تتسم أراضي طرح النهر في العالم كله بأهمية خاصة، باعتبارها مناطق مرنة استثماريًا، يمكن استغلالها في أنشطة متنوعة تدر عائدا اقتصاديًا، دون أن تفقد قيمتها البيئية والصحية بالوقت ذاته، وذلك باستغلال مساحات منها، كمتنفس لقاطني المدن التي تحتضنها ووسيلة ترفيهية رخيصة.
أراضي طرح النهر هي المناطق المنخفضة ما بين مجرى نهر النيل والطرق وسطح الأرض المحيطة، ولا يفصلها عن المياه سوى أقل من نصف متر، ما يجعلها الأكثر عرضة للغرق مع أي زيادة في المنسوب، وهي المنطقة التي استغلتها الدولة في مشروع “ممشى أهل مصر” قبل ثلاثة أعوام.
وأعلنت الحكومة أخيًرا، حصر أراضي طرح النهر بالكامل؛ تمهيدًا لتحديد النشاط المناسب لكل قطعة أرض محل الحصر سواء باستغلالها ذاتيًا، أو بالشراكة مع القطاع الخاص لتعظيم أصول الدولة، وقال رئيس الحكومة مصطفى مدبولي نصًا، إن مصر لديها أراضي كثيرة غير مستغلة تقع على النهر أو مستغلة في أنشطة لا تليق بمكانة المنطقة.
أضاف أنه يجري العمل حاليًا على تقييم هذه الأراضي من قبل مُقَيمين عقاريين معتمدين لمعرفة القيمة السوقية لتلك الأصول قبل الدخول في شراكات حولها، مضيفًا أن أراضي طرح النهر جزء من النيل، ولا يجوز البناء عليها أو زراعتها.
أثار حديث مدبولي حول الشراكات مخاوف من دخول رأس المال الخليجي الذي تمثل له الأراضي القريبة من أي مياه، حتى لو كانت طرح النهر فرص استثمارية، ولها بالفعل استثمارات سياحية قائمة على النيل من أهمها فندق الديار القطرية الضخم القريب من ميدان عبد المنعم رياض.
وتلقى الصندوق السيادي عروضاً من 11 تحالفًا استثماريًا للمنافسة على تطوير أرض “الحزب الوطني” المنحل في ميدان التحرير، بينها تحالف يضم مجموعة “الشعفار” الإماراتية والشركة “السعودية المصرية للتعمير” الذي سبق أن انسحب في أغسطس 2024، بسبب ارتفاع تكاليف تنفيذ المشروع الحكومي الذي يتضمن إنشاء برجين أحدهما فندقي والآخر سكني. يضم البرج الأول وحدات فندقية وإدارية وتجارية بارتفاع 75 طابقاً، أما الثاني فتم تخصيصه لإقامة برج سكني يضم 446 وحدة سكنية فاخرة بارتفاع 50 طابقاً.
كيف يفكر العالم في طرح النهر؟
تمثل تجربة أراضي نهر التيمز في بريطانيا نموذجاً، يمكن للدولة المصرية انتهاجه في تفكيرها لتطوير الأراضي الملاصقة للنهر، إذ عملت لندن على تقسيمه لمناطق لكل منها أنشطة مختلفة حسب كل منطقة، واستغلالها كمورد اقتصادي، من أهمها السياحة حتى أن ۳۰% من الزيارات والجولات السياحية في لندن تقوم على المعارض والخدمات والمزارات الموجودة على “التيمز”.
استراتيجية التطوير اللندنية جعلت النهر موطنًا لـ120 نوعًا مختلفًا من الأسماك، فضلًا عن حيوانات أخرى، ويُزوّد العاصمة بـ90% من احتياجاتها المائية، كما يضم ثاني أكبر ميناء في المملكة المتحدة، حيث يُعالج أكثر من 40 مليون طن من البضائع سنويًا. كما أصبح النهر وسيلة شائعة للتنقل بالعاصمة، لا سيما مع خدمة الحافلات النهرية الشهيرة.
في الصين، توجد تجربة أخرى بتطوير نهر “هوانج بو” عبر توسعة كورنيشه وربطه بالمحاور الرئيسية والميادين بالمدينة وتوفير الساحات العامة لتجمع الأفراد، وتم مراعاة اتصالها بهذه المحاور الرئيسية والميادين وتوفير المتنزهات والحدائق لاستيعاب الكثافة السكانية العالية على ضفاف النهر، وذلك باعتباره المتنفس الرئيسي الأوحد لسكان المدينة، مع توفير النفاذية البصرية والمادية بين مستخدم المكان ومياه النهر.
