لا يمكن مقاربة الأزمة السودانية الراهنة من زاوية عسكرية أو سياسية ضيقة، دون الوقوف عند التحولات العميقة التي أصابت بنية الخطاب العام في السودان بوصفه أحد أخطر ميادين الصراع وأكثرها تأثيرًا في إعادة تشكيل المجتمع والدولة معًا. فالحرب الدائرة منذ إبريل 2023 لم تخلق خطاب الكراهية، بقدر ما كشفت عن جذوره البنيوية، ودفعت به إلى الواجهة بوصفه أداة مركزية في التعبئة والفرز الاجتماعي وإعادة تعريف الانتماء والعداء. وفي هذا السياق، لم يعد العنف مقتصرًا على الميدان العسكري، بل تمدد ليشمل الفضاء الرمزي واللغوي، حيث تحوّلت اللغة نفسها إلى سلاح يُمارَس به الإقصاء والتشهير ونزع الشرعية، في مشهد يعكس انهيار المجال العام وتآكل العقد الاجتماعي. يسعى هذا التحليل إلى تفكيك هذه الظاهرة عبر تتبع جذورها التاريخية وآليات اشتغالها في سياق الحرب وانعكاساتها على الدولة والنخب وإمكانات الاستقرار.

الجذور التاريخية والبنيوية:

لم ينشأ خطاب الكراهية في السودان بوصفه انحرافًا طارئًا أو نتاجًا مباشرًا للحرب الأخيرة، بل تشكّل عبر مسار طويل من التراكمات التاريخية والثقافية والسياسية التي فشلت الدولة السودانية في معالجتها منذ الاستقلال. فقد قامت الدولة الحديثة على إدارة قسرية للتنوع دون إنتاج سردية وطنية جامعة قادرة على استيعاب التعدد الديني والعرقي والثقافي، ما أفسح المجال لخطابات التمييز؛ كي تتغلغل في البنية الاجتماعية. وتجلّى هذا الفشل بأوضح صوره خلال حقبة حكم نظام عمر البشير، حيث جرى توظيف الدين بوصفه أداة تعبئة سياسية وعسكرية، وأُعيد تعريف الحرب في الجنوب في إطارعقدي يصوّر الصراع بوصفه مواجهة بين الإيمان والكفر. وقد أسهم هذا الخطاب في نزع الإنسانية عن فئات كاملة من المجتمع، وشرعنة العنف ضدها، وإعادة إنتاج الذاكرة الاستعمارية والتراتبية العرقية ضمن خطاب وطني زائف.

إلى جانب الدولة لعبت الثقافة المحلية دورًا بالغ الأهمية في ترسيخ البنية الذهنية للتمييز عبر منظومات التفاخر القبلي وسرديات النسب والأصل والبطولات التاريخية التي نُقلت عبر الأدب الشفهي والفنون الشعبية. هذه السرديات وإن بدت في ظاهرها تعبيرًا عن هوية ثقافية، إلا أنها أسهمت في إنتاج صور نمطية متبادلة بين المجموعات الاجتماعية، ورسّخت منطق التفاضل والوصم، ما جعلها قابلة للاستدعاء السياسي في لحظات الأزمات. وقد أدى هذا التداخل بين خطاب الدولة والثقافة إلى تفكيك بطيء للنسيج الاجتماعي أسس لبيئة قابلة للاشتعال مع أول اختبار عنيف شامل.

تحوّل الخطاب إلى عنف رمزي

مثّلت حرب الخامس عشر من إبريل لحظة انفجار تاريخي، جمعت مختلف أشكال التمييز والإقصاء في فضاء واحد، وحوّلت خطاب الكراهية في السودان من ممارسة كامنة إلى أداة مركزية في التعبئة والحشد. ومع توسع الحرب، لعب الفضاء الرقمي دورًا حاسمًا في تسريع هذا التحول، حيث تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات للصراع الرمزي لا لتداول القضايا العامة. وفي هذا المناخ انتشر ما يمكن توصيفه بالتسمّم الخطابي، حيث تراجعت إمكانات النقاش العقلاني، وحلّت محلها ممارسات، تقوم على الشتم والسباب وبث الكراهية والتشهير بالأفراد والخوض في حياتهم الخاصة، بدل مساءلة البنى والسياسات.

