العربية وسفك دماء أبنائها، لتصبح إسرائيل بين ليلة وضحاها اسما ترديده أمر مباح ولا شيء يشوبه، وهو ما عملت عليه إسرائيل سنوات طويلة.
تغير الصورة الذهنية عن دولة الاحتلال
تطور مشهد العلاقات بين إسرائيل والعرب وإقرار مبدأ التطبيع مع كيان الاحتلال، لم يكن وليد الصدفة، بل تم التمهيد له منذ سنوات عدة مضت، سواء من خلال تناثر الأخبار من وقت لأخر عن اتصالات عربية إسرائيلية، أو الحديث عن مصالح ولقاءات تجمع قادة عرب وإسرائيليين، وعقب هذا التمهيد جاء وقت إعلان الموقف الرسمي من إسرائيل وهو قبولها على أرض الواقع العربي جزءً منه ومحرك أساسي لأحداثه.
مرت العلاقات الإسرائيلية العربية بالعديد من التطورات، فالصراع الأبدي، بدأ مع إقامة المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا عام 1897، الذي دعا إليه مؤسس الحركة الصهيونية ثيودورهرتزل، حيث كانت الاتصالات مع السلطان عبد الحميد الحاكم بالدولة العثمانية، حول إقامة دولة صهيونية في فلسطين، وهو ما تم رفضه تمامًا، نظرًا لرفض الشعوب العربية وقتها لأى محاولات لتواجد كيان صهيوني في أرض عربية، وظلت محاولات الكيان الصهيوني لتحقيق هدفه في إقامته دولته، حتى حانت الفرصة للكيان الصهيوني عام 1948، واحتلت الأرض الفلسطينية، وتم إعلان إقامة دولة إسرائيل.
خلال تلك الفترة كانت البلدان العربية على قلب رجل واحد في رفضها للتواجد الصهيوني المحتل، ورفضت الدول العربية الاعتراف بدولة إسرائيل، خاصة بعد أن طال الاحتلال أراضي عربية عدة شملت مصر وسوريا ولبنان بخلاف فلسطين.
إجبار العرب على التطبيع
وبدأ المخطط الصهيوني لإجبار العرب على التطبيع وقبول إسرائيل كدولة بالشرق الأوسط، من خلال فرض سياسة الأمر الواقع، ومع سقوط الجيش الإسرائيلي مهزومًا على يد الجيش المصري عام 1973، بدأت أولى خطوات التطبيع، من خلال توقيع مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل، وانضمت الأردن إلى مصر بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، ” اتفاقية وادى عربة” عام 1994، ثم قامت العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وتونس وموريتانيا والمغرب.
وفى تطور أخر وقعت مصر اتفاقية الكويز مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل عام 2004، التي تتيح دخول المنتجات المصرية إلى السوق الأمريكية دون تعريفة جمركية أو حصص كمية بشرط استخدام نسبة 11.7% مكونات إسرائيلية، والتي مثلت التحول الحقيقي في العلاقات بين البلدين، تلاه توقيع مصر اتفاقية لتصدير الغاز لإسرائيل وذلك عام 2005.
في تلك الأثناء وعلى استحياء، بدأت تطفو على الساحة، اتصالات إسرائيلية عربية غير رسمية، شملت عدة دول منها الإمارات والسعودية وقطر والسودان، ثم البحرين وعمان تزامن معها تراجعًا في مواجهة السياسات الصهيونية ضد الفلسطينيين، وغياب القضية الفلسطينية عن الساحة.
حقيقة قبول الكيان الصهيونى على أرض العرب
أوضح الدكتور منير محمود، الباحث في الشأن الإسرائيلي، طبيعة ما يحدث من تطورات في العلاقات العربية الإسرائيلية قائلا: قواعد اللعبة السياسية تختلف من عصر لأخر، فقواعد لعبة الصراع الإسرائيلي قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948 تختلف عن فترة الاعتراف بها، ففي البداية كانت المواجهة، المواجهات العسكرية هي التي تدير العلاقات العربية الإسرائيلية، ثم جاءت حرب 73، ومعاهدة السلام، لتضع أسس جديدة للعلاقات.