على ضفاف نهر الهانج بو، أنشأت الصين منطقة تجارية حرة بها معارض للمنتجات التي سيتم تصديرها بالإضافة إلى متنزه تكنولوجي، وإنشاء وحدات سكنية جديدة، وتطوير المباني التراثية بطريقة تؤكد أهميتها، وإقامة مرسى للمراكب الصغيرة، وتوسعة طرق المشاة.
في مشروع إعادة تنمية نهر نيرفيونببلباو بإسبانيا، كان التركيز على تحسين الغابات النهرية لضمان استمراريتها، وكثافتها، وتكوينها، وزراعة حوالي 7000 شجرة وشجيرة، والحد من الارتفاعات العالية على مجرى النهر، وتطوير وسائل المواصلات كالزوارق والمراكب الشراعية، واستعمالات جديدة للمناطق والمساحات الشاغرة، بما يخدم قطاعات عدة ومن ضمنها السياحة، خاصة السياحة الثقافية والمراكز التعليمية، مثل مراكز البرمجيات والموقف “البارك” التكنولوجي وسياحة المؤتمرات والموسيقى.
ما العوامل الأساسية لتطوير الأراضي الملاصقة للأنهار عالميا؟
تتضمن خطط تطوير الأنهار عالميًا العديد من القواعد التي لا يتم الاستغناء عنها، أهمها: احترام الطابع العمراني للمناطق والمباني ذات القيمة في تنسيق محاور الكورنيش على ضفاف النهر، والحفاظ على المناطق ذات الطبيعة الخاصة على ضفاف النهر (مناطق قوارب الصيد).
من القواعد الأساسية أيضًا تنظيم الارتفاعات للمباني الواقعة على الضفاف المائية ووضع الاشتراطات والحدود القصوى في بعض المناطق لضمان النفاذية البصرية والمادية للمباني الهامة والعلامات المميزة من كافة أنحاء المدينة، وعمل نقاط جذب Anchors على طول الضفاف.
وعلى مستوى الاستغلال الاقتصادي، كانت الأفكار الرئيسية بتوطين المشروعات المتوافقة لطبيعة النهر على ضفافه، وتوطين الاستعمالات المتوافقة مع طبيعته في الأدوار السفلية للمباني على جانب الطريق عبر زيادة ارتفاعاتها عبر بناء طوابق تحت الأرض بها لأنشطة اقتصادية مع إمكانية وضع رؤية زجاجية لقاع النهر من الداخل، بجانب وسائل النقل النهري للبضائع والأفراد والأنشطة الترفيهية.
كان البعد البيئي المتعلق بمنح المواطنين متنفسًا حاضرًا في تلك المشروعات بزيادة طول محيط المسطحات المرتبطة بمياه النهر، وتوسعة الكورنيش في الأماكن ذات الإمكانية، والتوسع في اقامة الحدائق والمتنزهات وربطها بشبكة خضراء متصلة على ضفاف النهر، واقامة المتنزهات ذات الأنشطة المتخصصة (حديقة الموسيقى– حديقة الفنون)، والعمل على إنفاذ الهواء إلى داخل الكتلة العمرانية عن طريق فتح منافذ للتهوية، واستغلال أسطح المباني على ضفاف النهر.
كيف تفكر الحكومة؟
نأتي لمصر، التفكير الحكومي مُنصب على الشق السياحي والتجاري أكثر من البعد البيئي، وهو ما ظهر جليا في مشروع ممشى أهل مصر الذي تم تنفيذ 3 مراحل منه بطول 5 كيلو مترات على النيل من كوبري إمبابة إلى كوبري الساحل ومن كوبري 15 مايو إلى كوبري قصر النيل، والذي واجه تحديات في التنفيذ أهمها وجود تعديات على مسار المنطقة.
بحسب البيانات الحكومية، بلغ عدد الزائرين لممشى أهل مصر 300 الف زائر، واستطاع جذب العلامات التجارية التي بلغت نحو 35 علامة دولية، وتوفير مساحات آمنة ومهيأة لاستقبال العائلات والشباب، ودعم الأنشطة الإبداعية المختلفة.
