السجال الحاد حول الشريط السينمائي “الست” يتجاوز موضوعه إلى أهدافه.
حامت الشكوك على شبكات التواصل الاجتماعي، أن هناك “مؤامرة ما” على مصر، قوتها الناعمة، أوزانها المفترضة ومستقبلها المنظور.
السجال بذاته، يؤشر على رمزية “أم كلثوم” في المجتمع العربي، لا المصري وحده.
رغم اختلاف الأزمان وانقضاء الأجيال، فإن إرثها الغنائي ما يزال الأكثر استماعا وتأثيرا في أرجاء العالم العربي، كما لو كان عنوانا إبداعيا مستأنفا، لما تبقى من أحلام وحدة، حلقت ذات يوم، كأنها لم تغب منذ فبراير (1975).
إذا أردنا أن نلخص القوة الناعمة المصرية في رمز واحد، فهو “أم كلثوم”.
في لحظات الهزيمة، كما لحظات الصعود، برزت سيدة الغناء العربي في مقدمة المشهد.
كان ذروة مجدها الدور الذي لعبته إثر هزيمة يونيو (1967).
هبت لدعم وطنها الجريح، قادت حملة ناجحة، تبرعت فيها السيدات ببعض ما لديهن من حلي ذهبية للمجهود الحربي، زارت للغرض نفسه دولا عربية عديدة، غنت على مسارحها، استقبلت كما يستقبل الزعماء العظام بحفاوتين رسمية وشعبية.
في باريس على مسرح الأوليمبيا، عانقت المجد، كما لم يعانقه فنان آخر عربي، أو غير عربي، زحفت إلى العاصمة الفرنسية أعداد كبيرة من الجاليات العربية في المدن الأوروبية، ومن العالم العربي نفسه بالطائرات للاستماع إلى سيدة الغناء العربي.
في لفتة مؤثرة، أرسل لها الزعيم الفرنسي “شارل ديجول” برقية تحية تقدير، قبل أن تغادر طائرتها أراضي بلاده.
كان ذلك مشهدا استثنائيا لخص عصرا كاملا من الغناء العربي والوجدان العربي في لحظة تحد وجودية، أكد أننا أمة عربية واحدة، ذائقتها واحدة وجرحها واحد.
إذا نزعنا ما هو سياسي، عما هو فني يصعب قراءة ظاهرة “أم كلثوم”.
كان صوتها إعجازيا، لكنه لا يلخص وحده ظاهرتها الفريدة.
إنها فتاة ريفية فقيرة من دلتا مصر، علمت نفسها بنفسها، وشقت طريقها في الصخر بموهبتها وحدها.
في المسلسل التلفزيوني “أم كلثوم” حاول السيناريست الكبير الراحل “محفوظ عبد الرحمن”، بثقافته التاريخية وموهبته الدرامية، أن يمسك بخيوط قصة نجاحها للإجابة على سؤال واحد: كيف تمكنت رغم ظروفها القاسية، من أن تصل إلى المكانة الاستثنائية التي وصلت إليها؟
قصة نجاحها بذاتها ملهِمة لقدرة الإنسان على التحدي وتذليل كل الصعاب.
منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حمل أثير الإذاعة المصرية عبقرية صوتها إلى كل مكان في العالم العربي.
لا يمكن إنكار دور صوتها، الذي لا يدانيه صوت آخر، في توحيد العالم العربي أمام التحديات الوجودية التي كانت تعترضه خمسينيات وستينيات القرن الماضي؛ طلبا للتحرر الوطني والاستقلال والوحدة.
إذا كان “جمال عبد الناصر” يلخص بسياساته ومعاركه الزعامة السياسية للفكرة العروبية، فإن “أم كلثوم” لخصت الزعامة الفنية للفكرة نفسها.
لم تكن “أم كلثوم” وحدها، لكنها كانت العنوان الأبرز لمصر الكبيرة بأدوارها وأوزانها في عالم جديد، قبل أن تحل عليه الإحباطات المقيمة.
منذ أن طرأت فكرة إنتاج شريط سينمائي جديد عن “أم كلثوم”، ثارت شكوك واسعة، من أنه قد ينال من صورتها وإرثها ورمزيتها لأهداف سياسية في المقام الأول.
