مع التحولات الجيو سياسية التي أعقبت حرب غزة (2023– 2025)، أصبح القرن الإفريقي ساحة محورية لتنافس القوى الإقليمية، حيث تتقاطع مصالح مصر وتركيا وإسرائيل وإيران، وقد أدى تراجع النفوذ الغربي التقليدي، إلى صعود أدوار قوى أخرى إقليمية، يتباين نفوذها في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، ذلك دون انتهاء انخراط القوى الدولية في المنطقة، الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وتقع منطقة القرن الإفريقي على رأس مضيق باب المندب، ويحدها المحيط الهندي جنوبًا، والبحر الأحمر شمالًا، وتقع بها دول: جيبوتي والصومال وإريتريا وإثيوبيا. وتمتد إلى دول أخرى بالجوار.

باعتبار القرن الإفريقي ملتقى للتجارة العالمية وحارسًا لممرات البحر الأحمر ومضيق باب المندب، فقد بات محور اهتمام استراتيجي للدول الإقليمية والدولية على حد سواء، وعاد إلى بؤرة الاهتمام بشكل كبير مع الحرب على غزة، وتوسيع إسرائيل عملياتها العسكرية على عدة جبهات.
ويظهر تقرير استراتيجي، أصدرته وحدة الأبحاث بمركز التنمية والدعم والإعلام “دام” أن حرب غزة أعادت رسم خرائط النفوذ في القرن الإفريقي، ودفع القوى الإقليمية إلى إعادة تقييم مواقعها وتحالفاتها، مع تحويل المنطقة إلى ساحة اختبار لتوازنات القوة في ظل الاضطرابات السياسية والصراعات المسلحة وقضايا صراع إقليمي، تنخرط فيه الأطراف بين التنازع والتحالف.
خرائط مصالح ونفوذ القوى الإقليمية
جاء التقرير متضمنا أربعة أقسام، تناول الأول، خرائط مصالح القوى الإقليمية، والثاني، تأثيرات حرب غزة على التوازنات الإقليميةـ بينما تناول القسم الثالث، بؤر التوتر وديناميكيات التحالفات المستقبلية، وانتهى التقرير بعرض توصيات استراتيجية.
يرسم التقرير خريطة النفوذ والمصالح، منطلقا من أن كل قوة إقليمية لها أهدافها الاستراتيجية، وهناك تلاقي بين مصالح بعض القوى المتنافسة.
تنظر مصر إلى القرن الإفريقي والبحر الأحمر كجزء من أمنها القومي الممتد، مركزة على حماية حرية الملاحة في قناة السويس ومضيق باب المندب، ومواجهة النفوذ الإثيوبي–الإسرائيلي، وتعزيز دورها “القيادي” العربي والإقليمي التقليدي، واعتباره مرتكزا لعلاقاتها مع قوى أخرى دولية، خاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
بينما تركيا، وسعت نفوذها العسكري والاقتصادي في الصومال، وحافظت على علاقات استراتيجية مع إثيوبيا، مستخدمة أدوات التعاون العسكري والاستثماري لتوسيع حضورها، ويأتي هذا ضمن استراتيجية أوسع للعلاقات مع إفريقيا.
بينما إيران اعتمدت على استراتيجية الوجود غير المباشر، عبر دعم حركات مسلحة وحلفاء في المنطقة، بما في ذلك الطائرات المسيرة والتعاون الاستخباراتي، لمواجهة النفوذ الإسرائيلي وتوسيع وجودها شرق إفريقيا، بجانب العلاقات الدبلوماسية مع دول شرق إفريقيا، خاصة الدول المسلمة.
وركزت إسرائيل على توسيع نفوذها في إثيوبيا وأرض الصومال، وربط المواني الإفريقية بميناء إيلات لتعزيز أمنها البحري والاستخباراتي، مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع دول الخليج وإفريقيا، ضمن استراتيجية أمنية بالأساس.
ولعبت دول الخليج، وبخاصة الإمارات والسعودية وقطر، أدوارًا متزايدة في القرن الإفريقي، تجمع بين مصالح اقتصادية وأمنية، وركزت على الممرات الحيوية ومكافحة التطرف، فضلاً عن دعم بعض الأطراف المحلية لتحقيق أهداف نفوذ إقليمي.
تحولات بعد حرب غزة

أبرز التقرير، أن الحرب أدت إلى تحولات مباشرة في مسرح العمليات، ونتيجة الصراع والعمليات العسكرية، وما يرتبط بها من تحالفات وعلاقات دبلوماسية.
وضمن التغيرات، توسع النفوذ الإسرائيلي عبر التعاون الأمني والاستخباراتي مع إثيوبيا والإمارات، وتأسيس قواعد استراتيجية في أرض الصومال في مقابل تراجع النفوذ الإيراني المباشر؛ نتيجة الضغوط الغربية والخسائر التي لحقت بحلفائها، خاصة الحوثيين في اليمن، ونسبيا السودان.
بينما ظهر تكثيف الحضور العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة لحماية الملاحة في البحر الأحمر، ومواجهة إيران والقوى دون الدولة المرتبطة بها.
خلال ذلك، تعيد تركيا تموضعها، لتعزيز دورها في الصومال، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع مصر.
كما أشار التقرير، إلى بعض التغيراتـ، تؤشر عليها اتفاقيات وتفاهمات مهمة خلال فترة الحرب، أبرزها مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال، وإنشاء قواعد عسكرية إسرائيلية استراتيجية، ما يعكس إعادة رسم التحالفات في المنطقة، وتعدد أبعادها.
بؤر التوتر والتحالفات المستقبلية: كتلتان