بعد فترة طويلة بدأت إسرائيل سياسية التهويد والمستوطنات لفرض الأمر الواقع في ظل عدم العمل الدبلوماسي المتناغم ما بين الفلسطينيين وبعضهم، فحماس والسلطة أصبحوا يمثلوا مشكلة في الجانب العربي، ويمثلوا هدية على طبق من فضة للجانب الإسرائيلي الذي بات يردد “ليس لدينا شريك نتعامل معه”، ثم جاء القرن الـ 21، وبعد الربيع العربي بدأت الكثير من الأنظمة العربية ترى أن قواعد اللعبة التي طرحها السادات من أكثر من 30 عام ولم يتم استغلالها يمكن بداية تحريكها كل من وجهة نظره.
استطرد “محمود” مصر وقعت معاهدة سلام ووضعت في ثناياها شروطا للتطبيع، وقالت من 41 سنة أن التطبيع سيكون على قدر حل الدولتين، وهذا ما رفضه العرب ثم عادوا للأخذ به، مشيرًا إلى أن العديد من الدول على بُعد خطوات بعد معاهدة التطبيع “الإماراتية الإسرائيلية ” للتطبيع مع إسرائيل منها البحرين وعمان والسودان، وأصبح الواقع الذي فرضه الإسرائيليون هو الذي يقنع الأنظمة العربية بقواعد اللعبة التي كان يفرضها المصريون من أعوام مضت، وشتان الفارق لأننا كنا نفرض الأمر الواقع على إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية، بينما إسرائيل تفرض وضع معين بدولة منقوصة المساحة ومسلوبة السيادة.
الدعاية الصهيونية نجحت في تحريف وتزييف وتغيير وتضليل العقل العربي
تغييب الوعي العربي وصعود القوى الناعمة
وحمل “محمود” في تصريحاته الشعوب العربية والحكومات المسئولية فيما آل إليه النزاع العربي الاسرائيلي، قائلًا” تناول القضية الفلسطينية شابه العوار وشابه الجهل وشابه نقص الوعي والمعرفة بتفاصيل وملابسات وأسباب الصراع العربي الإسرائيلي، الذي بدأ مع المشروع الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا مرتبط بالوعي لدى الشعوب العربية“.
شارحًا أن” الدعاية الصهيونية التي نجحت في تحريف وتزييف وتغيير وتضليل وخلط كثير من الأمور، في الوقت الذي يعاني فيه المواطن العربي من نقص الوعي، وهذا يعود لعدة أسباب، أولها الحكومات التي لم تهتم بتقديم المعلومة والمعرفة لمواطنيها، فالمواطن العربي يفتقد ما يسمى بحائط السد القومي المتعلق بالوعي.
ثانيًا: وجود ملايين الشباب العربي الذي يستخدم التكنولوجيا الحديثة في كل شيء إلا البحث عن حقائق القضايا الشائكة، ويكتفى بالمظاهر والصور والبيانات والأفلام التي تتفوق فيه القوى الناعمة الصهيونية عن العربية.
نعم الحكومات أخطأت سنوات طويلة لظروف مختلفة من دولة لأخرى ما بين الديكتاتورية وعمل حساب لدول عربية بعينها لم تقم بدورها التاريخي في قضية النزاع وبعضها ساهم في عدم التركيز أو الاهتمام بالقضية وصلت لدرجة التضليل، ولكن كل شخص الآن يمكنه معرفة أي شيء، فهناك دور فردى لكل مواطن عربي، أن يسعى للمعلومة التي يمكن الحصول عليها وفى النهاية إذا أهمل الإنسان في تعريف نفسه بأساسيات القضايا التي يتجادل فيها فلا يلومن أحد.