إنه أخطر تطور في مسار القضية الفلسطينية منذ نكبة (1948).

لم يكن اعتماد خطة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بقرار من مجلس الأمن الدولي حدثا مأساويا معتادا.

إننا أمام تحول جوهري على الأرض، إذا مضى إلى آخره، فإنه يفضي إلى تقويض القضية كلها.

المخاوف الفلسطينية أعلنت عن نفسها سريعا وبلا تردد.

اعترضت عليه الفصائل الفلسطينية المسلحة، التي حملت عبء المقاومة والقتال في قطاع غزة على مدى عامين كاملين، ورفضته بحسم دون خداع نفس.

القضية كلها تكاد تتلخص مآسيها في نصوص وأجواء وتبعات هذا القرار الأسوأ في تاريخ المنظمة الدولية، كأننا أمام انتحار لأي معنى قانوني وإنساني على مشانق مجلس الأمن.

عند إعلان “ترامب” لخطته بدا، أن المقصود بها حماية إسرائيل من عزلة دولية، تكاد أن تفرض عليها، مع ذلك رحبت بها “حماس”.

ما الذي يدعوها الآن، مدعومة من “الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، إلى إدانتها، بعد أن تبناها مجلس الأمن الدولي؟

الترحيب استهدف- أولا وقبل كل شيء- وقف الحرب الوحشية على غزة وتجويع أهلها، وإنهاء المأساة الإنسانية المروعة، التي هزت الضمائر الإنسانية في العالم بأسره.

رحبت وفاوضت بقدر ما تقدر عليه تحت ضغط عسكري إسرائيلي من ناحية، وصراخ الجوعى في غزة المنكوبة، مما يتعرضون له من تنكيل لا مثيل لبشاعته في التاريخ الإنساني الحديث من ناحية أخرى.

بدت الأولوية الفلسطينية، كما صاغها قادة الفصائل المسلحة: “وقف الحرب على أهلنا”، لكن التقتيل لم يتوقف بعد وقف إطلاق نار هش وأبسط مقومات الحياة، ما زالت غائبة، فيما الشتاء القارس يداهم الجوعى والمرضى والمشردين بلا مأوى.

الأخطر من ذلك كله وضع قطاع غزة تحت الوصاية الأمريكية بقرار أممي بتنسيق كامل مع قوات الاحتلال وتخويل القوات الدولية المزمع تشكيلها نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وليس “حماس” وحدها.

بمعنى آخر، تمكين إسرائيل من إنجاز ما فشلت فيه بالسلاح والتقتيل والإبادة الجماعية على مدى عامين كاملين.

هذا يعني بالضبط: إهدار أي معنى للتضحيات الهائلة التي بذلها الفلسطينيون للبقاء فوق أرضهم، أو ألا يسلموا مصائرهم للاحتلال الإسرائيلي.

من يشكل قوة الاستقرار الدولية المؤقتة، التي سوف تتولى مهمة نزع سلاح المقاومة؟

الإجابة وفق نص القرار الأممي: إنه “مجلس السلام”، الذي ينتظر أن يترأسه “ترامب” نفسه، ويضم إليه، من يرى من قيادات دولية، كأننا أمام سلطة انتداب واسعة الصلاحيات على مصير قطاع غزة.

لا أهمية ولا قيمة للجملة الاعتراضية، التي وردت في نص القرار: “بما يتسق مع القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني”.

إنها لا تزيد عن كونها ذرا للرماد في العيون.

بصياغة غائمة وملغمة معا، تبنى القرار الأممي فقرة تقول نصا عن القوة الدولية المزمعة: “إن مجلس السلام سوف يضطلع بتشكيلها بالتشاور والتعاون الوثيقين مع مصر وإسرائيل”.

ما المقصود بالضبط؟!

أسوأ سيناريو ممكن توريط مصر في نزع سلاح المقاومة الفلسطينية.

إنه كابوس تاريخي، لا يصح لمصر بكل ثقلها وأدوارها واعتبارات أمنها القومي التورط فيه.

فيما هو معلن ومعروف، فإن الولايات المتحدة لن تشارك في القوات الدولية ودول أوروبية عديدة، تحتذي الموقف نفسه.

لا أحد مستعد أن يقع في هذا المستنقع، الذي يعني بالضبط تولي مهمة نزع السلاح الثقيلة بالنيابة عن إسرائيل، التي فشلت في تحقيقها تماما.

بصورة أو أخرى، سوف تمارس الولايات المتحدة الحد الأقصى من الضغوط على مصر.

