أحد أعقد المشاكل في الشارع المصري وأكثرها تشابكًا اليوم هي إشكالية العلاقة بين المالك والمستأجر في شقق “الإيجار القديم”، فوفقًا للإحصاءات الرسمية لدينا ما يقرب من 3 ملايين شقة في مصر محل خلاف، بين مالك يرى نفسه مظلومًا ببخس قيمة ميراثه، ومستأجر يعتصم بالقانون الذي لم يخالفه.
الإيجارات القديمة أزمة معقدة تراكمت على مر العقود، ونشأت عنها أوضاع اجتماعية مستقرة يصعب تجاهلها عند التفكير في الحل، فضلًا عن بعد أمني وسياسي لا يمكن إغفاله.
والشائع أن جذور إشكالية الإيجار القديم تعود إلى الستينيات إبان الحقبة الناصرية، التي ارتأت وجوب تثبيت قيمة الإيجار، ومنع ملاك الشقق من طرد المستأجرين سعيًا وراء كسب رضاء شعبي لها، لكن الحقيقة أن القصة تعود إلى عهد الملك فاروق حين أصدر مجلس النواب برئاسة “حامد جودة باشا” قانون 121 لسنة 1947 الذي نص على أنه “لا يجوز للمالك أن يطلب إخلاء المكان المؤجر ولو عند انتهاء المدة المتفق عليها في العقد إلا لأحد الأسباب الآتية: عدم سداد الأجرة – التأجير لمستأجر آخر من الباطن – أصبح العقار آيلاً للسقوط – هدم العقار لإعادة بنائه بشكل أوسع”.
حين جاءت دولة “يوليو” رأت أن ذلك القانون يتماشى مع النهج الاشتراكي الذي تبنته فأبقت عليه.
وفي عام 1965 وقبيل إقامة الاستفتاء على رئاسة جمال عبد الناصر للجمهورية العربية المتحدة، أجرى “ناصر” تعديلًا على القانون القديم بإلغاء الفقرة التي كانت تجيز إخراج المستأجر حال قيام المالك بهدم العقار لإعادة بنائه بشكل أوسع.
كما قرر “ناصر”، أيضًا خفض القيمة الإيجارية بنسبة 35% في قرار اعتبره البعض دعاية انتخابية تحمل تكاليفها ملاك العقارات لعقود طويلة.
واستمر سير الأمور في نفس الاتجاه، حتى وصلنا إلى قانون 136 لسنة 1981 الذي لم يختلف كثيرًا عن قانون 49 لسنة 1977 في حرصه على تأبيد العلاقة بين المالك والمستأجر ومد أجلها لأجيال تالية، كما همش دور “لجان تحديد الأجرة” تاركًا تحديد القيمة الإيجارية للتفاوض بين المالك والمستأجر مع وضع بعض الضوابط.
ومع مرور الوقت وبفعل التضخم وارتفاع الأسعار، أصبحت الإيجارات التي يتلقاها ملاك العقارات لا تتناسب مع قيمتها السوقية، فالشقة المسعرة بملايين يحصل مالكها على جنيهات شهريًا، وهنا فرض السوق شروطه فامتنع مالكو العقارات الجديدة عن تأجير شققهم وأصروا على البيع تمليكًا، ونجم عن ذلك أزمة اجتماعية/ اقتصادية استوجبت تدخلًا من قبل الدولة، فظهر قانون 4 لسنة 1996 والمعروف باسم قانون “الإيجار الجديد” والذي عاد لتطبيق أحكام القانون المدني في شأن تأجير الشقق الجديدة محررًا العلاقة بين المالك والمستأجر، أما الشقق القديمة فظلت خاضعة لقوانين 1979 و1981 المكبلة للملكية.
وبذلك أصبح لدينا 3 أنواع من قاطني الشقق المؤجرة في مصر، نوع خاضع للإيجار الجديد بكل آليات السوق وتحرره، ونوع خاضع لقانون الإيجارات القديم بإرثه ومشاكله، ونوع ثالث وضعه ملتبس، وهم دافعو “خلو الرجل”، فنظريًا هم من قاطني شقق الإيجار القديم، لكن عمليًا دفعوا مبالغ طائلة للإقامة بتلك الشقق.
وزاد من تعقد الوضع صدور حكمين غيرا شكل المعادلة تمامًا، الأول حكم صادر من محكمة النقض التي حكمت بعدم امتداد عقد الإيجار إلا لوارث واحد فقط، و الحكم الثاني صادر من المحكمة الدستورية العليا في مايو 2018 بعدم دستورية الفقرة الأولى من قانون 136 لسنة 1981، التي تنص على أنه “لا يجوز للمؤجر أن يطلب إخلاء المكان، ولو انتهت المدة المتفق عليها في العقد”.
الحكم الأخير للمحكمة الدستورية زاد الأزمة المجتمعية حول تلك الشقق، فالأرقام تشير إلى أن لدينا أكثر من 3 ملايين وحدة مؤجرة إيجارًا قديمًا، يرى ملاكها أن حقوقهم مسلوبة، ويريدون رفع الإيجارات بما يتناسب مع القيمة السوقية، وذلك استنادًا إلى التضخم الذي رفع أسعار كل شيء في البلاد، فكيف يظل الإيجار هو الشيء الوحيد الثابت كل تلك العقود؟.
وعلى الجانب الآخر، لدينا مستأجرون (أغلبهم اليوم من كبار السن) استقروا في أماكنهم ورتبوا حياتهم على قيمة منخفضة للإيجار لم يحددوها بأنفسهم، وإنما أقرتها القوانين المتعاقبة، وكثير منهم لن يستطيع تحمل السعر العادل للسوق اليوم حال فرضه، وبالقطع طردهم في الشارع غير منطقي.
وفي خلفية المشهد هناك فئة ثالثة ممثلة في دافعي “خلو الرجل”، وهؤلاء سيتضررون بأي حال من الأحوال في أي تسوية تحدث، أولًا لأنهم لن يتمكنوا من إثبات المبالغ الطائلة التي دفعوها، ثانيًا إذا أثبتوا ذلك فهم يعترفون بمخالفة القانون.
وفي ظل أزمة قديمة ومركبة كتلك، وفي ظل وجود حكم دستوري ببطلان ضلع أساسي في عقود الإيجارات القديمة، أصبح لزامًا على البرلمان إيجاد صيغة قانونية لحل تلك المعضلة، تحقق العدالة وفي نفس الوقت تراعي البعد الاجتماعي والأمني للمشكلة.
ورغم تقديم 5 مشاريع قوانين لتحرير العلاقة بين المالك والمستأجر في الإيجارات القديمة، إلا أن أحدًا من تلك المشاريع لم يتحرك للأمام، وتقرر ضمنيًا أن هناك استحالة لإصدار قانون بهذه الحساسية والتعقيد خلال هذا الفصل التشريعي، وعليه فليبقى كل في مكانه لحين انتخاب البرلمان القادم، الذي ينتظر أن يتولى هو الاشتباك مع تلك الأزمة وإيجاد حل عادل لها بأقل الخسائر الممكنة.