أسهمت هذه الديناميات التي تعززها خوارزميات المنصات الرقمية في فرض منطق الاصطفاف بوصفه شرطًا للمشاركة في الفضاء العام، بينما جرى تجريم المواقف النقدية أو المركبة بوصفها تواطؤًا أو خيانة. وفي هذا السياق، تحولت اللغة إلى أداة للعقاب الرمزي، يُمارَس من خلالها العنف اللفظي ونزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن الخصوم، ما خلق حالة من الردع الاجتماعي والذي أفضى بدوره إلى سلبية اجتماعية، دفعت قطاعات واسعة من الفاعلين إلى الانسحاب من العمل العام أو الصمت بوصفه استراتيجية بقاء. وهكذا، لم يعد العنف الرمزي نقيضًا للعنف المادي، بل أحد شروطه التمهيدية، إذ يسبق السلاح في تجريد الخصم من إنسانيته وحقه في الوجود السياسي.

تفكك النخب، فشل الدولة، واستدامة الاستقطاب

لم تكن النخب السياسية والمدنية بمنأى عن هذا التحول الخطير، بل كشفت الحرب عن هشاشتها البنيوية وعجزها عن إنتاج خطاب وطني جامع. فقد انزلقت قطاعات واسعة من هذه النخب إلى منطق الاصطفاف والهويات الأولية، وعادت إلى مرجعياتها القبلية والثقافية الأولى، ما أفقدها القدرة على لعب دور الوسيط الاجتماعي أو تقديم بديل أخلاقي وسياسي لمنطق الحرب. وبدل أن تسهم في تفكيك خطاب الكراهية، أصبحت في كثير من الأحيان جزءًا من إعادة إنتاجه سواء بالصمت عنه أو بتوظيفه ضمنيًا؛ لتحقيق مكاسب سياسية آنية.

يتقاطع هذا التفكك الداخلي مع تدخلات خارجية إقليمية ودولية تعاملت مع السودان بوصفه ساحة نفوذ لا مجتمعًا هشًا متعدد الطبقات، وأسهمت عن قصد أو دون قصد في تثبيت أنماط الاستقطاب عبر دعم فاعلين بعينهم أو تبني روايات مبسطة للصراع. وفي المقابل، وجدت الدولة السودانية نفسها أسيرة لهذا الواقع، فسقطت سياساتها في فخ التصنيف والإقصاء، سواء من خلال قرارات إدارية أو سياسات خدمية، افتقرت إلى الحساسية المطلوبة، ما عمّق الشعور بالغبن والتهميش، وأعاد إنتاج شروط الصراع بدل معالجتها.

في ضوء ذلك، يبدو الفضاء العام السوداني قد تحوّل من مجال محتمل لبناء التوافق والنقاش العام إلى ساحة مركزية للعنف الرمزي والاستقطاب المرضي. وتطرح هذه النتيجة سؤالًا جوهريًا حول إمكانية تحقيق الاستقرار دون معالجة خطاب الكراهية بوصفه أزمة هيكلية متجذرة في بنية الدولة والمجتمع لا مجرد انعكاس جانبي للحرب. فإعادة بناء السودان لا تقتصر على وقف إطلاق النار أو إعادة ترتيب السلطة، بل تتطلب مشروعًا وطنيًا، يعيد الاعتبار للغة بوصفها أداة للسياسة لا للحرب، ويعيد بناء المجال العام بوصفه شرطًا لا غنى عنه لأي انتقال نحو السلام والاستقرار

إعادة بناء المجال العام مقاربات ممكنة

تُظهر قراءة مسار خطاب الكراهية في السودان، أن التعامل معه كظاهرة أخلاقية معزولة أو كمشكلة تواصلية قابلة للحل عبر الضبط أو الإدانة العلنية، يظل مقاربة قاصرة، إذ يتجاهل طبيعته البنيوية وارتباطه العميق بأزمة الدولة والمجتمع معًا. ومن ثم، فإن أي مسعى لتجاوزه يفترض في المقام الأول تحوّلًا في طريقة فهمه وتشخيصه، من كونه انحرافًا سلوكيًا إلى كونه أحد تجليات العنف السياسي غير المادي الذي يعمل على إعادة إنتاج الصراع عبر اللغة والرموز. ويبدو أن كسر حالة التطبيع مع هذا الخطاب وتسميته بوصفه عنفًا رمزيًا قد يشكّل مدخلًا معرفيًا أوليًا لإعادة فتح النقاش حول حدوده وآثاره، دون أن يعني ذلك بالضرورة توافقًا فوريًا حول سبل معالجته.

