هل صعود الجنوب العالمي خصما من الغرب؟

هل صعود الجنوب خصما من الغرب؟
هل صعود الجنوب خصما من الغرب؟

إن الصعود المتسارع للدول التي يشار إليها مجتمعة باسم الجنوب العالمي، يفرض تعقيدات وضغوطًا عميقة على النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب الثانية. تتميز هذه المجموعة المتنوعة من الدول بحصتها المتزايدة من النشاط الاقتصادي العالمي، وشعورها الموحد بالمظالم التاريخية، ومطالبتها بإعادة هيكلة نظام الحوكمة العالمي… بما يعكس الحقائق الجيو سياسية المعاصرة بدقة أكبر. إن الديناميكيات المتغيرة التي فرضتها هذه الدول الصاعدة تقدم إمكانيات للتكيف مع التغيرات في هيكل القوة العالمي، وقيوداً شديدة على مراكز القوة التقليدية.

خصائص الجنوب وأهميته

إن مفهوم الجنوب العالمي غامض بطبيعته، إذ لا يمتلك حدودًا واضحة ولا عضوية محددة. إنه يعرف- تحليليًا- ليس من خلال هويته الجماعية، ولكن من خلال مسافة دوله المشتركة عن مراكز القوة العالمية التقليدية. أعضاؤه متحدون بشكل أساسي، بما ليسوا عليه: الديمقراطيات الليبرالية الغنية. تعمل هذه المجموعة في المقام الأول كـ”بيان اغتراب عن مراكز القوة الحالية”.

إن العنصر الموحد الأساسي هو الرغبة المشتركة في إضعاف السيطرة الراسخة التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها على قواعد النظام العالمي القائمة. وفي حين أن الأعضاء غالبًا، ما يتحدون من خلال مجموعة عامة من المظالم التي يعود تاريخها إلى قرون مضت، فإن القاسم المشترك الأعمق هو التطلع إلى قوة أكبر والإيمان بأن التضامن يوفر مسارًا قابلاً للتطبيق لتعزيز ثقلهم الجيو سياسي. ومع ذلك، وعلى الرغم من خطاب الوحدة، فإن الواقع الحالي يشير إلى أن المصالح الفردية لهذه البلدان، غالبًا ما تفوق أهدافها الجماعية بكثير.

هذا التحالف متنوع بشكل لافت للنظر، ويشمل اختلافات هائلة في السياقات الاقتصادية والسياسية والتاريخية، وتضم المجموعة بعضًا من أغنى دول العالم، مثل بعض دول الخليج العربي، إلى جانب المناطق النائية القاحلة في آسيا وإفريقيا. علاوة على ذلك، فإن وصف “الجنوب” مُربك جغرافيًا، إذ تتوزع دوله بين أقاليم جغرافية متعددة، وقد تقع أحد دوله شمال خط الاستواء، مثل تركيا.

إن الأهمية المتزايدة لهذا التجمع مدعومة بشكل مباشر بالتحولات الدراماتيكية في القوة الاقتصادية العالمية. تاريخيا، هيمنت الدول الغربية على الاقتصاد العالمي. في عام ١٩٩٠، مثلت الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)- نادي الدول الغربية الغنية- أكثر من ٨٠٪ من الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فإن هذه الهيمنة الاقتصادية تتضاءل بسرعة. تشير توقعات عام ٢٠٣٠ إلى أن اقتصادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ستشكل حوالي ٤٠٪ فقط من الاقتصاد العالمي، مما يعني تقلص حصتها فعليًا إلى النصف على مدى أربعة عقود. 

وعلى العكس من ذلك، من المتوقع أن يمثل “بقية العالم”، الذي يضم إلى حد كبير دول الجنوب العالمي، 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030. في الوقت الحالي، تشكل البلدان التي ترى نفسها جزءًا من الجنوب العالمي مجتمعة حوالي نصف النشاط الاقتصادي العالمي، وهذه النسبة مستمرة في الارتفاع. هذا التوسع المالي يعني أن الدول التي تعتبر نفسها متميزة عن التحالفات الأمريكية التقليدية ستصبح بارزة بشكل متزايد في الشؤون العالمية.

