في سياق المناقشات والتعليقات على مجموعة مقالاتي الأخيرة حول إعادة ترتيب الإقليم، بهدف التصدي لمشروع إسرائيل الكبرى، وخاصة المقال السابق مباشرة، بعنوان كيف تفكر السعودية، سُئلت من عدد كبير من الأصدقاء المهتمين والمتخصصين والمطلعين سؤالين رئيسيين هما:

 ١- هل يمكن لدولة مثل مصر غارقة في الديون، ولا تستطيع سداد ديونها إلا بمزيد من الاستدانة، أو ببيع الوطن قطعة قطعة، أن يكون لها وزن إقليمي مؤثر، بحيث تقود، أو تجتذب غيرها لتأسيس مثل تلك الترتيبات المقترحةً؟

 ٢- هل المملكة السعودية أصلا في وارد الاستعانة بمصر أو العمل معها في أي ملف إقليمي مهم، خاصة وأن الدوائر الحاكمة هناك، ترى أن عدوها الحقيقي (أو الأول) هو إيران، ولا ترى فينا- نحن المصريين- أندادا لها، وهي في الوقت نفسه، تنظر إلى كل من حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني بوصفهما أدوات إيرانية، ما يجعلها تتخذ مواقف متطابقة أو متوازية مع مواقف إسرائيل! 

من المؤكد، أن للسؤالين نصيبا كبيرا من الوجاهة والحجية، ومن المؤكد، أن أي تحليل جاد، أو أي مقترح معقول، لا بد أن يقدما إجابة عن هذين السؤالين قبل كل شيء، ورؤية لكيفية تجاوز هذه التحفظات، وكيفية تذليل ما يعتبر عقبات مستعصية منها.

 إجابتي عن السؤال الأول، والتي أستكملها هنا، أن مصر- وبالرغم من نقاط ضعفها الكثيرة حاليا- هي دائما قوة محتملة (potential)، إن لم تكن حاضرة، يما يكفيني اللحظة الراهنةً، بل وقوة قادرة على تجاوز نقاط الضعف في وقت قصير، ثم إنها- أي مصر- بالحجم والموقع والخبرات التاريخية العميقة، وبرصيد علاقاتها بكل الدول، وبالفاعلين من غير  الدول، كحماس وحزب الله، وبتوقعات شعوب المنطقة منها، مضاف إلى كل ذلك الرفض الفطري شبه الإجماعي من قواها الشعبية (والرسمية) للمشروع الصهيوني، وبالذات إسرائيل الكبرى المتوسعة جغرافيا، أو المهيمنة سياسيا واقتصاديا… مصر هذه هي بطبيعة الجيوبولتيكا. تمثل مركز ثقل مهم، يستحيل تجاوزه في كل المعادلات الاستراتيجية والترتيبات الإقليمية، لا من الدول الكبرى، ولا من دول الإقليم من باب أولى. 

في الوقت نفسه، فإنه إذا كانت مصر لا يمكنها أن تقبل أو تتحمل خسارة السعودية استراتيجيا لحساب إسرائيل في منطقة المشرق العربي والخليج، فإنه وبنفس القدر لا يمكن للسعودية أن تطيق خسارة مصر استراتيجيا في هذه المنطقة، لتبقى المملكة نفسها مجرد قطعة- وإن كانت كبيرة على رقعة الشطرنج الإقليمية-  بين إسرائيل الكبرى وبين إيران وامتداداتها التي وإن كانت قد تلقت هزيمة مرحلية، فلا أحد يضمن ألا تعود إلى الميدان من جديد، خاصة الفاعلين من غير الدول كحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، وربما في الداخل السعودي نفسه.

هكذا وبالفقرة السابقة، نكون قد شرعنا في الإجابة على السؤال الثاني حول الموقف السعودي من العمل مع مصر، وأثبتنا خطأ اعتقاد بعض الدوائر السعودية، أننا- نحن المصريين- لسنا أندادا لهم، دون أن نتطرق إلى ما قلناه في المقال السابق، عن ضرورة التعاون الوثيق في البحر الأحمر، وفي مواجهة طموحات الهيمنة الإثيوبية (المتحالفة مع إسرائيل) على القرن الإفريقي، وباب المندب.

