بتعدد أدواره اكتسبت مدرسته فرادتها وعمق تأثيرها.
إنكار “مدرسة الأهرام” جهل وتجهيل بحقائق التاريخ وأصول المهنة معا.
لم تكن تجربة الأستاذ “محمد حسنين هيكل” في “الأهرام” حدثا اعتياديا حتى يجري التهجم عليها بخفة.
هو “أقوى صحفي بالقرن العشرين” على ما وصفته “النيويورك تايمز”، بالنظر إلى تأثيره الواسع في صناعة القرار ببلاده وصياغة التوجهات الرئيسية،.
وهو “أسطورة حية”، كما وصفته “سارميللا بوز” مديرة كلية الصحافة في جامعة أوكسفورد، عندما ألقى من فوق منصتها أول محاضرة تذكارية في أكتوبر (2007).
وهو “رئيس تحرير أسطوري” على ما وصفته صحف ودراسات إسرائيلية عديدة، رغم ما نسبته إليه من تحريض على الدولة العبرية وإلهام الرأي العام العربي فكرة المقاومة.
وهو مؤرخ للصراع على المنطقة من الداخل، وذلك لم يكن متاحا للمؤرخين الآخرين.
وهو مفكر أمن قومي لا يضارعه في عمق تأثيره على أجيال متعاقبة من العسكريين والدبلوماسيين أي أحد آخر.
القضية ليست أن تتفق أو تختلف مع إرثه.
في كل الأحوال- بالاتفاق أو الاختلاف- ظاهرته غير قابلة للتكرار، فهو ابن عصره ونتاج تحولاته ومعاركه.
وفي كل الأحوال- بالاتفاق أو الاختلاف- لا يمكن كتابة التاريخ المعاصر دون التوقف عند ظاهرته بالدرس، وربما التعلم.
رغم ذلك كله لم يكن يعرف نفسه سوى بـ”الجورنالجي.”
فهو صحفي أولا وأخيرا.
“أهرام هيكل” تجربة مهنية وإنسانية وسياسية تستحق التوقف والدراسة، تحولت في عهده (١٩٥٧ـ ١٩٧٤) إلى واحدة من أهم عشر صحف في العالم، تصنع الخبر وتقود الاتجاهات الرئيسية في الرأي العام العربي، وفاق توزيعها ثلاثة أرباع المليون نسخة، والأهم أنها تحولت إلى منبر للدفاع عن حرية الرأي والنقد، وفي دورها السادس تجمع في ظاهرة غير مسبوقة نجوم الأدب والثقافة في مصر والعالم العربي في ذلك الوقت.. كما صدرت عن مؤسسة “الأهرام” مجلة “الطليعة” التي تبنت رؤى اليسار المصري.
بقدر حضور أكثر المثقفين تأثيرا وموهبة من كل تيارات الحياة السياسية المصرية، وبعضهم لم يخف انتقاداته لثورة يوليو، تأكد اتساع أفقه ونظرته.
ذات مرة قال للرئيس “جمال عبدالناصر”: “ما الذي أريده من كل هذا الحشد لقادة الفكر والمثقفين.. إنهم ليسوا مجرد حلى ذهبية، ولكنهم دور لا غنى لمصر عنه”.
“لم أسمح لنفسي في أية لحظة لأي سبب أن استدعي أحدا من كبار الأدباء والمفكرين الذين احتواهم الدور السادس إلى مكتبي في الدور الرابع.. أنا الذي أذهب إلى مكاتبهم محاورا عندما يتوافر عندي وقت.. أنت تتحدث عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود ولويس عوض وبنت الشاطئ وصلاح طاهر وحسين فوزي، وهم حجر الأساس وقتها في بنية الثقافة المصرية وقوة مصر الناعمة في محيطها”.
“أردت توفير مناخ للإبداع بدون ضغوط أو شواغل أخرى وتركت القيمة تتجلى وفق ما يرى أصحابها”.
“أردت بوجودهم أن أؤسس لصحافة القيمة والارتفاع بمستوى الحوار العام، وأن يكون المثقفون والأدباء والمفكرون الكبار في قلب المشهد يتابعون ما يجري فيه ويكتبون عن معرفة”.
هذه مدرسة واسعة الأفق وعميقة التأثير.
“لكل صحيفة شخصيتها التحريرية التي تختلف عن الأخرى في صياغة الأخبار والعناوين وتوضيب الصفحات وطبيعة المواد المقدمة لجمهورها”.
