مصيدة الحرب بالوكالة.. بين المقامرة والمؤامرة

لم تفلح الضغوط الاقتصادية الأمريكية، التي مارسها الرئيس الأمريكي جونسون، في إثناء جمال عبد الناصر عن سياساته، كما تم اكتشاف محاولات تدبير الاغتيال، عن طريق إحياء تنظيم ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، يقوده سيد قطب، فكان استخدام إسرائيل في شن عدوان على مصر.

يقول ستيف جرين: “بمجيء الرئيس ليندون جونسون، تحولت إلى تأييد كامل لأحد طرفي النزاع. وطرأ هذا الخروج على السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، إلى حرب الأيام الستة عام 1967. ولا يقل عن هذا أهمية المساعدات الدبلوماسية، التي قدمتها لإسرائيل في مجلس الأمن؛ لتأخير وقف إطلاق النار، وبذلك وفرت لها الوقت اللازم للاستيلاء على أراضي ثلاث دول عربية”.

يقول المؤرخ الأمريكي هيو ويلفورد Hugh Wilford: “ماذا حدث؟ ولماذا تحول موقف وكالة المخابرات المركزية من التعاطف تجاه العرب والمسلمين إلى اعتبارهم خصوماً؟ ويجيب على ذلك بأن هناك ثلاثة عوامل محددة، كان لها تأثيرها على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبوضوح هي جزء من التفسير. وأول هذه العوامل الحرب الباردة في الشرق الأوسط والأثر الناجم عنها، على المسئولين الأمريكيين، الذين لجأوا للعمليات السرية للقضاء على الزعماء الوطنيين- الذين يرون أنهم عرضة للخضوع للشيوعية. وكان إصرار واشنطن على الحفاظ على السيطرة على بترول الشرق الأوسط، مما يضعها في تناقض مع الاتجاهات الوطنية في المنطقة، والتي خضعت للاستعمار الفرنسي والبريطاني لما يزيد على قرن، ومن ثم كانوا مُصَرين بنفس القدر على التخلص من النفوذ الغربي، خصوصًا التدخل بواسطة العملاء السريين. كذلك كان الدعم المتزايد لإسرائيل، كظاهرة ترجع جزئياً، لتصاعد ما يسمى باللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة.

وأخيراً يرى أن هناك طرفا ثالثا، يشمل الحكام المحافظين العرب، من حلفاء القوى الغربية الاستعمارية القديمة للعالم العربي، وخاصة بريطانيا، الذين شعروا بتهديد الحركة الوطنية لهم، والذين كما يقول أثبتوا مهارة في إغراء الولايات المتحدة بالدفاع عن النظام الإمبريالي القائم في المنطقة، والضرر الناجم عن قيام صداقة أمريكية مع الوطنيين”.

ويذكر ضابط المخابرات المركزية الأمريكي مايلز كوبلاند في مذكراته، أن عدنان خاشُقجي رجل الأعمال السعودي المرافق للملك فيصل، في زيارته للولايات المتحدة في يونيو عام 1966، قدم للمخابرات المركزية تقريًرا بالغ السرية، “يشير إلى حتمية حصول حرب مصرية إسرائيلية، تتعرض فيها مصر للهزيمة”.

وبدأت سنة 1966، وكل جسور التفاهم مع مصر، التي بناها دوايت أيزنهاور وجون كنيدي، تنهار الواحد تلو الآخر، وعبد الناصر من جانبه قد يئس تمامًا، من تحسين العلاقات مع جونسون، في ظل انحيازه لإسرائيل. ولم يعد الأمر قاصرًا فقط على الضغط الاقتصادي المباشر الأمريكي على مصر، وإنما امتد إلى الدعم العسكري المباشر لإسرائيل، وهو الموضوع الملتهب والمتفجر دائمًا، في وعي كل مواطن عربي. وهكذا كان الموقف في المنطقة في عام 1966؛ علاقات متصاعدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وعلاقات متدهورة بين مصر والولايات المتحدة. وقيادة عسكرية موحدة ما زالت في دور النمو، يقابلها متاعب سياسية ومالية عديدة، وانشغال جزء من القوات المصرية في اليمن. وقيام خلافات عربية، تؤثر على الجبهة الشرقية. وأصبح المسرح السياسي والعسكري مهيأ لإسرائيل للتصعيد عملياتها العسكرية.

