لم تكن زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن حدثًا عابرًا، أو مجرد صفحة جديدة في علاقة متقلبة مع البيت الأبيض لسنوات طويلة.
بل كانت نقطة تحوّل فارقة، تعكس إعادة تشكيل لخريطة الشرق الأوسط بأكمله في مرحلة شديدة الحساسية.
إنها زيارة تعلن بوضوح، أن الترتيبات القديمة المبنية على أدوار تقليدية وتوازنات ما بعد الحرب الباردة، بلغت طور التآكل والذبول.
وتظهر السعودية اليوم كفاعل سياسي وأمني صاعد ــ أو هكذا تخطط وتطمح ــ يُعاد تقديمه أمريكيًا ودوليًا، ليس فقط كمركز ثقل مالي، بل كقائد محوري في هندسة الإقليم الجديدة، فهل تنجح في هذا الدور الكبير الذي تسعى له بالمقومات التي توفرها لها الولايات المتحدة عبر اتفاقها العسكري وشراكتهما الاستراتيجية الجديدة؟
الاتفاقية الدفاعية التي خرجت من زيارة محمد بن سلمان لواشنطن، ليست مجرد تفاهم جديد بين الرياض والولايات المتحدة، بل كانت إعلانًا صريحا واضحا عن إعادة ترتيب موازين القوة في الخليج، وبدرجة ما في المنطقة ككل.
فالمنطقة الخليجية التي اعتادت لعقود، أن تتحرك بمنطق “التحالفات المتجاورة” و“توزيع الأدوار” بين الدوحة وأبوظبي والرياض، تجد نفسها اليوم أمام لحظة نقلٍ حاسمة، من ترتيبات متداخلة إلى مركز واحد، يتقدم الآخرين بخطوات واسعة.
واشنطن التي أدارت الخليج لسنوات بعقلية التوازن بين اللاعبين لزمن طويل، اختارت هذه المرة، أن تمنح السعودية صفة القيادة الأمنية بوضعها كحليف من خارج حزب الناتو، وهو ليس مجرد لقب، بل رسالة أن الرياض أصبحت جزءا من الهندسة الدفاعية الأمريكية، لا مجرد زبون في قائمة زبائن السلاح.
إدخال السعودية في مسار الدول التي تملك مقاتلات F -35، حتى لو كان على مستوى النية فقط؛ لأننا لا ندرى هل ستكتمل هذه الصفقة أم لا؟ــ إذا لم تحصل على النسب الملائمة لتمريرها داخل الكونجرس الأمريكي، يضعها نظريا في مصاف الدول التي يسمح لها النظام الأمريكي بأعلى مستوى من التفوق الجوي في المنطقة الى جوار إسرائيل وتركيا، ومكانة أفضل من الإمارات التي لم تحظَ سوى بالرافال، وهو الأمر الذي يجعل اكتمال هذه الصفقة موضع شك.
الأمر لا يتعلق بالسلاح وحده، بل بما يفهمه ترامب جيدا “المال السعودي” والاستثمارات المعلنة التي قاربت على التريليون دولار كوعد مستقبلي و700 مليون دولار فعلية، وهو ما يعني، أن واشنطن لم تعد ترى السعودية كمجرد ممول من الممولين الخليجيين، بل شريك طويل الأجل في بنية اقتصادها وصناعتها الحربية والتكنولوجية.
نحن أمام معادلة واضحة، أمن مقابل اقتصاد، واقتصاد مقابل موقع سياسي أعلى.
واشنطن لا تعطى شيئا مجانا، بل هي تختار ركيزة لبناء استراتيجيتها الإقليمية عليها، الركيزة نفسها التي صوتت ضمن الكتلة العربية لورقة ترامب في غزة في مجلس الأمن في مقدمتها السعودية التي أصبحت بنفوذها المالي وسلوكها السياسي، من وجهه نظر ترامب يمكن الاتكاء عليها، ونقول ترامب لا واشنطن؛ لأن قطاعا كبيرا من الأمريكان لا يحبذ هذا الاتفاق، وفقا لما أوردته الدورية الأشهر (فورين بوليسي)، ويجده مصدر خطورة على أمريكا، وكذلك وفق استطلاع معهد كوينسي الذي أكد أن 55% من الأمريكيين يعارضون اتفاقا بين الولايات المتحدة والسعودية، يلزم الولايات بالدفاع عنها في حال الحرب، ووفقا لاستطلاع هاريس بول 58% يعتبر الاتفاق سيئا بالنسبة لأمريكا.
