منذ أيام صدر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) تقرير حمل عنوان: “نقاط الارتكاز: استمرار تحول مركز الثقل في السياسة العالمية”.
يتناول المشهد الدولي المتطور مع تنامي نفوذ الدول غير الغربية. يركز التقرير تحديدًا على ثماني دول محورية، ويعدها بمثابة قوة متوسطة وقائدة في نظمها الإقليمية، مجادلًا بأن قراراتها ستحدد مستقبل توازن القوى العالمية.
يؤكد التقرير، أن التحول الجيو سياسي المتسارع، الذي يتميز بتناقص القوة النسبية للمراكز التقليدية والنفوذ المتزايد للاقتصادات الناشئة، قد استلزم إعادة التوجيه الاستراتيجي بين القوى المتوسطة المؤثرة، والتي غالبًا ما يشار إليها باسم “الدول المفصلية”. هذه الدول- بما في ذلك البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك وتركيا والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا والإمارات العربية المتحدة- تتميز بقيادتها الإقليمية وتطورها الاقتصادي وموقعها الحرج في التعامل مع المنافسة المتصاعدة بين القوى العظمى- خاصة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. إنهم لا يسعون فقط إلى التعامل مع المشهد الجيو سياسي الحالي، بل إلى تعظيم الاستقلال الاستراتيجي بشكل أساسي.
تدرس هذه المقالة- استنادا إلى التقرير- المناورات التي تستخدمها هذه الدول المحورية لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي، وتسلط الضوء على الدروس الكبرى التي تقدمها سياساتها للقوى الناشئة الأخرى، مثل مصر، التي تسعى هي نفسها إلى تعزيز ثقلها الجيو سياسي داخل إطار الجنوب العالمي المتوسع.
إن الدافع نحو الاستقلال الاستراتيجي بين الدول المحورية ينبع في المقام الأول من عدم الرضا المشترك عن النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب الثانية، والذي يعتبرونه يعكس مصالح وقوى الديمقراطيات الليبرالية الغنية (مجموعة السبع)، مع استبعاد الأغلبية الصاعدة من الدول الأخرى. إن هذا الشعور الجماعي متجذر في مظالم تاريخية راسخة، تتحدى شرعية الهيمنة الغربية.
بالنسبة لدول مثل الهند والبرازيل، فإن الشكوى غالبا ما تتعلق بالاستبعاد من الهياكل المؤسسة للنظام الدولي على الرغم من المساهمات، مثل قتال البرازيل في الجانب المنتصر في الحربين العالميتين، أو قيام الهند بتقديم 2.5 مليون جندي خلال الحرب الثانية. وقد ترجم هذا إلى رغبة مستمرة في “تصحيح الأخطاء المتصورة” في فترة ما بعد الحرب وتحقيق مستحقات طال حرمانهم منها على الساحة العالمية.
بالنسبة لدول مثل جنوب إفريقيا، فإن الذاكرة الراسخة للدعم الغربي لنظام الفصل العنصري وتصنيف المقاتلين من أجل الحرية ضد الفصل العنصري كإرهابيين، يعزز الشكوك العميقة في الدوافع الجيو سياسية للولايات المتحدة، مما يدفع إلى الالتزام بالأخلاق العالمية وتنوع الشراكات. كما أسست إندونيسيا ثقافتها الاستراتيجية على مبدأ مناهضة الاستعمار ومبدأ الدبلوماسية الحرة النشطة؛ لتجنب الصراعات الدولية والحفاظ على السيادة.
بالنسبة لدول الخليج- المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- فإن التقرير يرى أن الطموح وليس الخوف هو الذي يحفز الآن رؤاهم الاستراتيجية المستقلة. إنهم يهدفون إلى تأمين مستقبلهم بعد عصر الهيدروكربون والتخفيف من حدة عدم الاستقرار الإقليمي من خلال تنويع علاقاتهم الدبلوماسية والعمل من موقع قوة، والتخلص من الاعتماد التاريخي على الولايات المتحدة.
إن هذا الشعور المشترك بالظلم، إلى جانب القوة الاقتصادية والديموجرافية المتزايدة، قد منح هذه الدول شعوراً متزايداً بـ “الوكالة”، مما مكن قادتها من التصرف بشكل قوي لتعزيز المصالح الوطنية. إنهم ينظرون إلى “تأطير الجنوب العالمي” والتضامن اللاحق، باعتبارهما طريقًا مباشرًا نحو تعزيز ثقلهم الجيو سياسي وضمان دور أكثر شمولاً في الحوكمة.