 لكن علينا في مصر أيضا أن ندرك، ونتفهم أن أولويات الأمن القومي السعودي، والأمن الخليجي عموما، تختلف عن أولوياتنا الأمنية والاستراتيجية، إذ لا تمثل سياسات التسلح، وبسط النفوذ الإقليمي الإيرانية تهديدا يذكر لمصر، بينما هي تهدد دول ومجتمعات الخليج والسعودية من داخلها، حيث توجد أقليات شيعية بعضها موال للمذهب الحاكم في طهران، ومن الخارج سواء من قلب إيران أو بواسطة حلفائها في العراق ولبنان واليمن.

 لذا يجب أن نتفهم- ولو على مضض- ترحيب السعوديين والخليجيين بالضربات الاسرائيلية الناجحة والمؤثرة للبرنامج النووي الإيراني منذ أشهر، ولكن مع إدراك أن هذه ليست نهاية المطاف، فإيران وحلفاؤها هناك في مكانهم، وليس من الحكمة أن تقبل السعودية العيش تحت مظلة الحماية الإسرائيلية، سيما بعد اتفاق الدفاع المشترك مع باكستان الجار المباشر لإيران من الجنوب الشرقي، وفي الوقت نفسه، فإن على الجانب السعودي أن يتفهم أسباب امتناع  مصر عن  المشاركة في حملة عاصفة الحزم العسكرية بقيادة السعودية ضد الحوثيين في اليمن، إذ لم تجر مشاورات كافية بين القاهرة والرياض، قبل إعلان الأخيرة عن مشاركة مصر في الحملة، بل يُعتقد أن الإعلان تم أصلا دون موافقة مصرية، وكأنها تحصيل حاصل، أو فرض أمر واقع.

نعود إلى المواجهة الإقليمية لمشروع إسرائيل الكبرى.

فلا خلاف على أن تمكين الدولة اليهودية من التوسع وبسط النفوذ في منطقة الهلال الخصيب، يختصم دون شك من الأدوار الاقليمية للجميع، ولن تكون السعودية استثناء من هذه الخسارة، كما أنه وصفة قلق واضطراب للجبهات الداخلية للدول التي تذعن أو لا تمانع، مهما تكن الذرائع، ذلك أنه إذا قبلت أو سكتت الحكومات، فإن الشعوب لن تقبل، ولن تسكت، وقد ذاق السعوديون مؤخرا عينة صغيرة من وقاحة وغرور الإسرائيليين على لسان وزير المالية بتسلئيل سموتريش، الذي تهكم على مطالبة المملكة بمسار نحو دولة فلسطينية كشرط لتطبيع العلاقات بين البلدين قائلا: “شكرا لا نريد. وواصلوا ركوب الجمال في صحرائكم“.

وعلى هذه الخلفية، وبسبب عدم وجود (مؤسسية) معروفة ومسئولة أمام الرأي العام لتنظيم العلاقات والأولويات الاستراتيجية بين مصر والسعودية، فإنه يجب على البلدين وعلى الفور تأسيس منتدى للحوار الاستراتيجي بينهما، على أن يسير هذا الحوار في خطين متكاملين، الأول على مستوى الخبراء والمفكرين، والثاني على مستوى الرسميين من دبلوماسيين وعسكريين، وتحدد له مواعيد دورية، وسكرتارية دائمةً، وقنوات تواصل مع صناع القرار في الدولتين.

لا يعني تركيزي في السطور السابقة على مصر والسعودية، نسيان أو إهمال بقية الشركاء الإقليميين الذين يجمعهم الاهتمام بالتصدي لخطة إسرائيل الكبرى، ولكن افترض أن تدشين ومأسسة الحوار الاستراتيجي المصري السعودي، هما النواة الصلبة لمنتدى شرق أوسطي للحوار، تنضم له تركيا والأردن على وجه الخصوص، وذلك لإقامة توازن الردع السياسي والاقتصادي اللازم لهزيمة الطموح التوسعي الإمبراطوري لليمين الإسرائيلي الحاكم.