أخطر الأسئلة.. سؤال الشرعية.
وأسوأ الانتخابات.. التي تعمق أزماتها.
لا يعتقد أحد في مصر كلها، أنه قد أجريت انتخابات، أو شبه انتخابات على شيء من الجدية والتنافس.
هذا بذاته تعبير عن أزمة شرعية، تطرق الأبواب وتستدعي التحوط بإجراءات جدية لإصلاح المسار، إذا كان ذلك ما يزال ممكنا دون معاندة مع الحقائق.
من يتحمل مسئولية الوصول إلى هذه النقطة الحرجة؟!
إنها الهندسة الانتخابية الزائدة عن أي حد، التي حولت الاستحقاق الدستوري إلى ملهاة، لا تدعو إلى أي احترام، ولا تضفي أية شرعية على القوانين، التي قد تصدر عمن يطلق عليها مجازا “السلطة التشريعية”.
صودرت بالقوائم المغلقة المطلقة إرادة المواطنين لانتخاب من يمثلونهم في البرلمان بغرفتيه، الشيوخ والنواب.
إنه تعيين صريح وواضح، ينتهك فكرة التنافس، ويلغي معنى الانتخابات نفسها.
في جلسات “الحوار الوطني”، الذي دعا إليه الرئيس “عبد الفتاح السيسي”، حدث ما يشبه الإجماع على استصدار قانون جديد للانتخابات البرلمانية، يزاوج بين القوائم النسبية والفردي، لكنه عصف به، كأنه لم يطرح، وأعيد إنتاج القوائم المطلقة المغلقة، التي أفضت إلى إفشال العملية الانتخابية كلها.
وزعت الحصص والأنصبة على أحزاب الموالاة وشبه أحزاب المعارضة.
هكذا جرى اختيار نصف الأعضاء بالتزكية، دون حضور يذكر للمواطنين في لجان الاقتراع!
هذا مظهر آخر لأزمة الشرعية.
في المرحلة الأولى، شابت انتخابات الفردي تجاوزات فاضحة؛ أدت لتدخل رئاسي لدى “الهيئة الوطنية للانتخابات”، المفترض أنها تتمتع دستوريا باستقلال كامل عن السلطة التنفيذية إثر الاحتجاجات والاشتباكات التي جرت بعد ظهور المؤشرات الأولية لنتائج الانتخابات؛ خشية انفلات الأمور.
لم تكن الاشتباكات بين حكومة ومعارضة، بقدر ما كانت صراعات داخل البيت.
بحكم قضائي بات ألغت “المحكمة الإدارية العليا” نتائج الانتخابات في (30) دائرة، بالإضافة إلى (19) دارة أخرى، ألغتها “الهيئة الوطنية للانتخابات” بالمرحلة الأولى فقط. نسبة الإلغاء وصلت إلى نحو (70%) من نتائج تلك المرحلة.
نحن أمام مهزلة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات المصرية، على كثرة ما احتوتها من تدخلات بالتزوير في صناديق الاقتراع.
بدت الصورة- هذه المرة- هزلية تماما، وتسحب أية شرعية عن البرلمان بغرفتيه الشيوخ والنواب.
في إشارات لافتة بحيثيات “الإدارية العليا”، وجهت اتهامات صريحة للهيئة الوطنية للانتخابات أهمها وأخطرها، الامتناع عن تقديم محاضر الفرز رغم تكليفها بذلك.
هناك من اعتبر إعادة الانتخابات في أكثر من ثلثي الدوائر تصحيحا للمسار، هذا استنتاج متعجل.
أي تصحيح جدي للمسار، يتطلب إلغاء القانون الذي أجريت بمقتضاه الانتخابات المدعاة، ورفع يد السلطة التنفيذية تماما عن العملية الانتخابية، كما تقضي القواعد الدستورية.
لا يفيد ولا يصلح “شبه إصلاح” و”شبه انتخابات”.
إما أن تتوافر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإما سوف تجد مصر نفسها في أزمة شرعية مستحكمة، كأنها تهدر دروس التاريخ القريب.
في عام (2005)، بدا نظام الرئيس الأسبق “حسني مبارك” كأنه استنزف طاقته على البقاء ومشاهد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معا، توحي بأزمات عميقة في بنيته.
أدار “جمال مبارك” النجل الأصغر للرئيس أول انتخابات رئاسية تعددية، فيما أدار اللواء “حبيب العادلي” وزير الداخلية الأسبق الانتخابات البرلمانية عاقدا عبر قيادات في وزارته صفقة مع جماعة “الإخوان المسلمين”، جرى بمقتضاها دخول (88) نائبا من الجماعة إلى البرلمان.
كانت تلك خطيئة كبرى.
عشية انتخابات (2005)، طرح السؤال نفسه: إلى أي مدى سوف تزور الانتخابات؟
تحركت مبكرا أجهزة الأمن والمحليات لإدارة الحملتين الرئاسية والنيابية، احتكرت كشوف هيئة الناخبين، حجبتها عن المنافسين، عقدت اجتماعات موسعة، مع من يوصفون بـ”مفاتيح الانتخابات” في الدوائر المختلفة.
اختفت قيادات الحزب الوطني، وتصدرت المشهد الانتخابي أجهزة الأمن وضباط المباحث في الأقسام والمراكز.
هكذا الأمر الآن، لا أحزاب حقيقية في المشهد الانتخابي، والأدوار كلها تسند إلى الأمن.
حسب ما تسرب ونشر عام (2005)، لم يكن “مبارك” يفضل أن ترتفع النسبة التي يحصل عليها– بتدخل أجهزة الدولة– إلى (90%) وما فوقها، فهذه النسب المرتفعة سوف تؤكد وجهة نظر معارضيه، بأن الانتخابات الرئاسية استفتاء مقنع، وبأنها مزورة ومهزلة، لا تليق بأن تنتسب على أي نحو للديمقراطية.
ولم يكن يريد- بالمقابل– أن تهبط إلى ما دون الـ(80%)، ففي هذه الحالة، هو مدعو إلى أن يضع في اعتباره– بضغوط دولية وداخلية– ما يمثله معارضوه من قوة داخل المجتمع المصري، وأنه لا مناص من إقرار ترتيبات جديدة للعبة السياسية، وهو ما لم يكن يريده.
كانت تلك هندسة انتخابية أفضت بالمحصلة الأخيرة إلى تداعيات وكوارث.
رغم ذلك كله امتد عمر نظام “مبارك” لنحو خمس سنوات أخرى.
لماذا؟
- بفضل اتساع هامش الحريات الصحفية والإعلامية.
هذه حقيقة يصعب نفيها.
الحريات الصحفية والإعلامية المتسعة نسبيا رفعت سقف الآمال المعلقة على إصلاح النظام من الداخل.
عندما تبددت أية آمال في إصلاح النظام من الداخل بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية أكتوبر (2010) انفسح المجال واسعا بعد أسابيع قليلة لثورة يناير (2011).
في ذلك الوقت هناك من توقع “ثورة جياع”، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز، أو “انتفاضة خبز جديدة” كما جرى في انتفاضة يناير (١٩٧٧)، أو “حريق قاهرة آخر” على النحو الذي جرى في يناير (١٩٥٢)، أو تغيير النظام بتدخل عسكري كما حدث في (23) يوليو من نفس العام الفارق.
لم يخطر ببال أحد إطاحته بانتفاضة شعبية مدنية، تدعو إلى نظام ينسخ الماضي، ويلتحق بعصره.
هبت عاصفة “يناير” من خارج السياق السياسي، الذي اخترقت أحزابه وهمشت منابره.
لم يكن يعني تدجين السياسة، أن النظام في منأى عن عاصفة التغيير.
هذا الدرس- بالذات- يدعو إلى فتح المجال العام وإطلاق الحريات الصحفية والإفراج عن الموقوفين السياسيين، الذين لم يتورطوا في عنف أو إرهاب.
هذا هو المعنى الوحيد لإصلاح المسار، أي شيء آخر لف ودوران في الحلقة المفرغة.