يمكن إرجاع الأساس المفاهيمي لهذا التحول إلى التحركات التي ظهرت بعد الاستعمار، مثل مؤتمر آسيا وإفريقيا في باندونج بإندونيسيا في عام 1955، حيث التزمت الدول المستقلة حديثًا بعدم الانحياز أثناء الحرب الباردة. وقد تعزز هذا المسار التاريخي في عام 1964 بتشكيل مجموعة الـ 77 (G77) من قبل الدول النامية، والتي كانت تهدف إلى أن تكون هيئة تنسيق موازية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لقد أصبح هذا الانقسام الدائم أكثر وضوحًا بشكل مطرد، مما ساهم في خلق الجو المعاصر، حيث يتم استخدام إطار الجنوب العالمي لتأكيد الثقل الجيو سياسي والوكالة.

الشعور المشترك

منذ أيام، صدر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بواشنطن تقرير حمل عنوان: “نقاط الارتكاز: استمرار تحول مركز الثقل في السياسة العالمية”، يتناول المشهد الدولي المتطور مع تنامي نفوذ الدول غير الغربية. يحدد هذا المشروع ثماني “دول مفصلية” أو محورية- البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك وتركيا والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا والإمارات العربية المتحدة- كجهات فاعلة أساسية ستشكل اختياراتها الاستراتيجية النظام الدولي بشكل عميق. 

هذه الدول- كما يرى التقرير- هي قوى إقليمية كبرى، متكاملة اقتصاديًا بشكل عميق وقادرة على التعامل بشكل فعال مع القوى العظمى. إنهم جميعًا أعضاء في مجموعة العشرين، لكنهم مستبعدون من مجموعة السبع، مما يدل على مشاركتهم العالمية القوية على الرغم من افتقارهم إلى الامتيازات الكاملة للنادي الاقتصادي النخبوي.

إن الشعور المشترك الذي يوحد هذه البلدان هو شعور راسخ الجذور بـ”الخطر الملح، مع التوازن مع الشعور بالقدرة على التصرف”. إنهم متحدون؛ بسبب استيائهم الأساسي من الوضع الراهن، والذي ينبع من الرغبة في الحصول على قوة أكبر والاعتقاد بأن الترتيبات العالمية الحالية غير مستدامة لمصالحهم الوطنية.

وفي حين تتقاسم جميع الدول المحورية المظالم من النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، فإن الأصول الدقيقة لهذه المظالم تختلف بشكل كبير، علي سبيل المثال:

• ينبع استياء البرازيل من إنكار تاريخي متصور لمكانتها الصحيحة في النظام العالمي، على الرغم من القتال إلى جانب المنتصر في الحربين الأولى والثانية. النخب البرازيلية مدفوعة برغبة في “تصحيح الأخطاء المتصورة في فترة ما بعد الحرب الثانية”.

• إن الشكوك العميقة التي تبديها جنوب إفريقيا تجاه الغرب متجذرة في تاريخ نظام الفصل العنصري، حيث دعمت الولايات المتحدة وحلفاؤها حكم الأقلية البيضاء كجزء من الاستراتيجيات المناهضة للشيوعية، في حين تلقى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم الآن الدعم من موسكو وبكين.

• إن السياسة الخارجية للمكسيك مبنية على تاريخ من الغزوات الأجنبية- من قبل الولايات المتحدة وفرنسا- والخسارة اللاحقة لنصف أراضيها، مما عزز الشكوك حول القوى المهيمنة والالتزام بعدم التدخل.

• تميزت الثقافة الاستراتيجية المبكرة لإندونيسيا بإرثها الاستعماري الهولندي والتزامها بمكافحة الاستعمار والسيادة.