السير نحو الفخ

 تضع سلسلة أحداث الفترة من 14 مايو حتى 4 يونيو 1967، علامات استفهام عن تقدير جمال عبد الناصر للموقف. فقد بدأت الأحداث بمعلومات غير صحيحة عن حشود إسرائيلية على الجبهة السورية للاعتداء عليها. وبرغم التأكد من عدم صحة هذه المعلومات بمعرفة الفريق أول محمد فوزي رئيس الأركان شخصيًا، إلا أنه تم حشد قواتنا في سيناء لسبب معلن، هو لمعاونة سوريا في حالة الاعتداء عليها. ثم قررت القيادة السياسية سحب قوات الطوارئ الدولية وإغلاق مضيق العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، وكانت هذه المغامرة تستهدف إيقاف الحملة الإعلامية ضد مصر، ومكانة الرئيس جمال عبد الناصر في الوطن العربي. وبذلك تحولت الأزمة من تهديد إسرائيلي لسوريا إلى أزمة جديدة تمامًا مع مصر، هي حرية الملاحة في خليج العقبة، اتخذتها إسرائيل وأمريكا ذريعة، لتعبئة الرأي العام العالمي ضد مصر. وأصبح الوقت مناسبًا لاستدراج مصر إلى حرب جديدة مع إسرائيل، كانت مستعدة لخوضها تمامًا.  

يقول الدكتور مراد غالب السفير المصري في موسكو: “زار الاتحاد السوفيتي في مارس عام 1966 وفد سوري، يتكون من نور الدين الأتاسي ويوسف زعَيٍن رئيس الوزراء وإبراهيم ماخوس وزير الخارجية وصلاح جديد رئيس حزب البعث وحافظ الأسد وزير الدفاع، عقب الانقلاب الذي قاموا به ضد أمين الحافظ. واستُقبل الوفد استقبالًا حافلًا، وتطرقت المباحثات التي دارت بين الوفدين إلى العلاقة بمصر، ووجه السوفيت الوفد السوري إلى أهمية عقد معاهدة دفاع مشترك مع مصر. وسرعان ما تبنى النظام السوري الجديد موقفًا متطرفًا، وبدأ يدفع بالفدائيين لمنطقة الحولة ومنابع نهر اليرموك ضد الوجود الإسرائيلي حول هذه المناطق، وكانت النتيجة أن يشتد التوتر يومًا بعد يوم.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل كان الاتحاد السوفيتي يسعى لتوريط عبد الناصر في حرب مع إسرائيل باستخدام سوريا؟ مساهما في دفع عبد الناصر لهذا الفخ، بأن تتحرش سوريا بإسرائيل، دون أن تدخل في الحرب. والسبب هو أن الحزب الشيوعي الوحيد في العالم الذي حل نفسه هو الحزب الشيوعي المصري.

وفي إبريل 1967 أي قبل شهرين من العدوان، أسقطت إسرائيل 6 طائرات سورية، ووقع بعض حطامها على دمشق نفسها. وطبعًا طلبت سوريا، بل والعرب جميعًا، أن تهب مصر لنجدة سوريا بعد إسقاط الطائرات”. 

استدعى الملك حسين ملك الأردن في يوم 28 إبريل عام 1967، الفريق عبد المنعم رياض رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة لمقابلة خاصة، حيث وصل للاجتماع به في أول مايو، فأبلغه الملك بأن: “هناك فخا، يدبر للجمهورية العربية المتحدة، وللرئيس جمال عبد الناصر. فهناك محاولة لتوريطهم في حرب مسلحة لا تلائمهم ظروفها. وأن (الجماعة) في سوريا مخترقين، وبعضهم متواطئ مع جهات لديها خططها. والفكرة الأساسية في هذه الخطط الآن هي إشعال الموقف على الجبهة السورية، بما يفرض على مصر أن تقوم بأي عمل لنجدة سوريا، وهنا تصبح مصر هي الهدف الأول للمؤامرة، ويجري ضربها. وهو يريد أن تصل رسالته هذه إلى الرئيس جمال عبد الناصر بأسرع ما يمكن، ويرجو أن يتأكد الرئيس، أن دافعه إليها هو واجبه القومي وليس أي سبب آخر”.

