دخلت مالي في انقلاب عسكري بعد شهرين من استمرار المظاهرات ضد الرئيس كيتا، وتسعى الجهات المالية المانحة وشركائها المحليين إلى استعادة النظام الدستوري، وليس فقط مجرد إعادة تأسيس النظام واستبدال الشخصيات التي أطيح بها، والتي ساهمت إلى حد كبير في خلق الأزمة، وقام مركز الأزمات الدولية الفرنسي بإصدار دراسة باللغة الفرنسية تناولت أسباب الأزمة والفترة الانتقالية وآفاق الخروج من الأزمة نستعرضها في التقرير التالي.
بفضل الانقلاب الذي شهد اعتقال رئيس مالي إبراهيم بوبكر كيتا ورفاقه رئيس الوزراء بوبو سيسي تولي الجيش السلطة في مالي في 18 أغسطس 2020. هذه الحركة هي أحدث تعبير عن الأزمة السياسية الكبيرة التي تعيشها مالي منذ يونيو الماضي، والتي طالب خلالها الكثيرون باستقالة الرئيس كيتا.
شركاء باماكو الإقليميون والدوليون يطالبون بضرورة استعادة النظام الدستوري، ويحاولون تشديد الضغط على قادة الانقلاب للإيفاء بالتعهد بإعادة السلطة للمدنيين في أقرب وقت ممكن، لكن خطوة بسيطة إلى الوراء ستكون ضارة بالبلد.
الأزمة السياسية التي تمر بها مالي والأزمة الأمنية الناتجة عنها، كانت موجودة قبل الانقلاب، تعكس حركة الاحتجاج سخط عظيم من جزء من السكان على فشل الديمقراطية والحكم منذ سنوات عدة، لذا يجب على شركاء مالي المنخرطين في شئونها الداخلية اغتنام هذه الفرصة للتأكد من أن البلد يبدأ تغيير حقيقي.
كيف حدث “الانقلاب العسكري”
في 18 آب / أغسطس 2020، اندلع إطلاق نار في معسكرات للجيش تقع على في شمال وجنوب باماكو، في كاتي ونومينكوروبوغو، حسب وصف مواطن اعتقل من قبل المتمردون حين تحركت قوافلها المتجهة إلى العاصمة المالية.
في نفس الوقت تقريبًا، في باماكو، مسلحون يعتقلون كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، مثل وزراء المالية والشؤون الداخلية، وحصار المواقع الحيوية للدولة، كان الوضع مشوشا، لكن تزامن الأحداث يؤكد أن ذلك لم يكن مجرد تمرد بل انقلاب مخطط بدقة.
يتغير الوضع بسرعة بحلول ما بعد الظهر؛ الجيش يعتقل رئيس الوزراء بوبو سيسي والرئيس كيتا في مقر إقامة الأخير، وتجمعات جماهيرية تهتف بتأييد تحرك الجيش.
أصبح من الواضح أن الرئيس كيتا أعلن استقالته ليلا تحت الإكراه، وقبل الاستقالة يعلن حل الجمعية الوطنية واستقالة الحكومة، بعد بضع ساعات، مجموعة من الجنود تلقي خطابا متلفزا باسم “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب”، تعلن خلاله أنهم يديرون الدولة في مالي حتى إجراء انتخابات ذات مصداقية، التي يتعهدون بتنظيمها في أقرب وقت ممكن، ولكن بشروطهم الخاصة.
ترحيب شعبي باستقالة الرئيس والحكومة
في الـ 19 من أغسطس “حركة تجمع القوى الوطنية”، التي تقود الاحتجاج الشعبية ضد الرئيس كيتا منذ بداية يونيو ترحب باستقالة الرئيس والحكومة وحل الجمعية الوطنية، وقادة تجمع القوى الوطنية يعلنون استعدادهم للمشاركة في التحول الجمهوري وتطوير خارطة الطريق، بالتعاون مع “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب”.
من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت حركة الاحتجاج والمجلس العسكري سوف يجدون وسيلة للتعايش على أساس دائم، لكن “حركة تجمع القوى الوطنية” ستسعى بلا شك إلى التأكد من أن الجيش لا يحصد كل مزايا تغيير السلطة التي لعبت فيها الحركة دورًا مركزيًا خلال أسابيع التعبئة الطويلة وقيادة الاحتجاجات.
لا يعرف الكثير عن المجموعة التي وراء الانقلاب، على عكس أولئك الذين حرضوا على ذلك، لكن يبدو أن رؤساء المجلس العسكري الذين تولى السلطة في باماكو هم كلهم ضباط رفيعي الرتب من مختلف الفروع الجيش.