إن الشعور المشترك بالظلم بين دول الجنوب تجاه النظام القائم، والتطلع نحو تعزيز الدور المستقبلي هو ما يجمع أو يبلور مفهوم الجنوب العالمي، لكنهم بعد ذلك يفترقون في كل شيء وأي شيء. الجنوب الآن معرف بالسلب، ولا يزال عاجزا عن بلورة تصور استراتيجي، يجمعهم على ما يريدون.
استراتيجية التنويع والموازنة المحسوبة
إن الآلية الأساسية التي تسعى بها الدول المحورية إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي هي سياسة خارجية، تقوم على التنويع المدروس، ورفض الانجرار إلى تكتلات سياسية حصرية. تتضمن هذه الاستراتيجية الحفاظ على علاقات قوية ومباشرة دون وساطة مع جميع القوى العظمى، وغالبًا ما تستخدم الغموض الاستراتيجي أو عدم الانحياز كمبادئ توجيهية.
الانحياز المتعدد الأطراف للهند: تُجسّد الهند هذا النهج من خلال التزامها بـ “الاستقلال الاستراتيجي”، الذي يسمح لها بمواصلة الشراكات المتزامنة مع القوى المتنافسة. تشارك نيودلهي بنشاط في التجمعات التي تقودها الولايات المتحدة مثل الحوار الأمني الرباعي (Quad) وI2U2، مما يدل على مدار موجه نحو الغرب، مع الحفاظ في الوقت نفسه على العلاقات الدائمة والاعتماد العسكري على روسيا. وفي الوقت نفسه، تظل الهند عضوًا نشطًا في مجموعة البريكس ومنظمة شنجهاي للتعاون، اللتين تعملان كثقل موازن للنفوذ الأمريكي. يؤكد القادة الهنود أن البلاد “يحق لها أن تزن مصالحها الخاصة، وتتخذ خياراتها الخاصة”، معتبرين هذا الموقف المتنوع آلية لتعزيز استقلالية السياسة.
الدبلوماسية الحرة والنشطة في إندونيسيا: تلتزم إندونيسيا التزامًا صارمًا بتقاليدها المتمثلة في الدبلوماسية الحرة والنشطة، والتي يجسدها المثل المجازي: “التجديف بين الشعاب المرجانية” ( mendayung antara dua karang ). رفضت جاكرتا بشدة الانحياز إلى أي طرف في منافسة القوى العظمى، ويتجلى ذلك في سياستها تجاه الصراع في أوكرانيا: أدانت إندونيسيا غزو روسيا، لكنها عارضت العقوبات الغربية، واستمرت في شراء النفط الروسي بمستويات ما قبل الحرب. ينبثق نهجها من الرغبة في ضمان “مليون صديق وصفر أعداء”، مستفيدةً من الشراكات مع كل من الصين والولايات المتحدة للاستثمار والتجارة دون المساس بسيادتها أو عدم انحيازها.
الغموض الاستراتيجي لتركيا: بصفتها عضوًا في حلف شمال الأطلسي ومرشحًا اسميًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن “الغموض الاستراتيجي” لتركيا ينطوي على الاستفادة من انتماءاتها الغربية للانخراط مع منافسين غير غربيين من موقع قوة. تُعطي تركيا الأولوية لسياسة خارجية مستقلة ووطنية، تُحسّن هامش المناورة، حتى عندما يتعارض ذلك مع مصالح حلف شمال الأطلسي. ويتجلى ذلك في استغلال الرئيس أردوغان لانضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) لانتزاع تنازلات من أوروبا والولايات المتحدة (مبيعات طائرات إف-16). علاوة على ذلك، تحافظ تركيا على تعاون اقتصادي وعسكري بالغ الأهمية مع روسيا- مثل شراء نظام الدفاع الجوي الروسي S -400- على الرغم من كونها مساهمًا حيويًا في المجهود الحربي لأوكرانيا. هذا النهج المرن القائم على المعاملات يزيد من الاستفادة من جميع الأطراف.