وسبق أن طالب رجل الأعمال نجيب ساويرس، بأن يتم استغلال أرض مبنى الحزب الوطني القديم، التي تبلغ مساحتها نحو 16.5 ألف متر مربع، وتطل على نهر النيل كحديقة عالمية، تضع نقطة خضراء في المستنقع الأسمنتي لوسط القاهرة والكورنيش.
مع عزم الحكومة تطوير منطقة وسط البلد، وهي المنطقة التي تمثل محور التطوير حاليًا، أبدى رأس المال الخليجي كالمعتاد رغبته في اقتناص الفرصة، إذ أعلن تحالف سعودي مصري استثمار ما يصل إلى مليار دولار في مشروع عقاري بمنطقة وسط البلد بالقاهرة، بحسب أحمد الهاشمي رئيس قطاع تطوير الأعمال في شركة “سمو” القابضة، موضحاً أن التحالف يضم شركات “سمو القابضة” السعودية، و”أدير العالمية”، و”ميدار” و”حسن علام” المصريتين.
كما قال رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار، إن منطقة وسط البلد بالقاهرة تمثل أولوية خاصة في استثماراته المقبلة، فقلب العاصمة بما يحمله من قيمة حضارية وتاريخية يشكل فرصة استثنائية لإطلاق مشروعات عمرانية وتجارية وخدمية قادرة على إعادة رونق المنطقة وتعزيز مكانتها.
هل يوجد تسليع للترفيه؟
بحسب خبراء، فإن المخاوف من ملف أراضي طرح النهر يتمثل في “تسليع الترفيه”، فصحيح أن تلك المشروعات ستغير وجه المنطقة للأفضل، لكنها تحرم الطبقات الأقل ماليا من القدرة على التنزه المجاني على كورنيش النيل، ضاربين المثل بحديقة الفسطاط القديمة التي كانت بدائية، لكن مجانية وبعد التطوير ستكون الخدمات وتجربة التنزه أفضل، لكن التذكرة ستكون فوق قدرات الطبقات الأقل.
تؤكد دراسة تحمل عنوان “إعادة التفكير في الفضاء العام في القاهرة” أن الأنشطة الموجودة على ضفاف النيل، التي يتمّ استخدامها من قبل المؤسسات الخاصة والمطاعم والنوادي، والقوارب العائمة تجعل المساحة المتاحة لعامة الناس محدودة للغاية، بالنظر إلى طول ضفاف النهر.
يقول الباحث المتخصص في العمران المستدام أمير جوهر، إنه من المفترض أن كل النيل متاح، لكنّ الحواجز الاجتماعية والاقتصادية مع الحواجز القانونية تمنع الناس من الوصول، فاستغلال ضفة النيل كمشروع عقاري، يحرم المقيمين بالمدينة والمارة من رؤيته؛ لأن أغلب العقارات المقامة عليه تصل أعداد الطوابق فيها إلى 40 طابقاً، ما يعكس اعتبار المطور العقاري- بحسب جوهر- للنيل كإطلالة، وليس مساحة للتفاعل.
ما يثير المخاوف، أيضًا سحب العديد من الأراضي المملوكة لجهات عامة، كالمنطقة المخططة لتطوير مستشفيات قصر العيني بجزيرة الروضة والمسرح العائم، وحديقة أم كلثوم، وكلية السياحة والفنادق.
وسبق أن تقدمت مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب سابقًا ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب إحاطة موجه لرئيس مجلس الوزراء، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، ووزير الثقافة، وذلك بشأن القرار الخاص بسحب جميع أراضي طرح نهر النيل التابعة للدولة بنظام حق الانتفاع من منطقة شبرا، وحتى منطقة حلوان وإخلاء ما عليها من منشآت.
وقالت في طلب الإحاطة: “في الوقت التي تتحدث فيه الحكومة عن أهمية التعليم والثقافة ودورهما في بناء مستقبل مصر، نتفاجأ بقرارات، تعكس تناقضًا صارخًا مع هذه الشعارات التي نرى أنها لا تعدو كونها شعارات رنانة التي تتغنى بها الحكومة”.
لا أحد يعارض تطوير أراضي طرح النهر، باعتبارها محركا أساسيًا لتطوير حركة السياحة وتطوير المنظر والرؤية “الفيو” أمام المناطق المنتشرة أمام نهر النيل، لكن يبقى الجدل بشأن نقطتين أولهما قدرة الطبقات المتوسطة والفقيرة على الاستفادة من ذلك التطوير، والحديث عن دخول رأس المال الخليجي للمنطقة.