في 13 مايو 1967، ذهب مندوب المخابرات السوفيتية بالسفارة السوفيتية بالقاهرة، إلى مقابلة عاجلة مع مدير المخابرات العامة، لينقل له رسالة من موسكو، عن أن هناك حشودا إسرائيلية بحجم أحد عشر لواءً، تتجمع أمام الجبهة السورية. وفي مساء نفس اليوم تلقى الرئيس جمال عبد الناصر، برقية من موسكو من السفير الدكتور مراد غالب بملخص ما سمعه أنور السادات من الزعماء السوفيت عن الموقف عن الحدود السورية – الإسرائيلية. وفي 14 مايو 1967 كلف المشير عبد الحكيم عامر، الفريق محمد فوزي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، بالسفر إلى دمشق في مهمة؛ للتحقيق ومعرفة مدى صحة المعلومات، التي وصلته من دمشق والاتحاد السوفيتي ودول أخرى، عن الحشد الإسرائيلي على حدود سوريا، فسافر في نفس اليوم إلى دمشق، ومكث بها 24 ساعة، تفقد فيها قيادة جبهة سوريا، وسأل المسئولين العسكريين وقيادة الأركان والجبهة عن صحة المعلومات الخاصة بالحشود الإسرائيلية على الحدود السورية، وكانت النتيجة أنه لم يحصل على أي دليل مادي، يؤكد صحة المعلومات، بل العكس كان صحيحًا، إذ أنني شاهدت صورًا فوتوغرافية جوية عن الجبهة الإسرائيلية، التقطت بمعرفة الاستطلاع السوري يومي 12 و13 مايو 1967، فلم يلاحظ أي تغيير للموقف العسكري العادي. وهذا ما أكده الفريق محمد صادق الذي كان مدير المخابرات الحربية وقتها. وهذا ما ينفي ما ذكرته الدكتورة هدى عبد الناصر، من أن الفريق محمد فوزي سافر إلى سوريا؛ لكي يطلع بنفسه على الموقف، فوجد حشودًا للقوات الجوية الإسرائيلية في أربعة مطارات، وأن اسرائيل لديها 18 مطارًا، وفسر ذلك من وجهة النظر الفنية، أنه يعني الاستعداد للهجوم. وعندما عاد الفريق محمد فوزي للقاهرة يوم 15 مايو، وقدم تقريره للمشير عامر. وسجل انطباعه قائلًا: “لم ألحظ ردود فعل لديه (لدى المشير عامر)، عن سلبية الوضع على الحدود السورية الإسرائيلية. ومن هنا بدأت أعتقد أن موضوع الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا، هو من وجهة نظر المشير عامر، ليس سببًا وحيدًا أو رئيسيًا في إجراءات التعبئة والحشد، التي اتخذتها مصر بهذه السرعة”.

ويقول الفريق أول محمد فوزي: “في حديث شخصي مع الرئيس عبد الناصر عام 1968، عن كيفية اتخاذ قرار غلق خليج العقبة، قال الرئيس، إنه دعا أعضاء اللجنة التنفيذية العليا والمهندس صدقي سليمان رئيس الوزراء عام 1968 في ذلك الوقت، إلى اجتماع يوم 17 مايو عام 1967. وبعد مناقشة الموقف السياسي والعسكري، وسحب قوات الطوارئ الدولية، وتقرير المشير عبد الحكيم عامر بإمكانية احتلال شرم الشيخ، طلب الرئيس عبد الناصر القرار بالتصويت. ووافق الجميع على غلق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية، فيما عدا المهندس صدقي سليمان فقد عارض القرار، حيث أراد فصل موضوع إعادة التمركز في شرم الشيخ، عن موضوع إغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، هنا اعترض المشير بحدة وقال: كيف يمكن لقواتي المتمركزة أن تشاهد العلم الإسرائيلي، يمر أمامها بهذه البساطة، وانتهى الاجتماع عقب هذه الكلمة بدون مناقشة أو دراسة موضوعية وصدر قرار الغلق.