يمكن تأطير هذا الشعور المشترك بالإلحاح والغربة باستخدام مفهوم الشعبوية. يرى الفكر الشعبوي، أن العالم منقسم بين “أغلبية طبيعية” (في هذه الحالة، الجنوب العالمي) و”نخبة فاسدة” (الدول الغربية الغنية)، التي تستخدم امتيازاتها المؤسسية للحفاظ على الاستغلال. هذا التأطير الشعبوي للسياسة الدولية يخدم غرضًا مزدوجًا لقادة الدول المحورية: فهو يسمح لهم بتجاهل الانتقادات المحلية لحكوماتهم من خلال ربط أنفسهم بنضال شعوبهم في “المشاعات العالمية”، مما يعزز الهوية والشرعية في الداخل.

لذا، ليس هدف هذه الدول مجرد الشكوى، بل ضمان شرعية وتمثيل أكبر، فهي تدعو إلى إصلاح منهجي، مجادلةً بأن حكم عدد قليل من دول النخبة الثرية للعالم هو فسادٌ بطبيعته، وأن “العدالة والصالح العام يتطلبان من الأغلبية أن تكون أسيادًا لمصيرها”.

الاستقلال الاستراتيجي

في ظل تصاعد المنافسة بين القوى العظمى، أي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، فإن الهدف الاستراتيجي الأساسي للدول المفصلية هو السعي لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي. ويتم تحقيق ذلك من خلال سياسات خارجية مرنة مصممة لتعزيز استقلالية السياسة، وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية، وتجنب الاعتماد الكامل على أي قوة كبرى واحدة. تتمثل الآلية الأساسية في الحفاظ على علاقات مباشرة وغير مباشرة مع جميع القوى العظمى في وقت واحد، وهي الاستراتيجية التي تجسدها الهند، التي وصفها وزير الخارجية جايشانكار بأنها “تتمتع بحق تقييم مصالحها الخاصة، واتخاذ خياراتها الخاصة”. 

تسعى الهند إلى تحقيق “التوافق الشامل متعدد الأطراف”، من خلال الموازنة بين مشاركتها في التجمعات التي تقودها الولايات المتحدة، مثل الرباعية ومنتدى التعاون الاقتصادي الدولي، وعضويتها في مجموعات موازية مثل مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون. إن قرار الهند برفض إدانة غزو روسيا لأوكرانيا، وفي الوقت نفسه تعميق العلاقات الأمنية مع الغرب، يجسد هذه السياسة.

وتظهر حالات دول محورية رئيسية أخرى عمليات موازنة مماثلة:

 تلتزم إندونيسيا بفلسفة “التجديف بين شعاب مرجانية” ( mendayung antara dua karang ) وممارسة “الدبلوماسية الحرة والنشيطة” ( bebas aktif ). تسعى إندونيسيا إلى أن تكون “صديقة لجميع الدول”. على سبيل المثال، أدانت جاكرتا الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها عارضت العقوبات وواصلت شراء النفط الروسي، مما يدل على مرونة عدم الانحياز.

تستخدم تركيا “الغموض الاستراتيجي”، وتسعى إلى “سياسة خارجية مستقلة وقومية”. وبصفتها عضوًا في حلف شمال الأطلسي، تستغل تركيا مكانتها التحالفية وجغرافيتها الاستراتيجية للحصول على تنازلات من الغرب (على سبيل المثال، مبيعات طائرات إف- 16 المرتبطة بمحاولة السويد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي)، بينما تعمل في الوقت نفسه على تعميق العلاقات البرجماتية مع روسيا والصين. إن انخراط تركيا مع موسكو يوفر لها ثِقلاً ضد تدهور العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة.

تسعى السعودية والإمارات بنشاط إلى تنويع علاقاتهما الدبلوماسية للحد من الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة. لا ترى أبوظبي أي تناقض في كونها صديقة مقربة للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تدخل في “شراكة استراتيجية شاملة” مع الصين. ولقد أعطت الرياض الأولوية للمصالح الوطنية من خلال التعاون مع روسيا بشأن خفض إنتاج النفط (أوبك +) ضد المناشدات الأمريكية، مما يدل على حيويتها الجيو سياسية واستقلالها. تسعى كلتا الدولتين الخليجيتين بنشاط إلى جذب الاستثمار والتكنولوجيا، حيث تدرسان عروضًا من قوى متعددة- الصين وفرنسا وروسيا- لمشاريع استراتيجية مثل محطات الطاقة النووية.