في مقابل هذا الصعود للمملكة، قد تتراجع أدوار أخرى، الإمارات التي بدت قبل سنوات، وكأنها القوة الأكثر تأثيرًا في ملفات الإقليم من ليبيا إلى اليمن، ومن الاتفاقيات الإبراهيمية إلى سباق التسلح، تجد نفسها أمام لحظة، تُعاد فيها خريطة رسم النفوذ من جديد، الرياض في المقدمة هذه المرة، وقطر، رغم حضورها السياسي وتاريخها في الوساطة، تعود إلى موقع “الدولة التي تحتاج إلى المظلة”، لا الدولة التي تُشكّل المظلة. السعودية الآن تحاول أن تكون هي مركز المنظومة.
مسارات التحول
هذا التغيير في ميزان القوة يلامس الملف الأكثر حساسية في المنطقة ملف غزة، فبعد موافقة مجلس الأمن على خطة ترامب، دخلت القضية الفلسطينية مرحلة، تعاد فيها عملية ترتيب من يملك حق صياغة ملامح اليوم التالي للقطاع.
كانت مصر لعقود صاحبة اليد العليا في هذا الملف، بحكم الجغرافيا، وبحكم الأمن، وبحكم الخبرة.
لكن واشنطن، وهي تعيد بناء تحالفها مع الرياض، تضع السعودية تدريجيًا في قلب معادلة غزة، لا كممول فحسب، بل كجزء من الهندسة السياسية الأمنية القادمة.
قوة دولية تحت قيادة أمريكية، تمويل خليجي بقيادة سعودية، ترتيبات أمنية على الحدود، وممرّات اقتصادية، تُفتح لاحقًا بين الخليج وشرق المتوسط… هذه ليست تفاصيل عابرة، بل ملامح مرحلة جديدة، يُعاد فيها رسم ملف غزة بعيدًا عن الثنائية التقليدية (مصر– حماس)، لصالح مثلث جديد: واشنطن– الرياض– تل أبيب بوجود مصري بالطبع، ولكن بتوازنات مختلفة في القوى.
الذكاء الاصطناعي.. النفط الجديد
في زحام الحديث عن الطائرات والأسلحة وصفقات الدفاع، مرّ جانب آخر في زيارة بن سلمان إلى واشنطن، دون أن يأخذ نصيبه من الاهتمام، وهو الشراكة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي.
هذه ليست مجرد شراكة “تكنولوجية”، بل امتدادا جديدا لمفهوم القوة في عالم ما بعد النفط، حيث لا يقاس النفوذ فقط بالأساطيل أو الصواريخ، بل بامتلاك الخوارزميات، والبيانات، وقدرة التحكم في أنظمة القرار المؤتمتة.
السعودية التي تدرك تراجع مركزية النفط في الاقتصاد العالمي، بدأت فعليًا في إعادة تعريف ثروتها، وتقديم الذكاء الاصطناعي، على أنه “النفط الجديد”، الاتفاقيات التي تم توقيعها تشمل تطوير النماذج اللغوية الضخمة، والاستثمار في الحوسبة الفائقة وتدريب الكوادر السعودية على تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.
هذا لا يعني أن المملكة ستتحول إلى وادي سيليكون جديد، بل مختبر التطبيقات الأمريكي في الشرق الأوسط فحسب، وهو نجاح بالطبع، ولكن ليس ريادة، فأمريكا لا تتساهل في تفوقها التكنولوجي مع أحد، بمعنى سيظل الذكاء الاصطناعي أمريكيا، لكن يجري تشغيله من السعودية لسوق هام هو الشرق الأوسط.
ويمكننا القول، إن واشنطن ترى في السعودية بوابة لتصدير التكنولوجيا إلى المنطقة وضمانه لتفوقها الرقمي أمام التمدد الصيني.
بهذا المعنى، لا يمكن فصل الاتفاق الدفاعي عن المتغيرات العميقة التي تمس هوية المنطقة نفسها.
صعود السعودية العسكري، وتحولها إلى مركز القرار الأمني، ووجودها المحتمل في عملية إعادة هندسة غزة، كل ذلك ليس إلا بداية لسردية أكبر، تستلزم طرح التساؤلين التاليين:
كيف يتغير موقع مصر في ظل هذا الترتيب؟
وكيف يُعاد تشكيل الخطاب الديني والهوية والخطاب العقائدي؛ ليتناسب مع شرق أوسط لا يشبه ما عرفناه سابقًا؟
مصر من القائد إلى الشريك
كانت مصر لعقود طويلة، تُعتبر رأس الحربة في المنطقة العربية، مركز الثقل السياسي والعسكري والسكاني “الديموجرافي” الذي لا يمكن تجاوزُه في أي معادلة إقليمية.