التنويع المدروس في المملكة العربية السعودية: يرى التقرير أنه ربما يكون التحول الاستراتيجي في المملكة هو الدليل الأكثر وضوحًا على إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية على الولاءات التاريخية، وقد برهنت الرياض على ذلك من خلال دفع الصين للتوسط في تقاربها مع إيران في عام 2023، كما تعاونت المملكة مع روسيا في أوبك+ لخفض إنتاج النفط على الرغم من مناشدات الولايات المتحدة، مؤكدةً بذلك على حيويتها الجيو سياسية والاقتصادية التي لا غنى عنها. يسعى هذا الموقف الاستراتيجي، الموضح في رؤية 2030، إلى تنويع العلاقات الدبلوماسية لتحقيق الأهداف الوطنية مثل النمو الاقتصادي وتقليل الاعتماد على الهيدروكربونات.
استغلال القوة الاقتصادية والإقليمية
إن الاستقلال الاستراتيجي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقوة الاقتصادية وتأكيد الزعامة الإقليمية، مما يمنح هذه الدول نفوذًا أكبر على الصعيد العالمي. تستغل الدول المحورية اقتصاداتها المتنامية وسيطرتها على الشؤون الإقليمية؛ لتأكيد السيادة وصد الضغوط الخارجية.
الاستفادة من التنوع الاقتصادي (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة): تهدف خطة رؤية السعودية 2030 إلى تقليل الاعتماد على الهيدروكربونات بشكل كبير، مما يجعل التنوع الاقتصادي عنصراً أساسياً في سياستها الخارجية. تسعى الرياض إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر من كل من الصين والولايات المتحدة، باستخدام صندوق الثروة السيادية الخاص بها للاستثمار عالميًا وتأمين التقدم التكنولوجي، مثل النظر في العطاءات المقدمة من الصين وفرنسا وروسيا لإنشاء محطة طاقة نووية مدنية.
وفق التقرير، فإن الإمارات تستخدم مكانتها كمركز تجاري عالمي ومستودع مالي؛ لتبرير الحفاظ على العلاقات مع جميع القوى، بما في ذلك الترحيب برأس المال الروسي على الرغم من العقوبات الغربية بعد غزو أوكرانيا. ترى الإمارات العربية المتحدة، أن قدرتها على العمل كحلقة وصل حيوية بين الشرق والغرب- باستضافة جاليات وافدة كبيرة والحفاظ على تجارة متنوعة، يجعلها لا غنى عنها، مما يسمح لها “بالتعامل مع منافسات القوى العظمى”.
لا يتعرض التقرير للدور المخرب الذي تلعبه أبوظبي في زيادة عدم الاستقرار، في منطقة تعاني من التدهور الإنساني وتآكل الحكومات وانهيار الدول وسوء الأوضاع الاقتصادية. التقرير صنع أساساً ليخدم السياسة الأمريكية وتعظيم استفادتها من دور الدول المحورية في تعظيم مصالحها، لذا فهو لا يتعرض للدور التخريبي لبعض هذه الدول في أقاليمها.
تأكيد الهيمنة الإقليمية (جنوب إفريقيا والبرازيل): جنوب إفريقيا، التي تمتلك الاقتصاد الأكثر تصنيعًا وتنوعًا في القارة، ترسخ الصناعة المصرفية في إفريقيا، وتعمل كمركز رئيسي للتجارة والتمويل الإقليميين. إنها تستغل دورها القيادي داخل الاتحاد الإفريقي، باعتبارها العضو الإفريقي الوحيد في مجموعة العشرين للدفاع عن البلدان الأقل استدانة، وتعزيز منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) لتعزيز مكانة إفريقيا التجارية العالمية وتقليل الاعتماد على الشركاء غير الأفارقة.
البرازيل بدورها، بدافع السعي إلى أن يُنظر إليها على أنها “دولة جادة”، تضع نفسها كقوة قارية تستحق مكانة أعلى في الشؤون العالمية. سعت برازيليا إلى قيادة إقليمية من خلال مبادرات مثل السوق المشتركة لأمريكا الجنوبية، ومن خلال تعزيز قاعدة بقاء أمريكا الجنوبية منطقة خالية من الأسلحة النووية.
من خلال إظهار السيطرة والنفوذ على مناطقها، تكتسب الدول المحورية مصداقية ووزنًا استراتيجيًا في المحافل العالمية، لكن غالبا ما ينصرف هذا النفوذ والسيطرة لخدمة المصالح الوطنية الضيقة دون بناء أطر إقليمية، تعظم استفادة دول الإقليم.