بإعلان مصر غلق خليج العقبة، اعتبارًا من 23 مايو 1967، تحول الصراع من تهديد سوريا وحشد القوات على حدودها إلى غلق الخليج. واتخذ هذا الخبر الصدارة في أخبار العالم، مشفوعًا بحملة إعلامية ضد مصر.

ويقول الفريق أول محمد فوزي: “هذا القرار الذي اتخذ يوم 18 مايو ونفذ يوم 23 مايو، هو الذي قلب حسابات الرئيس جمال عبد الناصر رأسًا على عقب، وكان الذريعة المباشرة لقيام إسرائيل بالهجوم صباح يوم 5 يونيو 1967”.

تلقفت إسرائيل كل هذا، وبدأت دعايتها العالمية، بإثارة شعوب العالم ضد العرب، الذين يريدون الفتك بهم، وقام كثيرون من الإسرائيليين بإرسال البرقيات والخطابات إلى ذويهم ومعارفهم في غرب أوروبا وأمريكا لمساندتهم، وإنقاذهم من العدو الجبار، الذي يريد أن يقضي على شعب مسالم. ولعبت الصهيونية العالمية دورًا كبيرًا في هذا المجال، أدى إلى كسب عطف كل شعوب العالم تقريبًا.

في اجتماع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 2 يونيو، حضره الرئيس عبد الناصر، توقع فيه أن تبدأ الحرب خلال يومين أو ثلاثة على الأكثر. إلا أن الفريق فوزي يقول: “أما المشير، فمن خلال مواقفه في الاجتماع، نستطيع أن نقول، إنه لم يقتنع بتقديرات الرئيس السياسية والعسكرية، كما لم يبال بالإنذار الصريح من الرئيس بميعاد المعركة، وهو 5 يونيو، بدليل أنه استمر في برنامجه المعتاد، وقيامه بزيارة سيناء في نفس اليوم الذي حدده هذا الإنذار”.    

الخداع السياسي الأمريكي

يقول محمود رياض وزير الخارجية في ذلك الحين “في يوم 23 مايو 1967، حضر لمقابلتي ريتشارد منولتي السفير الأمريكي بالقاهرة، والذي لم يكن قد قدم أوراق اعتماده للرئيس جمال عبد الناصر، وكان معه رسالة من ليندون جونسون موجهة للرئيس جمال عبد الناصر، جاء فيها تأكيده على حسن نواياه نحو مصر، ونفيه أن لديه أي اتجاهات غير ودية نحوها. ثم أشاد بجهود عبد الناصر في محال التنمية الاقتصادية. وبعدها تحدث عن أهمية تجنب الحرب، مشيرًا إلى أن المنازعات يجب ألا تحل بالاجتياز غير المشروع للحدود بالقوات المسلحة، ومقترحًا أن يقوم نائبه هيوبرت همفري، بزيارة منطقة الشرق الأوسط. ويضيف لقد أمضيت معظم هذه الأيام الماضية، أفكر في الشرق الأوسط وفي المشاكل التي تواجهونها، والمشاكل التي نواجهها في المنطقة، وقد ذكر لي عدد من أصدقائنا المشتركين، بما فيهم السفير باتل، أنكم قلقون؛ لأن الولايات المتحدة قد أبدت اتجاهات غير ودية تجاه الجمهورية العربية المتحدة، وأود أن تعلموا بصورة مباشرة، أن هذا أبعد ما يكون عن نوايانا. ولقد راقبت من بعد جهودكم لتنمية بلادكم والنهوض بها، وأظنني أفهم كبرياء شعبكم وأمانيه، وتصميمه على أن يدخل العالم العصري، ويشارك بدوره الكامل فيه بأسرع وقت ممكن، وآمل أن نتمكن من إيجاد الوسائل العامة والخاصة على السواء للعمل معًا بطريقة أوثق. كذلك فإني أفهم القوى السياسية، التي تعمل في منطقتكم، وأفهم المطامع وأسباب التوتر، وكذلك الآمال والذكريات”.

