لم يأتِ إعلان المبادئ السوداني الذي تم توقيعه في نيروبي بين عدد من القوى السياسية والمدنية والحركات السودانية في لحظة عادية من تاريخ الصراع، بل جاء في ذروة الانسداد السياسي والعسكري، حيث بدت الحرب، وقد تحولت من مواجهة على السلطة إلى تهديد وجودي لبنية الدولة نفسها. ومن ثم، فإن قراءة هذا الإعلان لا ينبغي أن تُختزل في كونه بيانا سياسيا جديدا، يضاف إلى أرشيف طويل من الوثائق، بل باعتباره محاولة واعية لإعادة بناء مركز ثقل مدني– سياسي في مواجهة منطق السلاح، وإعادة طرح سؤال الشرعية: من يتحدث باسم السودان، وبأي مضمون، وفي أي توقيت؟

الإعلان في جوهره يعكس إدراكا متأخرًا، لكنه ضروري، بأن غياب مظلة سياسية مدنية واضحة ترك الساحة مفتوحة أمام الفاعلين العسكريين والإقليميين لفرض أجنداتهم، وأن أي حديث عن وقف الحرب أو عن تسوية سياسية يظل هشا، ما لم يستند إلى مرجعية سياسية، يمكن التعاطي معها بوصفها تعبيرا عن إرادة وطنية، لا مجرد تجميع نخبوي معزول عن الواقع الاجتماعي.

في هذا السياق، يكتسب التوقيت دلالة خاصة. فالإعلان جاء في لحظة تزايدت الضغوط الدولية المرتبطة بالكلفة الإنسانية للحرب، واتسعت الفجوة بين المجتمع السوداني المنهك وبين نخب سياسية بدت لفترة طويلة عاجزة عن إنتاج خطاب موحد. من هنا، يمكن فهم إعلان نيروبي كمحاولة لالتقاط نافذة ضيقة بين فشل السلاح وعجز الوساطات، عبر إعادة طرح السياسة كمسار ممكن، وإن كان محفوفا بالمخاطر.

اللافت في الإعلان ليس فقط مضمونه، بل ما يحاول أن يتجاوزه. فهو يسعى إلى تجاوز ثنائية الاستقطاب التي حكمت المشهد منذ اندلاع الحرب: إما الانحياز الكامل للمؤسسة العسكرية باعتبارها «الدولة»، أو الوقوف في موقع أخلاقي مجرد، لا يمتلك أدوات التأثير. الإعلان يحاول أن يشق مسارا ثالثا، يربط بين مطلب وقف الحرب، واستعادة المسار الانتقالي، وإعادة تعريف علاقة المدني بالعسكري على أساس جديد، لا يقوم على الشراكة الشكلية ولا على الإقصاء الكامل.

غير أن هذه المحاولة تصطدم مباشرة بتعقيدات الداخل السوداني، وبالأخص بمواقف القوى السياسية المختلفة من الإعلان. فالقوى المدنية التي انخرطت في التوقيع، ترى فيه فرصة لإعادة تجميع صفوفها، واستعادة زمام المبادرة السياسية بعد شهور من التراجع أمام منطق القوة. لكنها في الوقت ذاته تدرك هشاشة هذا التوافق، سواء بسبب الخلافات التاريخية بين مكوناتها، أو بسبب محدودية قدرتها على التأثير في ميزان القوة الميداني.

أما الحركات المسلحة المشاركة، فهي تنظر إلى الإعلان من زاوية مختلفة قليلا بالنسبة لها، يشكل النص فرصة لإعادة إدراج قضايا الهامش، والعدالة، وإعادة هيكلة الدولة ضمن جدول الأعمال السياسي، بعد أن كادت الحرب، أن تبتلع هذه القضايا لصالح صراع ثنائي بين قوتين عسكريتين. لكن هذه الحركات، بحكم خبرتها الطويلة مع الاتفاقات غير المنفذة، تدرك أن القيمة الحقيقية لأي إعلان لا تكمن في لغته، بل في قدرته على خلق التزامات قابلة للتنفيذ، وضمانات تمنع تكرار سيناريوهات الإقصاء أو التهميش بعد انتهاء القتال.

في المقابل، كان موقف التيار الإسلامي السوداني– بمختلف تفرعاته– الأكثر حدة ورفضا. فالإعلان يُقرأ داخل هذا التيار بوصفه محاولة لإعادة إنتاج معادلة إقصائية، تستهدف الإسلاميين سياسيًا، وتغلق الباب أمام عودتهم إلى المجال العام عبر بوابة الانتقال المدني. هذا الرفض لا ينطلق فقط من اعتبارات أيديولوجية، بل من مخاوف عملية تتعلق بالمحاسبة، وبإعادة توزيع النفوذ الاجتماعي والسياسي، وبفقدان ما تبقى من شبكات التأثير التي راكمها الإسلاميون على مدى عقود.