هذا هو معنى أن تكون هناك مدرسة صحفية تتأسس على فهم حقيقي للمهنة وأدوارها المفترضة لا على أوهام تستبد ببعض الرؤوس عن الصحافة وأدوارهم فيها.
عندما غادر منصبه عام (1974) كان هناك تنافس حقيقي بين “الأهرام” الأسبوعي و”أخبار اليوم” على كسر حاجز المليون نسخة.
“أرقام التوزيع نصف الحقيقة”.
“نصف الحقيقة الآخر، الذي نخفيه، الطاقة القرائية للصحيفة والوقت الذي يقضيه القارئ معها والخدمة التي يطلبها”.
“ما حجم المشتركين الدائمين؟”.
“أين مناطق البيع؟”.. فـ”قارئ الصعيد غير قارئ الإسكندرية”.
“لماذا يزيد التوزيع في منطقة ويتراجع في أخرى؟”.
“ما معنى الأرقام كميا ونوعيا على الخرائط الاجتماعية؟”.
“في منافسات الأهرام وأخبار اليوم بالقرب من منتصف السبعينيات تراوحت الطاقة القرائية للنسخة الواحدة بين رقمي (٤.٥) و(٧) قراء”.
“في أيام كثيرة تراجعت الأهرام لكن طاقتها القرائية كانت أكبر”.
“الجمعة ذروة الأهرام والسبت ذروة أخبار اليوم وكان الأحد هو يوم التنافس الضاري، الأخبار تحاول أن تأخذ زخم السبت إلى اليوم التالي بينما الأهرام تحاول أن توقف النحر وتستعيد السبق من جديد”.
“المنافسة جوهر العمل الصحفي”.
“رغم الكفاءات الصحفية الشابة التي تعلن عن نفسها إلا أن الظروف العامة لا تمنحها ما تستحقه من فرص للتنافس بقواعد والإضافة بتأثير”.
“قوة الصحافة من تنوع مدارسها ولا قيمة لأي دور إلا بقدر ما يضيف إلى الخبرات المتراكمة”.
و”هذا تحدٍ مهني صعب”.
“الطاقة القرائية تحدٍ آخر”.
“لماذا تزيد؟.. ولماذا تنخفض؟”.
القيم المهنية تحدٍ ثالث.
“بصورة أو أخرى فهناك إعراض من القارئ عن الكلمة المكتوبة”.
“الكلمة المكتوبة فقدت صدقيتها، وفي بعض الحالات انتهكت عذريتها”.
“أما السبب الرئيسي لفداحة التراجع فهو تأثير شبكات التواصل الاجتماعي والتليفزيون على قراء الصحافة المطبوعة”.
“هنا صلب الأزمة”.
“تأمل تجارب الماضي قد يساعدنا على النظر إلى المستقبل”.
“لكل عصر إيقاعه ونحن نعيش الآن عصر الكلمة المسموعة”.
“لكل زمن حواره وحوار هذا الزمن لا يتكلف شيئا لفك رموز ما هو مكتوب على ورق”.
“إن أي مهتم بالشأن العام سوف يتابع الخبر صورا متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروي له قصة ما جرى على مهل لأن ذلك دورها”.
“كل أسطح الحوادث مكشوفة تحت الومضات السريعة”.
“الكلمة في جريدة تفصل ما وراء الخبر وتروي ما لا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر”.
“في العصر الإلكتروني أريد أن أعرف ما الذي دار همسا في أية لقاءات قمة لها أهمية بعد أن رأيت الصور الملونة على الهواء مباشرة”.
“هذه كلها استخلاصات توصلت إليها مناقشات مستفيضة في صالات تحرير صحف بريطانية شارك في بعضها مع بداية العصر التليفزيوني”.
هكذا تحدث معي باستفاضة عام (2015) فيما استلفت نظره في دور الصحف، التي زارها بالعاصمة البريطانية لندن.
المتابعة الدؤوبة لمستجدات المهنة وضرورات تطويرها من طبائع مدرسته.
هكذا بدت التغييرات التي طرأت على أسلوبه من المقال المعلوماتي إلى المقال المستطرد تعبير عن رغبته في التجدد بالإضافة، كما هي تعبير عن تطور أدواته بالتمكن واتساع مدى نظرته بالتجربة.
قلت له ذات حوار: “من يقرأ أعمالك القديمة لا بد أن يستشعر أن هناك موهبة تتحرك، لكنها لم تفق كثيرا مجايليها، بمضي الوقت أخذت حجما وتأثيرا لم تكن البدايات تشير إليه”.