 ويضيف محمود رياض: “سألني عبد الناصر، هل تعتقد أن هذه الرسالة تمثل موقفًا حقيقًا من جونسون؟ فقلت: بالتأكيد، فأنا لا أتخيل أن يخدعنا رئيس الولايات المتحدة في خطاب رسمي يوقعه بإمضائه، ويقترح إيفاد نائبه هيوبرت همفري للمنطقة. فكان رد عبد الناصر معترضًا: أنا ما زلت أشعر بعدم الاطمئنان، بل إنني أشك في صدق هذه الرسالة من جونسون. فإذا كانت لديه كل تلك النوايا في الانحياز الكامل لإسرائيل ومعاداتنا لحسابها طوال السنوات السابقة، فهل سيتنكر فجأة لكل ذلك، ويتخذ موقفًا عادلًا بيننا وبين إسرائيل؟ وقد انتهى الاجتماع بيني وبين عبد الناصر عند هذا الحد، ولم تمض سوى أيام قليلة قبل أن أتبين خطأي وصحة شكوك عبد الناصر. بل إن الأحداث سرعان ما أثبتت أن تلك الرسالة من جانب جونسون، كانت في الواقع أكبر عملية خداع يقوم بها رئيس أمريكي على الإطلاق لصالح دولة، وضد دولة أخرى” .

قام عبد الناصر بالرد على جونسون برسالة مطولة، كرر فيها موقفنا من العمل باتفاق الهدنة ومؤكدًا من جديد، أن مصر لن تكون البادئة بالعدوان، وإنه يرحب بزيارة هيوبرت همفري نائب الرئيس الأمريكي للقاهرة في أي وقت. بل إنه زيادة في تأكيد حسن نية مصر، أعلن استعداده لإرسال زكريا محيي الدين نائب رئيس الجمهورية في الحال إلى واشنطن. وقبل إرسال هذه الرسالة استقبل محمود رياض مساء الأول من يونيو 1967، مبعوثًا رسميًا آخر مكلف من الخارجية الأمريكية هو السفير تشارلس يوست، القادم لاستطلاع الموقف، والتأكيد على أن الولايات المتحدة سوف تكون ضد أي طرف، يبدأ بالعدوان المسلح. وفي نفس الوقت، كان جمال عبد الناصر يستقبل مبعوثًا آخر غير رسمي من جونسون هو روبرت أندرسون، لكي يستمع منه لرسالة شفهية من جونسون، يؤكد فيها رسالته الخطية السابقة، ويذكر فيها لعبد الناصر، أن الولايات المتحدة تسعى لحل سلمي للأزمة، وأنها سوف تقف ضد أي طرف، يبدأ بالعدوان المسلح.

ويقول محمود الرياض: “أن تشارلس يوست طلب مقابلتي يوم 3 يونيو على وجه السرعة لإبلاغي بوصول رسالة من جونسون، تفيد باستعداده لاستقبال زكريا محيي الدين في أي وقت. وبادرت أثناء المقابلة لإخطار الرئيس، الذي اتصل بي بعد دقائق ليخطرني باقتراح الخامس من يونيو موعدًا لوصول زكريا محيي الدين إلى واشنطن”. فكان هو اليوم المحدد للعدوان.

بعد رسالة جونسون، كانت أهم الاجتماعات التي قام بها أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل، في وزارة الدفاع (البنتاجون) يوم 26 مايو بحضور وزير الدفاع الأمريكي، ورئيس هيئة الأركان الأمريكية ورئيس هيئة الاستخبارات، حيث بحثوا الموقف، واستمع منهم إيبان لتقديرهم للموقف، ووجد أنهم على اقتناع بأن إسرائيل يمكنها كسب الحرب بسهولة، عندما تبدأ العمليات العسكرية، بصرف النظر عن الطرف الذي سوف يبدأ العدوان، وأن الحرب لن تستغرق أسبوعًا. 