غير أن تجاهل هذا الموقف أو التعامل معه، باعتباره عائقا ثانويا، قد يكون خطأً استراتيجيا. فالإسلاميون، رغم تراجعهم، وانقساماتهم ما زالوا يمتلكون حضورا اجتماعيا وشبكات محلية، يمكن أن تستثمر سلبا أو إيجابا في مساري الحرب أو السلام. ومن ثم، فإن أي مسار سياسي لا يأخذ في الاعتبار كيفية إدارة هذا الرفض، سواء عبر الاحتواء المشروط أو عبر تحييده، سيظل عُرضة للاهتزاز، خصوصا في البيئات المحلية الهشة.

على مستوى مواز، يطرح إعلان نيروبي سؤالا جوهريا حول العلاقة بين السياسة والمسدس في السودان. هل يمكن لنص سياسي، مهما بلغ مستوى التوافق حوله، أن يؤثر في مسار حرب تدار بمنطق الغلبة الميدانية؟ الإجابة الواقعية هي أن الإعلان بمفرده لا يملك القدرة على وقف الحرب. لكنه قد يساهم في إعادة تشكيل البيئة التي تدار فيها الوساطات، عبر تقديم مرجعية مدنية يمكن للمجتمع الدولي والإقليمي التعاطي معها، وربط أي دعم أو ضغط مستقبلي بسقف سياسي واضح.

هنا تتقاطع أهمية الإعلان مع تقديرات الدوائر الغربية، التي تميل إلى التشكيك في جدوى المقاربات التي تركز حصريا على التفاوض بين القادة العسكريين. هذه التقديرات تشير إلى أن غياب مظلة سياسية مدنية يزيد من احتمالات إنتاج تسويات قصيرة العمر، أو هدنات هشة سرعان ما تنهار. من هذا المنظور، يمكن اعتبار إعلان نيروبي محاولة لسد هذه الفجوة، لا كحل نهائي، بل كشرط لازم لأي مسار تفاوضي أكثر استدامة.

غير أن نجاح هذا الدور مشروط بقدرة الإعلان على التحول من نص جامع إلى عملية سياسية. وهذا يتطلب، أولا، توسيع قاعدة التوافق لتشمل قوى لم توقع. ويتطلب ثانيا، ربط المبادئ العامة بخطوات إجرائية واضحة، تحدد كيف يمكن الانتقال من وقف إطلاق النار إلى ترتيبات أمنية انتقالية، ثم إلى عملية سياسية شاملة. كما يتطلب ثالثا، تنسيقا دقيقا مع الفاعلين الإقليميين والدوليين، بحيث لا يتحول الإعلان إلى مجرد وثيقة، تُستدعى عند الحاجة الخطابية، ثم تُهمَّش عند لحظة القرار.

في هذا الإطار، يبرز سؤال تداعيات الإعلان على المعادلات الداخلية. فمن ناحية، قد يسهم في إعادة رسم خريطة التحالفات المدنية، وخلق اصطفافات جديدة، تتجاوز الانقسامات التقليدية. ومن ناحية أخرى، قد يدفع قوى رافضة سواء إسلامية أو عسكرية، إلى التشدد أو إلى البحث عن مسارات بديلة لإجهاض أي مسار سياسي، لا يخدم مصالحها. هذه الازدواجية تجعل من الإعلان أداة ذات حدين: إما أن يصبح منصة لتجميع الإرادة السياسية، أو يتحول إلى عامل إضافي في تعميق الاستقطاب.

أما فيما يتعلق بقدرته على المساهمة في وقف الحرب، فيمكن القول إن دوره سيكون غير مباشر بالأساس. فالإعلان قد يرفع كلفة استمرار القتال سياسيا وأخلاقيا عبر إعادة تسليط الضوء على وجود بديل مدني منظم. وقد يمنح الوسطاء الدوليين أداة ضغط إضافية، حين يصبح بالإمكان القول إن هناك تصورا سياسيا متوافقا عليه جزئيا، وليس فراغا سياسيا كاملا. لكن تحويل هذه الإمكانية إلى واقع يظل مرهونا بإرادة الفاعلين المسلحين، وبمدى استعداد الأطراف الدولية لاستخدام أدوات ضغط حقيقية، لا الاكتفاء بالدعوات العامة.

إجمالا: لا يمثل إعلان المبادئ السوداني في نيروبي نهاية لمسار، بل بدايته المحتملة. هو محاولة لإعادة السياسة إلى ساحة أُخرجت منها قسرا بفعل السلاح، ومحاولة لإعادة تعريف النقاش حول الحرب من سؤال «من ينتصر؟» إلى سؤال «كيف تحكم الدولة بعد أن يتوقف القتال؟». نجاح هذه المحاولة ليس مضمونا، لكنه يظل ضروريا في لحظة بات فيها غياب السياسة أخطر من فشلها. وبين الدلالة والتوقيت، يقف الإعلان كاختبار جديد لقدرة النخب السودانية على التعلم من إخفاقاتها، والانتقال من رد الفعل إلى الفعل، ومن البيانات إلى المسارات.