حسب المعلومات المتاحة، فإنها تحاول الإفلات من هذا الخيار الكارثي.

هذه مسألة تتجاوز النظام الحالي بالاتفاق أو الاختلاف معه إلى بديهيات الأمن القومي وسمعة البلد ومستقبله في محيطه العربي.

إنه انتحار تاريخي آخر على مشانق القرار الأممي.

تركيا مرشحة أمريكيا للعب هذا الدور، غير أن إسرائيل تتحفظ عليها بدواعي التنافس على المصير السوري، أو أن يكون لتركيا موطئ قدم على حدودها المباشرة.

تتردد ترشيحات أخرى لدول إسلامية، تدور في الفلك الأمريكي للمشاركة في القوة الدولية المزمعة، لكن لا أحد سوى مصر يملك القدرة والخبرة العسكرية والميدانية، التي تؤهله للعب ذلك الدور المسموم.

لا تخفي إسرائيل توجسها من القوة العسكرية المصرية، حيث أعلن وزير دفاعها “يسرائيل كاتس” المنطقة الحدودية مع مصر ميدان عمليات بذريعة أنه يجري عبرها تهريب السلاح إلى “حماس”.

وضع مصر وإسرائيل على قدم المساواة في التشاور والتعاون الوثيق مشروع توريط لا شهادة تقدير، فقرار “مجلس السلام”، الذي يترأسه “ترامب”، سوف يتبنى دائما ما هو في مصلحة إسرائيل على حساب ما هو فلسطيني وعربي.

هذا الدور لم يكن في خطة “ترامب” ذات النقاط العشرين، لكنه أضيف إليها في القرار الأممي، حارما الفلسطينيين من حقهم المشروع في مقاومة الاحتلال وفق القوانين الدولية.

من وجهة نظر المقاومة الفلسطينية، فإنه “ينبغي أن تركز القوات الدولية مهامها على حماية المدنيين الفلسطينيين، دون التدخل في شؤونهم الداخلية، أو تهديد حق الشعب الفلسطيني في المقاومة الشرعية وتقرير المصير”.

قرار مجلس الأمن يبدو مرتبكا في صياغاته، يقول الشيء وعكسه عن حقوق الفلسطينيين.

“يؤكد أن الظروف قد تكون باتت مهيأة أخيرا لإيجاد مسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني، وإقامة الدولة الفلسطينية” دون أي خطوات عملية بأي مدى منظور.

يقول إن الولايات المتحدة سوف تحتضن حوارا فلسطينا إسرائيليا عن الأفق السياسي، دون أن يفصح عن أي توجه جدي وحقيقي، كأننا أمام مراوغات مقصودة لتمرير القرار.

كل شيء له صلة بمستقبل القضية الفلسطينية مرتهن بـ”تنفيذ برنامج الإصلاح المتفق عليه من قبل السلطة الفلسطينية، وعندما يحرز تقدم ملموس في إعادة إعمار قطاع غزة”.

السلطة أيدت بمفردها القرار الأممي، كأنها تتصور أن تجني ثمار حرب دامية، لم تطلق فيها رصاصة واحدة.

رغم تنازلات السلطة ترفض إسرائيل تخويلها أي دور بأي مستقبل، بل أن وزير الأمن القومي الإسرائيلي “إيتمار بن جفير” هدد رئيسها “محمود عباس- أبو مازن” بالاعتقال، إذا حاول أن يتحرك من أجل دولة فلسطينية.

بالنظر إلى الأجواء والحسابات، التي جرت قبل التصويت على قرار مجلس الأمن، فإننا في أسوأ لحظة مرت على القضية الفلسطينية بتاريخها كله.

الفلسطينيون ممزقون، حركة “فتح” ترفض المشاركة في أي حوار وطني، يضمها إلى “حماس” مستهدفا توحيد الصف الفلسطيني.

الدول العربية، بلا استثناء واحد، أيدت القرار الأممي، ولم تسجل رسميا تحفظا واحدا عليه.

روسيا والصين رغم ما سجلتاه من تحفظات جوهرية على خطة “ترامب”، لم تمارسا حق النقض عليه، وامتنعتا عن التصويت عليه بضغط من الدول العربية!

الأولوية الروسية الحرب في أوكرانيا، والأولوية الصينية، ألا تتورط في مثل هذه الأزمات الحادة، التي قد تؤثر بالسلب على نموها الاقتصادي.

من يفكك إذن حبال المشانق، التي أحكمت على القضية الفلسطينية؟

هذا هو سؤال المصير.