عدل عبد الناصر عن الاستقالة برسالة، وجهها إلى مجلس الأمة يوم 10 يونيو. وانطلق بسرعة وتصميم في إعادة بناء القوات المسلحة، وكانت عملية بالغة الصعوبة بالنسبة له، لأنه فقد صلته بالجيش لسنوات طويلة، ويفتقر إلى المعرفة الشخصية بالعناصر التي تصلح للقيادة. فبعد ظهر يوم 11 يونيو 1967، قام بتعيين الفريق أول محمد فوزي قائدًا عامًا للقوات المسلحة، وإحداث تعديلات واسعة في قيادات الجيش، حيث عين الفريق عبد المنعم رياض رئيسًا للأركان العامة للقوات المسلحة، كما عين أمين هويدي وزيرًا للحربية. وهكذا بدأت مهمة الرئيس عبد الناصر الجديدة منذ 11 يونيو 1967 مباشرة في بناء القوات المسلحة على أسس علمية جادة، لم تحدث من قبل، كما يقول الفريق أول محمد فوزي. وفي 16 يونيو 1967 وصل إلى القاهرة وفد عسكري سوفيتي لبحث المساعدات العسكرية.

كما وجهت القيادة السوفيتية الدعوة إلى جمال عبد الناصر، للتباحث معه في موسكو. ويقول محمود رياض: “عندما نقلت الدعوة إلى عبد الناصر، طلب مني، أن أبلغ السفير السوفيتي، بأنه لا ينوي الذهاب إلى موسكو في الوقت الحاضر، وأن يرى أنه من الأفضل من الوجهة السياسية، حضور أحد القادة السوفييت إلى القاهرة، بدلًا من ذهابه هو إلى موسكو، وأن التقاليد قد جرت في مصر، على أنه إذا حل مكروه يشخص، فإن الأصدقاء هم الذين يفدون إلى داره للوقوف بجانبه”. وهكذا حضر بدجورني إلى القاهرة يوم 21 يونيو 1967، وتم أول لقاء بينه وبين عبد الناصر في تلك الليلة بمنزل الرئيس الذي أقام له حفل عشاء. وتحدث بدجورني عن وقوف الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، بجانب مصر والدول العربية لإزالة آثار العدوان، وأشار إلى أهمية تحقيق ذلك عن طريق الحل السلمي. وافقه عبد الناصر، ولكنه ذكر، أنه حتى يتم ذلك يجب تحقيق توازن عسكري، مما يستلزم سرعة دعم الجيش المصري، بالأسلحة والخبراء الروس، وخاصة في مجال الدفاع الجوي. وفي اليوم التالي، ذكر بدجورني أنه أرسل برقية إلى موسكو ليلة أمس بموضوع الدفاع الجوي المصري، وأنه أبلغ موسكو برغبة مصر في إدخال سفن من الأسطول السوفيتي إلى البحر المتوسط، لكي تتوازن مع سفن الأسطول السادس الأمريكي، الذي تعتبره إسرائيل احتياطي استراتيجي لها. ثم تحدث عن موضوع الدفاع الجوي، فذكر أن وزارة الدفاع في موسكو تقوم حاليًا بدراسة عاجلة لاحتياجات مصر، وأن الاتحاد السوفيتي يرى ضرورة مساعدة مصر بسرعة في هذا الموضوع الحيوي.

وللحديث بقية.. مواجهة العدوان والسياسة الخارجية بين الأداة العسكري والأداة الدبلوماسية.

اقرأ في هذه السلسلة:

على هامش التسريبات: نموذج السياسة الخارجية لثورة 1952 (1)

الحلقة الثانية على هامش التسريبات: نموذج السياسة الخارجية لثورة 1952

على هامش التسريبات: نموذج السياسة الخارجية لثورة 1952 الحلقة الثالثة

على هامش التسريبات: نموذج السياسة الخارجية لثورة 1952 الحلقة الرابعة أهم نتائج العدوان

الحلقة الخامسة على هامش التسريبات: السياسة الخارجية لثورة 1952

على هامش التسريبات: نموذج السياسة الخارجية لثورة 1952 الحلقة السادسة