مكانتها كانت تبدو راسخة، باعتبارها الدولة التي تمسك بخيوط اللعبة من موقعها الاستراتيجي وجيشها الكبير وخبرتها الطويلة في الملفات الحساسة. أما الخليج فكان يُنظر إليه كخزان نفطي، يلعب دور الممول لا أكثر، بعيدًا عن مراكز القرار العميقة.
لكن المشهد بدأ يتغير ببطء، ثم تسارع مع الوقت، حتى أصبح واضحًا، أن الولايات المتحدة التي طالما اعتمدت على القاهرة، بدأت تعيد توزيع أوراقها، واضعةً الرياض في موقع متقدم، ليس فقط اقتصاديًا، بل أمنيًا واستراتيجيًا أيضًا.
السعودية باتت تقدّم نفسها اليوم، على أنها سوق سلاح ضخم، ومصدر استثمارات هائلة، ولاعب مستعد للعمل تحت المظلة الأمنية الأمريكية دون تردد.
في المقابل، تُعاني مصر من أزمة اقتصادية خانقة، وديون تزداد اتساعًا، وتعتمد بشكل متزايد على المساعدات الخليجية والدولية، وكلما ازداد هذا الاعتماد، قلت مساحة حركتها المستقلة، وبدأ ثقلها في الميزان الأمريكي يتراجع.
هذا التراجع يظهر بوضوح في ملفات حساسة، تشكّل عمق النفوذ المصري التقليدي، ففي البحر الأحمر لم تعد مصر اللاعب الأمني الأول، إذ تتولى السعودية اليوم التنسيق المباشر مع الأمريكيين، بل ومع الإسرائيليين في بعض الملفات غير المعلنة، لبناء منظومة مراقبة وتأمين جديدة، تمتد من سواحل الخليج إلى مضيق باب المندب.
وفي غزة، لم تعد القاهرة وحدها من تضع شروط ما بعد الحرب، أو تقود ملف إعادة الإعمار، فالسعودية أصبحت المرشح الأول لتمويل المشاريع الكبرى، وتشارك في رسم الترتيبات الأمنية التي كانت حكرًا على الجهات المصرية لعقود.
حتى في العمق الإفريقي، حيث كانت مصر تتحرك بحرية كقوة عسكرية وأمنية مؤثرة، بدأت تشعر بثقل الوجود الخليجي المتزايد، خاصة من جانب السعودية والإمارات، اللتين تبنيان بهدوء حضورًا ناعمًا في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، مدعومًا بالمال، والاستثمار، والعلاقات الدولية.
كل هذا لا يعني أن مصر خرجت من المشهد، فهي لا تزال حاضرة في كل الملفات، لكن حضورها لم يعد محوريًا.
لم تعد اللاعب الذي يُفرض حضوره، بل الشريك الذي يُستدعى عند الحاجة، والذي يمكن تجاوزه حين تكون الظروف مواتية
لم تعد مصر هي القائد، بل الشريك الضروري الذي لا يُمكن تجاهله، ولكن لم يعد يمتلك مفاتيح القرار.
إعادة صياغة للخطاب الديني والفكر والعقيدة
في عمق زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن، لم يكن السلاح هو العنصر الأثقل، بل التحول العقائدي الذي يطال جذور المشروع السعودي نفسه.
ما يجري في السعودية اليوم لا يمكن قراءته كإصلاح ديني تقليدي أو تحديث شكلي لمؤسسات الدولة، بل هو أشبه بعملية تفكيك كاملة لإطار ديني سياسي، شكّل هوية المملكة لعقود، وبناء إطار جديد، يخدم تحالفات مختلفة ومنطقًا مختلفًا.
الوهابية التي طالما كانت أكثر من مجرد مذهب ديني، تمثل رؤية للعالم، ونظرة للصراع، وهوية سياسية موجهة. وعبر عقود، وفّرت هذه العقيدة غطاءً شرعيًا للسياسة السعودية، وأسست سردية صلبة قائمة على التمييز الحاد بين “دار الإيمان” ودار الكفر”، وعلى عداء راسخ للفكر الغربي، وحساسية دينية عالية تجاه اليهودية، وكل ما يمتّ بصلة للتطبيع مع إسرائيل. لكنها في المقابل، كانت تقيد حركة الدولة، وتفرض حدودًا دينية، يصعب تجاوزها دون صدام داخلي.