من الناحية الاقتصادية، يعد تنويع التجارة عنصرا أساسيا في الاستقلال الاستراتيجي، فبالنسبة لكل دولة محورية تقريبًا، تمثل التجارة مع القوى العظمى أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد نمت التجارة مع الصين بشكل كبير في جميع المجالات. ومع ذلك، يتم إدارة هذا الانخراط الاقتصادي لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة؛ فقد امتنعت المكسيك، على سبيل المثال، عن الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية أو قبول خط ائتمان مباشر بين الحكومات، بهدف الحفاظ على الاستقلال المالي على الرغم من نمو التجارة.

الهدف النهائي لهذه المناورة؛ هو زيادة نفوذهم في صنع القرار العالمي والحد من الإكراه من الدول القوية. ومن خلال السعي إلى إقامة علاقات مع القوى الكبرى الثلاث، تضمن الدول المحورية، وصولاً أفضل إلى رأس المال والأسلحة والأسواق، مما يُظهر بدائل للولايات المتحدة.

تناقضات دول الجنوب 

إن صعود الجنوب العالمي، على الرغم من أنه يقوم على المظالم المشتركة، إلا أنه مقيد في الوقت نفسه بالتناقضات الداخلية العميقة والمستمرة والمصالح المتباينة، فالتنوع الهائل للتجمع يقوض وحدته المزعومة. 

من الناحية الاقتصادية، التناقض صارخ: نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة العربية السعودية، يبلغ أربعة أضعاف نصيب الفرد في جنوب إفريقيا. سياسياً، تتعايش ديمقراطيات داخل الكتلة مع أنظمة استبدادية، وتسيطر حكومات يمينية وقومية محافظة في مقابل حكومات ذات منزع يساري تقدمي، وتختلف هياكلها الاقتصادية الأساسية أيضًا على نطاق واسع؛ إذ تعتمد المكسيك بشكل كبير على صادرات السلع المصنعة، وخاصة إلى الولايات المتحدة، بينما تعتمد الدول الغنية بالموارد مثل إندونيسيا والسعودية والإمارات على صادرات الموارد الطبيعية. وفي حين أن الصين هي أكبر شريك تجاري للسلع بالنسبة للهند والسعودية، فإن الولايات المتحدة تستورد من المكسيك سلعًا أكثر بخمسين مرة مما تستورده الصين.

ويكمن المصدر الرئيسي للتناقض الداخلي في النظر إلي النظام العالمي، إذ تسعى القوتان العظميان، روسيا والصين، لتغيير قواعد النظام الدولي، في مقابل أهداف الدول المحورية ذات التوجه الإصلاحي. تهدف الصين وروسيا إلى استغلال مفهوم الجنوب العالمي لتعزيز مصالحهما الثنائية وتقليص المزايا الفريدة للولايات المتحدة. إنهم يعتمدون على كونهم أقوى وأكثر قوة، ويقدرون “عالمًا أقل تنظيمًا”، يمنحهم حرية “التصرف دون عقاب”. يتعارض هذا النهج بشكل مباشر مع مصالح العديد من الدول المحورية مثل البرازيل والهند، اللتين تسعيان في نهاية المطاف إلى عالم يمكن التنبؤ به، ويستند إلى القواعد، وإن كان عالماً يتم إصلاحه ليعكس أولوياتهما. إن إيمان البرازيل الراسخ بالتعددية والعمل غير الأحادي الجانب، يتعارض في كثير من الأحيان مع تصرفات شركائها في مجموعة البريكس؛ على سبيل المثال، فإن سعي البرازيل إلى التوصل إلى حل دبلوماسي في أوكرانيا، والذي يلقي باللوم على روسيا وأوكرانيا على قدم المساواة، يجعلها في صف القوى التي لا تسعى إلى تقويض النظام الحالي.

كما يعج تجمع الجنوب بالمصالح الثنائية المتنافسة والتنافسات الإقليمية. تهدف الصين وروسيا إلى توسيع مجموعة البريكس بهدف موازنة النفوذ الغربي، ولكن المجموعة نفسها مقيدة بالخلافات الداخلية. على سبيل المثال، كانت البرازيل تأمل أن يؤدي التوسع إلى تخفيف وزن الصين وروسيا داخل التحالف.

إن الاستراتيجية الأساسية للهند المتمثلة في تأكيد الاستقلال الاستراتيجي تواجه تحديًا متزايدًا؛ بسبب التهديد العسكري والاقتصادي الذي تشكله جارتها الصين. إن هذا القلق الأمني ​​الأساسي يدفع الهند إلى تعميق علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة وحلفائها، مما قد يؤدي إلى تقويض الاستقلال الاستراتيجي الذي تسعى إلى تحقيقه من خلال محاذاة الجنوب العالمي.

حرب غزة وتصاعد التناقضات

وأخيرا، فقد فاقمت حرب غزة التناقضات الأيديولوجية والاقتصادية الداخلية الكامنة في حركة الجنوب العالمي. فبينما نجح الصراع في حشد بعض الدول المحورية للعمل كداعمين عالميين أقوياء للإصلاح والعدالة، إلا أنه أكد في الوقت نفسه، أن تحركاتها الدبلوماسية مصممة بدقة لتتلاءم مع المصالح الوطنية الفردية والعلاقات الاستراتيجية، بدلاً من أن تسترشد بأيديولوجية جماعية موحدة.

لقد شكلت حرب غزة اختبارا حاسما للجنوب العالمي، حيث ساهمت في الوقت نفسه في زيادة وضوحه، وكشفت عن التناقضات العميقة الجذور في قدرته الجماعية والتزامه بالمبادئ.

لقد سلط الصراع الضوء بشكل صارخ على القيود البرجماتية والأولويات المتناقضة للدول المفصلية، وخاصة فيما يتعلق بعلاقاتها مع الولايات المتحدة: أدى موقف جنوب إفريقيا المبدئي إلى عواقب دبلوماسية واقتصادية وخيمة. دفع التوتر الناتج عن ذلك العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، مما دفع إدارة ترامب إلى تعليق مساعدات التنمية، وتفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (التي أثرت على تمويل علاج فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز)، والتهديد بفرض رسوم جمركية عقابية على السلع الجنوب إفريقية. وهذا يوضح أن تحدي المصالح الغربية بشأن القضايا الأخلاقية الأساسية يحمل عواقب وخيمة في العالم الحقيقي بالنسبة لدول الجنوب العالمي. علاوة على ذلك، تناقضت قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية مع مقاومتها السابقة لاعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الذي وجهت إليه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات، مما يوضح تطبيقًا انتقائيًا لأدوات القانون الدولي.

من المفارقات أن الصراع أبرز نفوذ الدول المحورية من خلال حثّ الولايات المتحدة على المشاركة العملية. ففي سعيها للتوصل إلى اتفاق في غزة، استخدمت إدارة ترامب أربعًا من الدول المحورية – إندونيسيا، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة- للضغط، مما يدل على اعتراف واضح بثقلهم الدبلوماسي وقدرتهم على مساندة الموقف الأمريكي.

في جوهر الأمر، فإن الجنوب العالمي وإن كان يوفر إطارًا خطابيًا للتضامن، فإن التعقيد والتباين في المصالح الوطنية للأعضاء يعني أنهم ليسوا كتلة موحدة قادرة على التصرف بتماسك أيديولوجي، مما يحد في كثير من الأحيان من قدرتهم على فرض رؤية واحدة على النظام العالمي.