لا توجد شخصية عامة مقدسة، وليس هناك ما يمنع من التطرق دراميا لأية مناطق مجهولة.
تشويه التاريخ بالقصد والتعمد قضية أخرى.
لم تكتسب “أم كلثوم” نفوذها الأدبي من سلطة، أيا كانت تلك السلطة، وساعدها ذكاؤها في تطوير قدراتها وملاحقة العصور المتغيرة.
حافظت على صداقاتها، إذا ما تغيرت العصور والأحوال.
“فيها شهامة الريف المصري”- بتعبير الأستاذ “محمد حسنين هيكل“.
أوائل خمسينيات القرن الماضي، منع أحد الرقباء بالجهل والتعسف إذاعة أغنيتها “ولد الهدى” على أثير “صوت العرب”، بحجة أن الثورة ألغت الملكية وألقاب الأمراء في اعتراض، على كلمات وردت في القصيدة المغناة لأمير الشعراء “أحمد شوقي”!
ثم بدا له، أن يلغي سجلها الغنائي كله من البث على بقية الموجات الإذاعية؛ بدعوى أنها تنتسب لـ”العهد البائد” على ما روى “أحمد سعيد” مؤسس “صوت العرب” في مذكرات غير منشورة.
كان ذلك نذيرا، أن تخسر ثورة يوليو سمعتها واحترامها عند خطوط البداية.
بنص توبيخ “جمال عبد الناصر” للمسئول العسكري عن الإذاعة: “لم يتبق أمامك، غير أن تذهب بجنودك لهدم الهرم الأكبر، فهو أيضا من العهد البائد”.
لم يكن ذلك التعبير رمزيا، بقدر ما كان تلخيصا لنظرته إلى “أم كلثوم” هرما أكبر يلهم صوتها الوجدان المصري والعربي المشترك.
كان هو نفسه مفتونا بصوتها، يحفظ أغانيها، ويرددها كلما أتيحت الفرصة أمامه أن يختلي بنفسه.
ثم أنه كان يدرك أهمية الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه الفن في كسب القلوب إلى القضايا الكبرى والمعارك التي تنتظر البلد.
التقت حنجرة سيدة الغناء العربي “أم كلثوم” بألحان موسيقار الأجيال “محمد عبد الوهاب”- لأول مرة- في أغنية “أنت عمري” بطلب من “عبد الناصر”.
شارع شبرا توقفت حركة المرور فيه، والمصريون انشغلوا يومها بالحدث الفني، الذي وصفه الناقد الفني الراحل “جليل البنداري” بـ”لقاء السحاب”.
“عبد الناصر” استمع للأغنية من راديو سيارته، وهو متوجه لاستراحة برج العرب بالإسكندرية.
لزم أولاده الصمت، ولم يتبادلوا الحديث في الرحلة على الطريق.
في الخميس الأول من كل شهر كان يستمع- بمفرده- لحفلة “ثومة” المذاعة على الهواء مباشرة أثناء قراءة التقارير الرسمية والصحف، شأن أي مواطن عربي آخر من المحيط إلى الخليج.
عندما لا تمكنه ظروفه من سماعها، يطلب الشرائط من الإذاعة– كما روى لي صديقي الراحل الدكتور “خالد عبد الناصر”.
ظاهرة “أم كلثوم” بكامل تجلياتها تبدت أثناء زيارة باريسية لفرقة موسيقى عربية، أسسها المايسترو “سليم سحاب” في بيروت قرب منتصف سبعينيات القرن الماضي.
أثناء انتقال الفرقة على إحدى الحافلات، أخذ الموسيقيون الشبان ينشدون أغنية “أم كلثوم”: “على بلد المحبوب وديني” من كلمات “أحمد رامي” وتلحين “رياض السنباطي”.
تصادف أن كان أغلب ركاب الحافلة العامة مغاربة، فأخذوا بدورهم يلعبون دور الكورس.
بتوصيف “سليم سحاب”، فإن تلك الواقعة التي جرت بالمصادفة تلخص على نحو فريد وحدة الوجدان العربي، فالفرقة لبنانية والكورس مغربي والأغنية مصرية.
قوة حضور وإلهام “أم كلثوم” الممتد كظاهرة سياسية وفنية– هنا- بالضبط.