في الـ 19 من أغسطس 2020، تم الكشف عن بعض قادة الانقلاب ومن بينهم العقيد “عاصمي غويتا” قائد كتيبة القوات الخاصة، و”مالك دياو” نائب قائد الجيش، وأعلنا نفسيهما على التوالي رئيس ونائب رئيس “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب” مع عدد آخر من الضباط ممن خدموا في شمال البلاد خلال أزمة 2012 والصراع مع الجماعات المتشددة المسلحة.
برر قادة الانقلاب حركتهم بحالة الإهمال في البلاد وحملوا الرئيس المخلوع المسؤولية عنها، ودعوا المجتمع المدني والحركات الاجتماعية والسياسية للانضمام إليهم لتشكيل “انتقال سياسي مدني “والاتفاق على خارطة الطريق التي ستضع الأسس لإعادة إعمار مالي.
كما دعوا المنظمات الإقليمية والدولية إلى تقديم الدعم لمالي، وأخيرًا أعلنوا رغبتهم في تنفيذ اتفاق السلام الموقع في يونيو 2015 مع الحركات السياسية العسكرية في شمال البلاد، مؤكدين التزامهم بدعم “القوات العسكرية الدولية” التابعة لمجموعة الأزمات الدولية الموجودين في مالي لدعم حكوماتها في مواجهة المتمردين المسلحين في الشمال.
جذور الحركة الشعبية المناهضة للرئيس
تأتي هذه الأحداث في سياق سياسي متوتر منذ شهر يونيو الماضي، مظاهرات حاشدة تطالب برحيل الرئيس تقودها “حركة تجمع القوى الوطنية”، وهي منظمة متنوعة تتكون من مجموعات وشخصيات دينية وسياسية ومنظمات المجتمع المدني، والحركة التي بدأت بمظاهرات سلمية انتقلت للدعوة إلى العصيان المدني والذي طرح خطر التحول إلى العنف القاتل، وهو ما دفع المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) التنظيم الإقليمي الذي يضم خمسة عشر دولة في غرب أفريقيا لتكثيف الوساطة وقتها لمحاولة إيجاد طريق بين الطرفين وطرح آلية بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد.
اندلعت هذه الأزمة السياسية في أعقاب الانتخابات التشريعية في مارس وأبريل 2020، وبشكل أكثر تحديدًا بعد اتخاذ المحكمة الدستورية قرارها المثير للجدل؛ بإبطال نتائج الانتخابات في عدة مئات من مراكز الاقتراع، وبالتالي تعديل تخصيص 31 مقعدا من مجموع مقاعد النواب من 147.
ومع ذلك، بعيدًا عن التعبير المبسط عن نزاع ما بعد الانتخابات، تظهر هذه الأزمة مثل ثمرة السخط العميق والمتكرر في مواجهة الدولة في مالي التي تميزت بالفساد وغير القادرة على تلبية العديد من التحديات التي تواجه هذا البلد الذي يعد من بين أفقر دول العالم، وتعاني من توترات أمنية خطيرة تتمثل في وجود الحركات المسلحة والمتمردين الجهاديين، ومجموعات الدفاع عن النفس المجتمعية، أنها في الواقع مجرد أعراض للأزمة التي تمس قلب الديمقراطية في مالي.
أضعفت سنوات فساد الحكم الحكومة التي انتخبت في ظروف أمنية وانتخابات تفتقر إلى الشفافية، ورغم الوعود الكثيرة لتحسين الحكم والتي نادرا ما تم العمل بها، بدا الامر كأن النخبة الحاكمة قد أضاعت الفرصة لفهم ضغوط الشارع المتزايدة والتعامل معها، وفشل الرئيس في فهم عمق السخط الشعبي المتزايد.
ضغوط المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية
منذ الـ 18 من أغسطس، المجتمع الدولي، الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، الاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة، جميعهم أدانوا بالإجماع استيلاء الجنود الماليين على السلطة ودعوا إلى استعادة النظام الدستوري وتحرير رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وغيرهم من الشخصيات السياسية التي تم اعتقالها، منظمة تعاون غرب أفريقيا (إيكواس) علقت عضوية مالي في جميع هيئات صنع القرار في المنظمة الإقليمية ودعوا إلى إغلاق حدودها ووقف جميع التدفقات الاقتصادية والمعاملات مع مالي، مجلس السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي يعلق أيضا عضوية مالي في الاتحاد الأفريقي حتى استعادة النظام الدستوري.
مسألة ما إذا كان ينبغي استئناف كيتا لمهام منصبه واستعادة النظام الدستوري يمكن أن تتخذ أشكالا أخرى، يقسم الشركاء الدوليين مواقفهم السياسية من الازمة، فرنسا التي أحيطت علما بإعلان استقالة رئيس الجمهورية طالبت بإعادة السلطة المدنية بشكل فوري، بينما دعت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، من جانبها، إلى إعادة الرئيس كيتا إلى منصبه وطالبت بفرض عقوبات على المجلس العسكري.
احترام المبادئ الديمقراطية
شركاء مالي الرئيسيين لديهم سبب للمطالبة باحترام المبادئ الديمقراطية واستعادة النظام الدستوري، يجب أن يواصلوا الضغط على الضباط حتى يضمنوا العودة إلى شفافية السلطة المدنية بأسرع وقت ممكن وأن يتم الإفراج عن الشخصيات المحتجزة.
لكن التركيز فقط على استعادة السلطة والشخصيات المخلوعة، يواجه بحالة الرفض من قبل قسم كبير من السكان أصل الأزمة، إذا فرض المجتمع الدولي إعادة الرئيس، يمكن أن يؤدي ذلك إلى حركات كبيرة للمقاومة ليس فقط من قبل الجيش المسلح بقوة ولكن أيضًا من حركات المجتمع المدني التي حشدت في الشارع للمطالبة برحيله.
سيناريوهات الخروج من الأزمة
تحتاج البلاد إلى نظام حكم يتبنى إصلاحات جذرية، تتضمن إعادة تأسيس للمالية العامة للدولة وتوزيع عادل وفعال لخدماتها على جميع مناطق البلاد، وبعبارة أخرى يمكن لشركاء مالي الدوليين الفاعلين جعل هذا “الانقلاب العسكري، فرصة لقلب الصفحة على الوضع الراهن الذي أسقط مالي في أزمة سياسية وأمنية عميقة.
الفترة الانتقالية لا مفر منها بلا شك، لكن يجب أن تكون قصيرة، مع الحفاظ على تعهد الجيش بإعادة السلطة إلى المدنيين في غضون أيام او أسابيع قليلة على الأكثر.
توجد عدة خيارات، يمكن لمالي أخذ الإلهام من جارتها بوركينا مثلا، التي مرت بنفس الظروف بعد رحيل الرئيس “كومباوري” القسري في عام 2014، أتاح الانتقال وقتها إعادة العمل بالنظام الدستوري وأقر الاستقرار السياسي (حتى لو واجه حوادث خطيرة، بما في ذلك محاولة الانقلاب على الدولة التي تخللت هذه الفترة).
نقل السلطة إلى المدنيين
الجيش في بوركينا قام بنقل السلطة إلى المدنيين خلال شهر واحد من خلال ميثاق وطني تمت صياغته مع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الرئيسية، وتمت صياغة هذا النظام من خلال اختيار رئيس مدني من خارج الطبقة السياسية المكونة من مدنيين وعسكريين، ثم عين الرئيس رئيسا للوزراء وحكومة، وتم وضع الميثاق أيضًا يتصرف المجلس الوطني الانتقالي الجمعية التشريعية وتتألف من أعضاء من القوى السياسية الرئيسية والمجتمع المدني.
يمكن لهذا “المجلس الوطني” أن ينشأ من إشراك المعارضة والتي لها أغلبية ظاهرة في الشارع مع ممثلي المجتمع المدني حسب حصة محددة في الميثاق، تهدف لصياغة خارطة للطريق وتوجيه عمل الحكومة للبدء في إصلاح حقيقي للحكم وتوحيد المالية العامة للدولة، والاستعداد للانتخابات بشفافية حيث لن يكون أعضاء المجلس الوطني ضمن المرشحين فيها.
المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا يمكن أن يكون لها دور فاعل خلال الزيارة المخطط لها في الأيام المقبلة، بتقديم سيناريو لتشكيل المجلس الوطني، خاصة أنهم مدعوون من قبل السلطة الانتقالية للتأكد من أن النظام الدستوري سيتم تفعيله والاستعداد لتنظيم الانتخابات.
العودة إلى نقطة البداية
يبدو أن أحداث 18 أغسطس تعيد مالي إلى نقطة البداية في مارس 2012، حين أطاح انقلاب عسكري اخر بالرئيس “توري” آنذاك، وبدأ فترة من الاضطرابات السياسية في مالي واتاحت الفرصة للجماعات المسلحة المتشددة للاستيلاء على شمال البلاد وقتها، ويبدو ان ثماني سنوات قد تم إهدارها في ركود سياسي سيكلف الكثير، وأن إعطاء الأولوية للأمن على حساب تحسين حياة المواطنين ومكافحة الفساد كان خطأ فادحا من مجموعة الأزمات الدولية شركاء الحكومة السابقة.
أحداث 18 أغسطس تذكر بأن ملف الاستجابة المستدامة للتحديات السياسية والأمنية التي تواجهها مالي يجب أن يتضمن أيضا تحسين الأحوال الاقتصادية ومراعاة احتياجات الناس للعيش الكريم.