التكامل الاقتصادي الهجين للمكسيك: تستغل المكسيك قربها من الولايات المتحدة- حيث تمثل التجارة حوالي 88 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي الإجمالي- لتأكيد “الاستقلال ضمن حدود”. وفي حين أنها مندمجة بعمق في النظام الذي تقوده الولايات المتحدة (اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، فإنها تعمل في الوقت نفسه على تعزيز العلاقات مع الجنوب العالمي (من خلال الانضمام إلى مجموعة الـ 77) والقوى غير الغربية. إنها تستخدم الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني (المتركز في الخدمات والتصنيع المتقدم) لجذب فرص النقل القريب مع محاولة إرضاء المخاوف الأمريكية بشأن التوغلات الصينية في سلاسل التوريد في أمريكا الشمالية، مما يُظهر عملية موازنة معقدة، تعمل على تعظيم الفوائد الاقتصادية.
الإصلاح المؤسسي وبناء التحالفات
إن الاستقلال الاستراتيجي لا يقتصر على تحقيق التوازن بين القوى العظمى فحسب؛ بل يتضمن تشكيل البنية العالمية بشكل نشط لتأسيس النفوذ والشرعية. غالبًا ما تسعى الدول المفصلية إلى إجراء إصلاحات داخل المؤسسات القائمة، بينما تعمل في الوقت نفسه على بناء هياكل موازية غير غربية.
البريكس والجنوب العالمي: إن تشكيل وتوسيع مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) هو آلية مركزية لتحدي هيمنة مجموعة السبع وتعزيز عالم متعدد الأقطاب. بالنسبة للأعضاء، توفر مجموعة البريكس منصة بديلة لتنسيق السياسات وتعزيز مصالح الاقتصادات الناشئة.
على سبيل المثال، استضافت الهند “قمة صوت الجنوب العالمي” لتوجيه مخاوف أكثر من 100 دولة إلى أجندة مجموعة العشرين، مؤكدةً بذلك ريادتها بين الدول الأقل ثراءً، ولكنها سريعة النمو. ترى البرازيل في مجموعة البريكس أداةً حاسمةً؛ لتعزيز قوتها ومكانتها ودفع أهدافها الاقتصادية جنبًا إلى جنب مع الهيئات المتعددة الأطراف الأخرى، حتى وإن لم تكن تنوي تعزيز “نظام عالمي منفصل تمامًا”.
دفع إصلاحات الأمم المتحدة: تدعو الدول المحورية باستمرار إلى إصلاح المؤسسات القديمة لزيادة التمثيل. إن الهدف الدبلوماسي البرازيلي هو تحقيق مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وإعادة هيكلة المؤسسات المالية الدولية، معتقدة أن هذا من شأنه أن يشجع على توزيع أكثر عدالة للقوة العالمية. تركيا التي تتفق مع الرأي القائل بأن “العالم أكبر من خمسة” (في إشارة إلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن)، تؤكد أن المؤسسات القديمة تفشل في توفير التمثيل المناسب للجنوب العالمي.
التحالفات المؤقتة والمشاركة المرنة: إلى جانب المؤسسات الرسمية، تستخدم الدول مشاركات مرنة ومتعددة الأطراف؛ لتحقيق نتائج ملموسة، تعزز مكانتها. شاركت الهند مع فرنسا في إنشاء التحالف الدولي للطاقة الشمسية (ISA) لتسهيل نقل رأس المال والتكنولوجيا إلى الدول النامية، وعرض نموذج للتعاون يستفيد من الخبرة الغربية لصالح بلدان الجنوب العالمي. تشارك إندونيسيا بنشاط في مجموعة ميكتا (المكسيك وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وتركيا وأستراليا)، مما يوفر منصة لتعزيز التعاون بين القوى المتوسطة.
إن هذه الترتيبات المؤقتة تبني سجلات واضحة للإنجازات، وتعمل بمثابة انتصارات سياسية على المستوى المحلي ودليل على الشراكة الدولية الفعالة.
باختصار، فإن السعي إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي بين الدول المحورية هو مشاركة معقدة ونشطة، تتسم بالوكالة والتنويع والاستغلال البرجماتي لمواقعها الاقتصادية والإقليمية التي لا غنى عنها. وبالنسبة لقوة ناشئة مثل مصر، فإن الدرس واضح: إن الاستقلال الحقيقي لا يتعزز بالانسحاب والكمون الاستراتيجي- كما طالب أحد الباحثين المصريين، بل بالانخراط المدروس في جميع محاور القوة العالمية، وربط الاستقرار الداخلي والطموح الاقتصادي بلا هوادة بالضروريات الدولية، وبالتالي وضع نفسها كنقطة ارتكاز محورية في النظام العالمي الناشئ.