في هذا السياق، تبرز مسألة المجال العام بوصفها إحدى الساحات المركزية التي يمكن من خلالها قراءة إمكانات التفكيك أو إعادة الإنتاج. فإعادة الاعتبار للمجال العام كمساحة مشتركة للنقاش حول القضايا العامة، لا كساحة للصراع الهُوياتي، تبدو مشروطة بقدرة الفاعلين على إنتاج خطاب بديل، لا يقوم على الإنكار أو الحياد الزائف، ولا يسقط في المقابل في فخ الاستقطاب المضاد. وتشير التجربة السودانية، إلى أن غياب هذا الخطاب لا يعود فقط إلى سطوة الحرب، بل إلى هشاشة النخب نفسها وعجزها عن تطوير لغة سياسية، تتجاوز منطق الاصطفاف دون أن تتجاهل اختلالات القوة أو علاقات العنف القائمة.

ومن زاوية مؤسسية أوسع، يمكن النظر إلى التعليم والإعلام بوصفهما مجالين، تتراكم فيهما آثار خطاب الكراهية على المدى الطويل، لا باعتبارهما أدوات جاهزة للإصلاح السريع. فالمناهج التعليمية كما تشكلت تاريخيًا، عكست في كثير من الأحيان سرديات إقصائية أو انتقائية حول الهُوية والتاريخ، وأسهمت في إعادة إنتاج تصورات هرمية عن المجتمع. وبالمثل، لم ينجح الإعلام السوداني الرسمي أو غير الرسمي، في ترسيخ معايير مهنية مستقلة عن الاستقطاب السياسي، ما جعله عرضة للانخراط في إعادة إنتاج الخطاب التفكيكي بدل مساءلته. ومن ثم، فإن أي حديث عن دور هذين المجالين يظل مرتبطًا بإعادة تعريف وظيفتهما في سياق دولة، لم يُحسم بعد شكلها أو مشروعها الوطني.

أما الفضاء الرقمي الذي يُنظر إليه غالبًا بوصفه ساحة مركزية لانتشار خطاب الكراهية، فيمكن مقاربته بوصفه مرآة مكثفة للاختلالات القائمة أكثر من كونه مصدرها الوحيد. فمحاولات الضبط التقني أو الحجب على محدوديتها، قد تعيد إنتاج الإحساس بالإقصاء، وتغذي سرديات المظلومية، بدل أن تعالج جذور المشكلة. في المقابل، يفتح ذلك المجال للتفكير في أدوار بديلة تقوم على تفكيك الخطاب من الداخل عبر إنتاج معرفة نقدية، تكشف آلياته وتناقضاته، وتعيد الاعتبار للتفكير التحليلي في مواجهة منطق القطيع والانفعال دون افتراض قدرة سريعة على تغيير ميزان الخطاب السائد.

وعلى المستوى السياسي، يبدو تجاوز خطاب الكراهية مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بأفق الحل السياسي نفسه. فاستمرار الحرب أو إدارة الصراع دون معالجة جذوره، يوفّر شروطًا دائمة لإعادة إنتاج هذا الخطاب، فمهما تنوعت المبادرات لا يمكن فصل تفكيك الكراهية عن إعادة طرح سؤال المواطنة والعدالة والاعتراف، ولا عن نقاش أوسع حول كيفية بناء عملية سياسية، لا تعيد إنتاج الإقصاء تحت مسميات جديدة. غير أن هذا المسار يظل محفوفًا بالتعقيد في ظل انعدام الثقة وتداخل العنف المادي بالرمزي وغياب قيادة قادرة على إنتاج سردية جامعة ذات مصداقية.

في المحصلة، لا يظهر تفكيك خطاب الكراهية في السودان كمسار خطي أو كحزمة حلول جاهزة، بل كعملية طويلة تتقاطع فيها المعرفة والسياسة والثقافة، وتتطلب إعادة نظر جذرية في كيفية إدارة الاختلاف والصراع. فالمسألة لا تتعلق فقط بإصلاح الخطاب، بل بإعادة تأسيس الشروط التي تجعل من النقاش العام ممكنًا ومن الاختلاف غير مفضٍ بالضرورة إلى الإقصاء أو العنف. وبدون مقاربة كهذه سيظل خطاب الكراهية قابلًا للعودة بأشكال جديدة حتى في حال توقف الحرب، بما يجعل الاستقرار نفسه هشًا ومؤقتًا.