قال: “ما حدث طبيعي وإنساني ومهني فأنت تتحدث عن تجربة سبعين سنة”.
في الأول من أكتوبر عام (٢٠١٤) نظر إلى سؤال المستقبل، وهو يستشعر بوقع السنين أن وقت الرحيل اقترب.
كان “الأهرام” قد دعاه إلى احتفال خاص بعيد ميلاده الحادي والتسعين.
دعاني أن أصحبه في رحلة الذهاب إلى “الأهرام”، الذي أعاد تأسيسها من جديد وجعل منها قلعة صحفية حديثة ومؤثرة ولها كلمتها المسموعة.
“لا أريد أن أستغرق الطريق في ذكريات الماضي”.
لكن الماضي استغرقه بالكامل، حواسه متنبهة لكل ما يرى، ما الذي تغير على الحوائط ومواضع المكاتب عما كان عليه في فبراير (١٩٧٤) عندما غادر مكتبه لآخر مرة.
في ذلك اليوم الخاص امتلكته مشاعر متناقضة، فهو يدرك أنه في “آخر اليوم الطويل”، كأن حياته يوم واحد طال، ويشعر بالاعتزاز بما أداه من أدوار.
وكان الأكثر إثارة- بالحساب الإنساني- أنه دخل لأول مرة بعد أربعين سنة من مغادرته “الأهرام” صالة تحريرها الشهيرة، أدار اجتماعا رمزيا لمجلس تحريرها، استمع إلى مديري التحرير ورؤساء الأقسام وهم يقترحون تغطيات العدد المقبل.
شارك في ذلك الاجتماع تحت وهج الكاميرات، التي تزاحمت في المكان، كوكبة من قدامى الصحفيين الذين عملوا معه مثل “السيد يس”، و”مكرم محمد أحمد” و”صلاح منتصر” و”فاروق جويدة” و”سناء البيسي”، بالإضافة إلى الروائيين “بهاء طاهر” و”جمال الغيطاني” و”يوسف القعيد” و”عبدالله السناوي”.
في ذلك اليوم الخاص جلس على مكتبه الذي كان.
بدت تلك لحظة إنسانية عميقة ومؤثرة استدعت ذكرياتها، فقد جلس على ذات المكتب الرئيسان “جمال عبدالناصر” و”أنور السادات” عندما زارا “الأهرام”.
“هذا المكان شهد شبابي كله وولائي له.. الأهرام بيتي والعاملون به هم أهلي”.
هكذا لخص باقتضاب مشاعره، لم تستغرقه ذكريات الماضي تماما.
لم يخفِ قلقه على مصر ومستقبلها وهو يكاد يصرح أن حياته كلها عند حافة الغروب.
“لا يمكن الاطمئنان على أي مستقبل ما لم تكن هناك رؤية تحكم الخيارات والسياسات وتتسق مع حقائق عصرها واحتياجات مجتمعها”.
تجاوز ما هو خاص إلى ما هو عام ونحى ما هو احتفالي ليناقش ما هو مقلق في أوضاع البلد.
كانت تلك مفاجأة للصحفيين والأدباء والشخصيات العامة، التي شاركت في الاحتفال بعيد ميلاده- قبل الأخير- وفي تصورها أنها مناسبة لإشادة مستحقة بالدور الذي لعبه، وبينهم أجيال جديدة تعرف قدره لكنها ربما لم تره من قبل، فقد انتسبت إلى الصحيفة العريقة بعد أن غادرها بعقود.
رغم تأثره الإنساني فإنه وجد الاحتفاء بعيد ميلاده ذلك العام زائدا عن الحد في الصحف المصرية، لا في “الأهرام” وحدها.
“أريد أن أقول إن هذا البلد يجتاز مرحلة في منتهى الخطورة، وهو لأول مرة أمام معضلة أن يكون أو لا يكون”.
“ثوابت كثيرة الآن موضوع تساؤل”.
“العالم يتغير رأسا على عقب، وشكل ما هو قادم يتغير، والإقليم يتغير.. ونحن لا نبدو قادرين على الملاحقة”.
ثم دخل في صلب ما أراد أن يقترحه على مستمعيه داخل القاعة التي تحمل اسمه.
“أدعو الأهرام إلى الاضطلاع بمسئولية صناعة رؤية للمستقبل، رؤية لمصر، وهو قادر عليها بما يتوافر له من قدرات وإمكانيات فكرية يمكنها أن تستعين بالشخصيات القادرة على استشراف المستقبل”.
لكن ذلك لم يحدث بكل اسف.