كشف التقرير عن ديناميكيات التحالفات المحتملة بعد الحرب، بناء على مشهد المصالح والنفوذ والصراعات السياسية والعسكرية، وضمن ذلك، أشار إلى التعاون بين مصر وتركيا في الصومال لمواجهة النفوذ الإثيوبي والإسرائيلي– الإماراتي. واستمرار التوتر بين إثيوبيا وإريتريا، مع احتمال آثار مباشرة على أمن الممرات البحرية حال اندلاع الصراع بينهم.
ويوضح التقرير، ظهور كتلتين متنافستين على النفوذ في القرن الإفريقي: محور مصر وتركيا والسعودية، ومحور آخر يضم إثيوبي والإمارات وإسرائيل، تعمق التعاون بينهم بعد اتفاقيات التطبيع، ليخلق امتدادا لإسرائيل أكبر مع نشاط من التمويل والاستثمارات، تنفذها أبوظبي، ولا تقتصر على أهدافها الاقتصادية المباشرة، بل تأخذ بعدا أمنيا واستخباراتيا.
النتائج الأساسية والتوصيات
خلص التقرير، إلى أن القرن الإفريقي أصبح ساحة أساسية لتنافس قوى الشرق الأوسط، وأن حرب غزة أعادت رسم خرائط النفوذ الإقليمي، مع توسع النفوذ الإسرائيلي والإماراتي، وتراجع النفوذ الإيراني المباشر.
وأكد أن مصر وتركيا تبرزان كقوتين قادرتين على إعادة التوازن الإقليمي، وخلق جبهة مشتركة في مواجهة التحالفات المنافسة، مع ضرورة حماية أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، باعتباره شريانًا حيويًا للملاحة العالمية والتجارة الدولية.

وأوصى التقرير بتبني مصر استراتيجية شاملة تجمع بين الدبلوماسية والتنمية والدفاع عند الضرورة، وتشمل مواجهة النفوذ المتنامي لإثيوبيا وإسرائيل والإمارات عبر أدوات دبلوماسية واقتصادية مرنة.
مع تعزيز التعاون العربي الإفريقي لضمان أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وبناء شراكات مستدامة مع دول القرن الإفريقي عبر التعليم، التدريب، والبرامج الثقافية المشتركة، ودعم برامج التنمية والاستثمار المشترك لتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي بالمنطقة.
وأشار التقرير، إلى أن المرحلة الراهنة رغم أزماتها، تشكل فرصة لمصر لتحويل القرن الإفريقي من منطقة تهديد إلى دائرة تأثير إيجابي، من خلال الانخراط الدبلوماسي الواسع، وتطوير أدوات الردع البحري، وتعزيز التعاون التنموي والأمني مع شركائها في البحر الأحمر، السعودية والأردن والسودان. مع توجيه رسائل حاسمة من خلال منصات حوار مع أبوظبي، توضح تأثير علاقاتها بإسرائيل وإثيوبيا، بوصفها تهديد مزدوج للمصالح المصرية والعربية، وإشراك السعودية ودول الخليج في هذا الحوار، بوصف أن تأمين الممرات البحرية، خاصة البحر الأحمر، يحمل أهمية اقتصادية وسياسية لكل دول المنطقة.
مع تعزيز علاقات مصر الدبلوماسية مع دول القرن الإفريقي، ليس وحسب، بالتركيز على العلاقات الرسمية، لكن بجانب ذلك تعزيز العلاقات مع النخب، وإقامة منصات حوار معهم، وطرح فرص وبرامج تدريب وتعليم، بما في ذلك منح جامعية خاصة في مجالات العلوم الإنسانية، بالتركيز على العلوم السياسية والاجتماع والإعلام، ذلك بهدف بناء حوار وصلات مع القادة المستقبلين في هذه الدول على المدى الطويل، تقوم على التفاهم والتعاون الإفريقي، وتعزيز مصالح الشعوب.
ويخلص التقرير، أن منطقة القرن الإفريقي أصبحت بعد حرب غزة نقطة محورية لتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية.
ويبرز التحدي الأكبر لمصر في الموازنة بين دورها العربي في القضية الفلسطينية وحماية أمنها القومي في البحر الأحمر، مع الاستفادة من فرص التعاون العربي الإفريقي لإعادة تشكيل تحالفات متوازنة واستقرار طويل المدى.
لقراءة الملف كاملا:






