حكمت الأسرة العلوية مصر قرناً ونصف قرن من الزمان، نصفها الأخير تحت السيادة الفعلية للاحتلال، وعند منتصف الفترة، أي عند خلع إسماعيل، كان حكم الأسرة في مهب الريح عند مطلع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لكنها تواصلت على حكم مصر حتى منتصف القرن العشرين، وذلك لسبب رئيس: لم يكن للأسرة بديل قادر على ملء فراغ السلطة الذي كانت تشغله وتملأه منذ تولية مؤسسها محمد علي باشا 1805.
لكن عندما أصبح للأسرة بديل قادر على ملء الفراغ السياسي تم التوافق الدولي بين القوة العظمى الآفلة والقوة العظمى الصاعدة، بريطانيا وأمريكا، على اعتبار أن تخلص الجيش المصري، باسم الشعب المصري، من حكم أسرة محمد علي باشا، إنما هو شأن داخلي مصري، أي لا يجوز لبريطانيا أن تتدخل فيه فتعترض عليه بأي شكل من الأشكال، كذلك كان موقف أمريكا التي قالت بوضوح إن تخلص الجيش من حكم الأسرة العلوية هو شأن مصري داخلي محض، ومصر دولة ذات سيادة، فلا يجوز التدخل في أمورها الداخلية الصرفة، وهكذا قضى التاريخ على واحدة من أعرق سلالات الحكم في الشرق الأوسط أن تزول وتؤول مصائرها إلى ملفات التاريخ دون رمشة عين، ناهيك عن دمعة عين، زالت إلى الأبد، رغم حنين البعض إليها، ورغم أنين البعض عليها، ورغم أحلام اليقظة التي راودت البعض عليها، أنها سوف بين لحظة عين وانتباهتها، سوف تعود بعد أن يتلاشى الكابوس الذي حجبها عن الوجود وأحل الجمهورية محلها في 18 يونيو 1953، علماً أن فكرة التخلص من حكم السلالة العلوية وإعلان الجمهورية تبلورت أول مرة قبل ذلك بثلاثة أرباع قرن في معمعة الثورة العرابية، كان الأستاذ الإمام محمد عبده منحازاً للجمهورية، كان الزعيم أحمد عرابي منحازاً للجمهورية، كانت أفكار الثورة الفرنسية قد تسربت إلى العقل الثوري المصري، لكن لم يكن الأوان قد حان بعد، إذ كان من مصلحة الإنجليز إجهاض الثورة، ثم احتلال البلاد، ثم البقاء في البلاد، بمزاعم حماية الشرعية السياسية التي تتجسد في الأسرة العلوية، ثم بمزاعم حفظ الاستقرار في البلاد، ثم تعددت المزاعم حتى الجلاء الكامل لآخر جندي بريطاني في 18 يوليو 1956.
مصر منذ خرجت بالتدريج من الإطار العثماني، ودخلت بالتدريج في النظام الدولي، وهي مرتكز أساسي في حفظ الأمن الإقليمي، ومن ثم في حفظ المصالح الدولية، ومن ثم فغير مسموح لها، بأن تقع في الفراغ السياسي، فمثل هذا الفراغ كان قديماً، أي تحت المظلة العثمانية، تتضرر منه مصر فقط، كما كان يحدث على مدار قرنين كاملين من صراعات السلطة بين فرق المماليك المتحكمة داخلياً تحت غلالة السيادة العثمانية المهترئة على مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكانت الذروة مع استقلال علي بك الكبير منفرداً بحكم مصر والشام والحجاز واليمن ومواني البحر الأحمر وشرق المتوسط، رغم أنف السلطنة العثمانية في إسطنبول 1768- 1773، وقد كان علي بك الكبير على وعي كاف بتحولات السياسة العالمية، وكان لديه أمل، أنه لو حظي بعون روسيا، يستطيع الاحتفاظ بمملكته البازغة.
لم يكن محمد علي باشا أكثر من مملوك ذي مواهب قيادية فذة مثله في ذلك مثل علي بك الكبير، الفارق هو أن الظروف نضجت أكثر في حالة محمد علي باشا، الذي أدمج مصر في النظام الدولي، ولعب سياسة رفيعة المستوى من المهارة والذكاء وفق قواعد النظام الدولي، لعب بحذق على التوازنات بين فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا، ثم نهش ما استطاع من لحم السلطنة العثمانية، ونافس روسيا في اقتطاع أملاكها، ويوم توحدت ضده كل تلك القوى، لم تكن ضده بصفته الشخصية، ولم يكونوا ضد مصر بصفتها السياسية الصاعدة، لكن كانوا يضعون نصب أعينهم التوازن الدولي وبالتحديد توازن القوى في أوروبا؛ لأن الاعتراف بإمبراطورية محمد علي باشا يفتح الطريق لاستباحة باقي أملاك العثماني المريض، وهذه الأملاك كانت روسيا تقتطع منها كل يوم منذ مطلع القرن السابع عشر، ولم يتبق أمام المطامع الروسية غير أن تجهز على العاصمة العثمانية نفسها، وتستردها إلى أحضان الأرثوذكسية التي نُزِعت منها، عندما اقتحمها السلطان العثماني محمد الفاتح 1453 م، كانت روسيا تعتبر نفسها مكلفة باسترداد القسطنطينية وبالقدر ذاته، كانت ترى مصالحها الاستراتيجية في امتلاك مضيقي البوسفور والدردنيل، وهذا كان يمثل خطراً كبيراً على أوروبا. لقد حرصت أوروبا على تأجيل سقوط العثمانية قرنين كاملين، حتى لا تقع في حضن أو حجر روسيا، فيمتد خطر روسيا إلى غرب أوروبا، في هذا الإطار كان على أوروبا حتماً أن تقف في وجه محمد علي باشا، وتقف مع العثمانية، وتجرده من إمبراطوريته، وتقره فقط على مصر والسودان وملحقاتها.
ومن ذلك التاريخ 1840، غير مسموح لمصر بأمرين: غير مسموح لها بإمبراطورية كما فعل الباشا أو دور إمبراطوري كما فعل عبد الناصر، وهذا هو الأمر الأول، أما الأمر الثاني فهو غير مسموح لها، أن تقع في فراغ سياسي.
في هذا السياق، يمكن فهم الانتقال التاريخي الحاسم والاستثنائي للسلطة والسيادة والشرعية من آخر حكام أسرة محمد علي باشا بعد قرن ونصف، انطبعت خلالهما مصر بسياسات الباشا وذريته من بعده إلى سلالة جديدة من الحكام قادمة من صفوف الجيش المصري، هذا انتقال له طبيعتان:1- الأولى: انفصال عن حكم السلالة سواء منهم من حمل لقب باشا أو خديو أو سلطان أو ملك، وهو انفصال حقيقي، اختفت مع الطبقة الحاكمة بكاملها، ليس فقط أسرة الباشا لكن ما تخلق حولها من مجتمع سياسي موال لها أو معارض ما دام كان يعمل تحت مظلة الاعتراف بشرعيتها، بما في ذلك حزب مناضل ومجاهد ضد استبدادها مثل حزب الوفد، انفصلت الرأس العلوية، وانقطعت معها الحبال السرية لكافة مكونات الطبقة السياسية التي كانت عصارة قرن ونصف قرن من تحديث الباشا وذريته. 2- لكنه في الوقت ذاته اتصال وثيق، اتصال القادم مع السابق، اتصال منبعه أن السلالة الجديدة للحكم هي من قلب السلالة القديمة، من قلب دولة الباشا، من قلب الدولة الوطنية الحديثة، من قلب الجيش المصري عماد مؤسسات الدولة، ومن عجائب القدر، أنه في عهد فاروق شاعت فكرة “الجيش سيف الملك”، كان الملك يُولي الجيش عناية ورعاية وعطفاً مخصوصاً، ثم كان الجيش، الذي هو من ثمرات الحكم العلوي، مَن وضع النهاية للحكم العلوي، ثم كان هو مَن ملأ الفراغ السياسي، وشغل كافة مقاعد السلطة باستثناء فاصل قصير من صيف 2012 حتى صيف 2013، وحتى في أثناء ذلك الفاصل القصير، كان التوافق الدولي، وأكرر التوافق الدولي، فمصر تعني العالم كله، كان التوافق الدولي هو أن يكون حكم مصر شراكة عادلة بين: نتائج صندوق الانتخابات الرئاسية 2012 والمؤسسة الصلبة صاحبة الكلمة منذ ليل 23 يوليو 1952، كان كل المبعوثين الأجانب من أمريكان وأوروبيين على كلمة سواء في هذا الصدد، لم يكونوا يرغبون في الافتئات على نتائج الانتخابات، لكن في الوقت ذاته لم يكونوا مطمئنين على قدرة الانتخابات وحدها في خلق قوة حكم صلبة قادرة على ملء فراغ السلطة الذي خلقته ثورة 25 يناير 2011، ومن ثم كان المنطقي عند كافة القوى الدولية هو الجمع بين شرعية الصندوق مع شرعية القوة فوق كرسي واحد، ولكن ما غاب عن منطقهم هو أن الكرسي الواحد لا يسع ليجلس فوقه اثنان، وإذا حصل فسوف يكون الجلوس غير مريح لكلا الطرفين، ومن ثم، سوف ينشأ النزاع، ومن ثم، فلن يدوم الجلوس المشترك.
لم يسقط فاروق لأنه كان معيباً كشخص وكحاكم، فكم طابت الأيام لملوك كلهم معايب شخصية كأفراد، وكم طابت الأيام لملوك كلهم مثالب في التفكير السياسي، وفي تدبير ما عليهم من مسئوليات أمام شعوبهم، لست أدافع هنا عما قيل في الرجل من هجاء، يختلط فيه الباطل بالحق، لكن أدافع عن منطق التاريخ، فعند منتصف القرن العشرين، نضجت الشروط التاريخية؛ ليخرج بديل سياسي عن الأسرة العلوية، بديل من قلبها ومن صلبها ومن ذراعها اليمنى، وهو في الوقت ذاته، بديل من قلب الدولة الحديثة، فمنذ مطلع القرن التاسع عشر كان الجيش واجهة الحداثة وقاطرتها ومضمونها ومحتواها، كانت الفكرة باختصار شديد: لا دولة حديثة دون جيش حديث، هذا الجيش تقدم الصفوف المدنية والشعبية في الثورة العرابية، ثم غاب عن المشاركة في ثورة 1919، حيث كان الاحتلال يستنزف قواه في السودان، ثم كان هو من استكمل في 23 يوليو 1952 الأهداف الوطنية التي تحركت لأجلها الثورتان العرابية ثم ثورة 1919، التاريخ يكمل بعضه بعضا، يبدو لك متقطعا وهو متواصل، يبدو لك متباعداً وهو متقارب، يولد جديدُه من قديمه، يبدو لك سلسلة من المصادفات، وهو في الحقيقة يتحرك وفق منطق داخلي شديد الاتساق.
ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918، وبعد أن بلغ سن الفطام بأيام معدودات، ولد الملك فاروق 11 فبراير 1920، أعظم الرؤساء وأتعس الملوك، رجلان تلتقي عندهما مفاتيح الدولة المصرية الحديثة بخيرها وشرها، لكن تظل الحقيقة الكبرى هي: تغيير الدولة يأتي من داخلها، وليس من خارجها، من داخلها الصميم النابع من عروقها ودمائها والموصول بقلبها وشرايينها وأوردتها الدموية، هي كينونة حية منسجمة متسقة متناغمة.
…………………………
مثلما استكملت الأسرة العلوية حكمها لمصر ثلاثة أرباع قرن إضافية، بعدما تعثرت عند الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كذلك فإن مصر سوف تظل في عهدة الجيش المصري، ربما إلى نهاية القرن الحالي بعد التعثر الذي حدث عند صيف 2012 حتى صيف 2013، وذلك حتى تنضج الشروط التاريخية، بما يكفي لخلق طبقة سياسية ذات جذور اجتماعية اقتصادية ثقافية، تستطيع أن توفر نخباً ناضجة للمهمتين العظيمتين: الحكم الكفؤ الناجح المثمر الرشيد، المعارضة الفعالة المؤهلة للحكم، وذلك دون أن تقع مصر في فراغ سياسي غير مسموح به، ودون أن يأتي البديل من خارج رحم الدولة الوطنية والمشروع الوطني المصري.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.






