في لحظات اليأس تروج مقولات خاطئة: نحن لسنا جاهزين للديمقراطية، الديمقراطية لا تصلح في بلادنا، وغيرها كثير يدور حول المعنى نفسه. كذلك في لحظات اليأس يجري تبرير الاستبداد كأمر طبيعي وتحبيذ الطغيان كملاذ لا بديل عنه. تحدث لحظات اليأس، عندما تنغلق أفق التفكير، بعدما تنسد كل سبل التغيير أو يتم إجهاضها، أو يتم الانحراف بها عن هدفها؛ فينتج عنه ما هو أسوأ من السابق عليه. الأسئلة الخطأ تقود إلى أجوبة خطأ: فلو سألت، هل نحن جاهزون للديمقراطية؟ فمن الطبيعي، أن تكون الإجابة المنطقية هي أننا غير جاهزين للديمقراطية، وذلك لسبب منطقي، يغفل عنه اليائسون، وهو: أننا يتم تجهيزنا على مدار الساعة واليوم والسنة والعمر كله لتقبل الديكتاتورية والتكيف معها، بل والتصالح معها كأمر طبيعي، لا يمكن تصور الحياة بدونه. إذن المشكلة ليست في كوننا غير جاهزين للديمقراطية، فكل الشعوب التي أنجزت الديمقراطية، كانت قبل ذلك غير جاهزة للديمقراطية، لكن المشكلة هي أننا يتم تجهيزنا للديكتاتورية، لا لشيء، إلا لأن الديكتاتورية هي الآلة السياسية التي تحفظ سلطة الأمر الواقع، وتخدم مصالحها، وتصون امتيازات الطبقات الاجتماعية المستفيدة منها. الديكتاتورية ليست هواية ولا غواية للحكام، لكنها الوسيلة الفعالة لخدمة مصالحهم ومصالح من حولهم على حساب مصالح باقي المواطنين. إذن السؤال: هل نحن جاهزون للديمقراطية؟ سؤال خطأ ينتج الجواب، وهو أننا بالفعل غير جاهزين. لكن السؤال الصح: لماذا يتم تجهيزنا على مدار الساعة لتقبل الديكتاتورية والتكيف معها؟ وجوابه الصحيح؛ لأن ذلك يخدم منافع ومصالح وامتيازات أقلية تحكم ومعها أقلية تنتفع منها. وعلى هذا تعمل سلطات الأمر الواقع، وكل السلطات في الشرق الأوسط هي سلطات أمر واقع، جاءت للحكم بالقهر والتغلب ووضع اليد، على أن تقترن الديكتاتورية بالوطنية والعزة القومية ومقاومة المؤامرات الأجنبية ومكافحة الإرهاب والخونة وأعداء الوطن، الديكتاتورية مشروع قومي، يتم الإنفاق عليه من أموال الشعوب، حتى تبقى قائمة ومزدهرة، الديكتاتورية ليست مجرد انحراف سياسي له قبول اجتماعي، الديكتاتورية فكرة حية وحيوية ونابضة بالحياة، يتم سقيها وريها وتعهدها بكل رعاية، تضمن لها أن تنمو ثم تزهر ثم تثمر. نحن في 2025 نحصد ثمرات حقل، تم تجهيز تربته على مدار أكثر من عشر سنوات؛ لتكون صالحة لزراعة مدرسة جديدة في الاستبداد ، إعلام الصوت الواحد الذي يعمل بالتوجيهات، ويلتزم بالأوامر، أحزاب مصنوعة في معامل البيروقراطية الأمنية والإدارية، قوانين انتخابات معلوم مسبقاً، من سيفوز من خلالها، مناخ سياسي مكتوم مخنوق محشور بين الصخور، حالة من الخوف والشك وغياب الثقة وانعدام الطمأنينة والأمان، عزوف الأغلبية عن الكلام وعن المشاركة وعن الترشح وعن الانتخاب، كل هذا من الطبيعي أن يصنع حالة انحلال للهمة السياسية، تبدو معها فكرة الديمقراطية وهماً فخيالاً فسراباً، وهو سراب مصنوع عمداً، حتى يتكيف المصريون مع الديكتاتورية، ثم يرضون بها نصيباً مكتوباً، ثم يصبرون عليها قدراً مقدوراً .

المصريون شعب مثقف متنور ذكي القلب وحي الضمير ومتوهج العقل وحساس الشعور، من أوائل شعوب الشرق التي أدركت تفوق الغرب على الشرق، كما أدرك أن الديمقراطية هي سر تفوق الغرب، لهذا كافح المصريون، وما زالوا يكافحون منذ غزوة بونابرت حتى يومنا هذا؛ لأجل الديمقراطية وحكم الدستور ودولة القانون، أنجزنا القليل، وهذه طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ، ويبقى أن نواصل المسيرة دون تسرع ولا تعجل ولا اندفاع ولا إحباط ولا يأس، وبقي أمامنا الكثير الذي ينبغي أن نواصل الكفاح لأجله، فلا مستقبل لهذا البلد دون ديمقراطية، ولا ديمقراطية دون كفاح شاق جاد، تتواصل عليه الأجيال، لا مستقبل لمصر دون ديمقراطية يتمكن بها المصريون من اختيار حكامهم ونقدهم ومحاسبتهم ومساءلتهم ومراجعتهم ومحاكمتهم، إذا لزم الأمر ثم عزلهم، عندما تقتضي المصلحة الوطنية عزلهم، وهذا التعريف العملي للديمقراطية، اقتبسته من المثقف والمفكر الرصين الدكتور محمود أباظة الرئيس الأسبق لحزب الوفد. لكن الطريق إلى ديمقراطية بهذا المعنى طويل وشاق لعدة أسباب:

1- أولها، أن ميراث السلطة في مصر يسمح للحاكم بطغيان لا حدود له، يكفي أن تستدعي من الذاكرة المعاصرة بعض النماذج: شاب ألباني غريب في نهاية الثلاثينيات من عمره، يتمتع بغريزة سياسية ماهرة ماكرة، يقفز على السلطة فوق أكتاف الشعب عام 1805، ثم ينجح في سحق الإرادة الشعبية، كما سحق خصومه ومنافسيه، وتربع على عرش مصر قريباً من نصف قرن، ثم أخذ موافقة دولية، على أن تكون مصر ضيعة مملوكة لها ملكية خاصة ويتوارثها أبناؤه وأحفاده من بعده. كذلك شاب في أوائل الثلاثينيات من العمر، ضابط جيش يقود زملاءه من صغار الرتب عند منتصف ليل 23 يوليو 1952، فيستولي على السلطة، يلغي الملكية، ويمسح أسرة محمد علي باشا، ويسحق كل خصومه وبالمرة يسحق كل حلفائه ومؤيديه، وينفرد انفراداً مطلقاً بحكم مصر حتى وفاته 1970. وحتى الحكام من المقاس الأصغر تسمح لهم السلطة في مصر بالطغيان ذاته الذي يمارسه حكام من مقاس العظماء مثل الباشا وعبد الناصر تماماً.

2- ثانيها، أن السلطة الحاكمة في الدولة الحديثة تأسست على المحسوبية والشللية والواسطة وعلاقات الانتفاع المتبادل والتربح من الوظيفة العامة، محمد علي باشا هو من وضع لبنات هذا النظام الفاسد، عندما شغل كافة مواقع الدولة الجديدة بعائلته وأقاربه وأصهاره، ومن ينالون رضاه بصفة شخصية، وهذا جعل من الدولة وأجهزتها ومؤسساتها سبوبة كبرى، تدر المنافع والامتيازات والوجاهة على كل من له فيها موضع قدم، أو من له فيها “ضهر وسند وعزوة” من أعلى المناصب السياسية والإدارية حتى أدناها، ولو فراش في مصلحة حكومية، فهو لن يخلو من معرفة بدهاليزها، ومن ثم لن يعجز عن الانتفاع منها، ولن يعجز عن تقديم خدمات لغيره سواء بمقابل مادي أو أدبي.

3- الديمقراطية نجحت في الغرب الأوروبي؛ لأنها نبتت في تربتها، وتطورت فيها ونضجت عبر كفاح تواصل قريباً من ألف عام، السعي للديمقراطية حتى يتحرر الشعب من قهر السلطان، ترافق معه سعي مماثل متزامن على عدة جبهات: سعي لتحرير العقل من الخرافة والتقليد عبر تأسيس منظومة العلوم الحديثة التي طورتها أوروبا، سعي لتحرير الضمير العام من سطوة الكنيسة والسلطات الدينية، سعي لتحرير عامة الناس من الفقر والبؤس والعوز وإطلاق طاقات الأفراد للكسب والرزق والاغتناء، سعي جماعي للتحرر من ضغط التقاليد الموروثة، سعي للاستنارة الروحية والفكرية وتمكين الفرد من تنمية نفسه، خلاصة الأمر: ديمقراطية الغرب نتاج تطور طبيعي غير مفتعل ولا متكلف.

4- العكس حصل عندنا، كنا ننام على ظن أننا سادة العالم من حولنا، ثم ضربتنا مدافع نابليون، فانصدمنا من الانقلاب، أوروبا فوق، ونحن أسفل السلم الحضاري، بدأنا نقتبس ونستورد الأفكار والسلع والخدمات والنظريات، وما زلنا نستورد، نجحنا في تمصير بعض ما استوردنا، وأخفقنا في الكثير، الديمقراطية والدستور، ودولة القانون ما زالت متعثرة عندنا، لكنها ليست مستحيلة، ولا ينبغي أن تكون مستحيلة.

5 – البنية التحتية البعيدة في تلافيف العقل العام مسكونة بتراث الطاعة، فخلال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام، تم تعميق مبدأ طاعة الحكام كحق لهم على الشعوب، لكن في مقابل ذلك، بقيت فكرة الشورى مهمشة من الناحية العملية، فلم تتبلور في مؤسسات فاعلة تجسد الإرادة العامة للشعوب في مواجهة الحكام، وهو نقيض ما حدث في أوروبا التي شهدت تطوراً تدريجيا بطيئاً، لكنه متواصل وصاعد لفكرة الشورى والمشورة والتشاور كحق للشعب، بدأ ذلك في بريطانيا مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، وفي فرنسا ثم إسبانيا مع مطلع القرن الرابع عشر، في بريطانيا كان الهدف تقييد السلطة المطلقة للملوك في مقابل الضرائب والتجنيد، في فرنسا كان الهدف صناعة توزان بين سلطات الملوك في باريس وسلطات النبلاء المحليين في المقاطعات، وفي إسبانيا كان قدر من المشورة لازماً لتمكين الحكام في قشتالة وأراجون لمواصلة حروبهما لطرد العرب والمسلمين من الأندلس، في ذلك التاريخ، كانت بلادنا تتعرض للحملات الصليبية والمغولية، وكان يحكمنا الأيوبيون ثم المماليك، وكانت الأولوية الأولى والأخيرة لصد الغزوات .

………………………

اليأس من الديمقراطية تسليم مجاني للديكتاتورية.

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.