ما نراه اليوم هو كسر لهذا القيد بالكامل، لم تعد الدولة تُقدّم نفسها كراعية لعقيدة دينية محددة، بل ككيان وطني منفتح، برجماتي، ليبرالي، يُعيد تشكيل هويته الوطنية حول الإنتاج، والترفيه، والتقدم التكنولوجي، وليس حول الطاعة والتقوى.
السلطة الدينية تم تهميشها فعليًا، المناهج أُعيت صياغتها، والمساجد لم تعد منابر صراع أو خطاب.
بل الأهم من ذلك، أن مفاهيم مثل الولاء والبراء – التي كانت تُستخدم لرفض الانفتاح على الغرب وإسرائيل – جرى تفريغها من محتواها العقائدي.
في هذا السياق، لم تعد العلاقة مع إسرائيل موضوعًا دينيًا محرّمًا، بل باتت يعاد صياغتها ضمن مفهوم “العائلة الإبراهيمية” الذي يقدّم سردية جديدة للتقارب، تقوم على قيم مشتركة لا على تناقض ديني.
هذا التصور لا يتحدى فقط الخطاب الديني التقليدي، بل يعيد تعريفه بالكامل ليتناسب مع تحالف أمني–اقتصادي تقوده واشنطن، وتشارك فيه إسرائيل بشكل جديد.
إسلام بلا عدو مركزي، بلا صراع وجودي، إسلام يجرم الإرهاب، لكن يترك تعريفه للقوة المهيمنة، إسلام لا يقف على مسافة من التطبيع، بل يمنحه غطاءً شرعيًا، النتيجة هي إنتاج “إسلام وظيفي وتطبيع ناعم، هذا الإسلام لا يُنتج مقاومة، بل يُنتج قبولًا بالترتيبات الدولية التي تقودها أمريكا وتديرها ميدانيًا إسرائيل. إنه خطاب ديني، تم تفصيله ليتماشى مع متطلبات التحالف الجديد في المنطقة.
بهذا المعنى، فإن الخطاب الديني الجديد الذي تتبناه السعودية لا يمثّل فقط خروجًا من عباءة الوهابية التي صدرتها للخارج، بل يضع كل المنظومات الدينية التقليدية في المنطقة، وعلى رأسها الأزهر في مصر أمام مأزق وجودي، إما أن تُواكب هذا التحول وتفقد استقلاليتها المعنوية، أو أن تبقى متمسكة بمرجعيتها، وتتحوّل إلى خطاب على هامش القرار الحقيقي، الذي بات يُصاغ في مكان آخر، وبمنطق آخر.
إنها لحظة استكمال خريطة الشرق الأوسط الجديد التي تحاك بهدوء وبوضوح، خريطة يتصدرها محور أمني استثماري قوامه واشنطن والرياض وتل أبيب.
السعودية ترتفع بثبات إلى موقع القيادة الإقليمية، لا فقط من بوابة المال والسلاح، بل من خلال استعدادها لإعادة تشكيل عقدها الداخلي، وتقديم نفسها كشريك مرن في ملفي الأمن والتطبيع.
الخليج يتحول من مجرد مصدر للنفط إلى ساحة قرار فعلي، تتشكل فيها تحالفات دفاعية غير معلنة، تربط الرادارات والمعلومات والقواعد، وتؤسس لما يشبه ناتو شرق أوسطي صامت، يؤدى دوره المرسوم.
في هذا المشهد، يظهر الدين بوصفه أداة دعم ناعم للتحالفات الجديدة، يُعاد تشكيل خطابه؛ ليُنتج طمأنينة وقبولًا شعبيًا، لا مقاومة أو رفضًا.
أما مصر فهي اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. إما أن تعيد تعريف دورها الإقليمي، مستندة إلى موقعها الجغرافي وأجهزتها السياسية والأمنية، وتفاوض على مكان ثابت داخل هذه المعادلة الجديدة، أو تستمر في دور رمادي، يضمن لها الحضور في كل ملف، دون أن يمنحها الكلمة الحاسمة في أي منها.
الخطر ليس في حجم ما تم الاتفاق عليه في واشنطن، بل في الرسالة غير المعلنة التي فُهمت بوضوح: من يدفع أكثر، ويُطوّع خطابه الديني والسياسي، ويتقبل شراكات غير معلنة مع إسرائيل، سيكون في قلب المعادلة القادمة.






