الروايات الشعبية بطبيعة تكوينها، هي مساحة واسعة ومرنة للحكي، فتناقلها الشفهي عبر رواة كُثر، وأجيال متتابعة، لعقود أو لقرون من الزمن، يجعلها قابلة للإضافة والحذف والتحوير، مما ينتج عنه تغيُر الأحداث.
لكن عصب الرواية الشعبية ومُرتكزها وأبطالها الأساسيين، أشياء تظل خاضعة للرواية المُهيمنة للقصة الشعبية، ورؤية الشاعر الذي كتب الرواية وصاغ أسسها الأولى، تلك الرؤية التي لا بد وأن تتماهى مع أفكار المجتمع الذي نشأت به، وتُغازل مشاعر وأحلام أفراده، وانحيازاتهم.
وهو ما يجعل الرواية المُهيمنة حول قصة ما، تظل راسخة في وجدان الأجيال المتعاقبة، حتى ولو تعددت الروايات حول نفس القصة، نستطيع أن نرى تلك الرواية، في الكثير من الحكايات الشعبية.
وفي هذا الملف، نحاول طرح رؤى مُغايرة لثلاث روايات شعبية، ترسخت في أذهان الشعوب العربية والمصرية، وأثرت في وجدانها لقرون طويلة، وهي روايات: “السيرة الهلالية، وحرب البسوس، وشفيقة ومتولي”، رؤى غير التي هيمنت على الحكايات الثلاث، وجه آخر يتسق أكثر مع الواقع، ومع المُنطلقات التاريخية، والمبادئ الإنسانية، وجه ينفض الزيف عن تلك الروايات، وينتصر لأبطالها الحقيقيين.
الرواية المنحازة لبني هلال وتحديدًا لـ أبو زيد الهلالي، لم تكن بهذا النُبل، فقد حققت أيضًا مكاسب من وراء الطريقة التي مات بها “الزناتي”
الزناتي خليفة والغُزاة العرب
لم تشأ السيرة الهلالية، أن تُنهي حياة “الزناتي خليفة”، بهذه النهاية المهينة التي حدثت في الواقع، بموته منزويًا حزينًا بعدما انسحب بما تبقى من جيشه تاركًا القيروان تسقط في يد “الهلالية”، بل اختارت له ميتة شريفة، شامخًا، مُدافعًا عن أسوار مدينته، ليُقتل على يد دياب ابن غانم.
لكن الرواية المنحازة لبني هلال وتحديدًا لـ أبو زيد الهلالي، لم تكن بهذا النُبل، فقد حققت أيضًا مكاسب من وراء الطريقة التي مات بها “الزناتي”، فمن ناحية عوضت المُنحازين للزناتي، وخاصة في بلاد المغرب بانتصار معنوي متجسد في بسالته، والذي دافع عن مدينته وشعبه لآخر لحظة في حياته، فخففت من وقع الهزيمة واغتصاب الأرض، على يد الغُزاة العرب.
للمزيد: الوجه الآخر لـ”السيرة الهلالية”.. الزناتي “أسد المغارب” في مواجهة الغزاة العرب
وقعت الحرب بين بكر وتغلب، واعتزلها الحارث بن عُباد، فارس “معد” وحكيمها، كما اعتزلها الكثير من البكريين
حرب البسوس في رواية أخرى
كان رد مُرة قاسيًا على الجميع، فالرجل لم يقبل تسليم ولده همام، ولم يقبل أن يؤخذ هو بدم كُليب، ولو تعقل لفعل، لقد كان هذا العرض آخر كلام عاقل سمعته “معدّ” وشبه الجزيرة العربية كلها طيلة أربعين سنة دارت فيها رحى الحرب، دون أن تتوقف لحظة إلا بعد أن حصدت رقاب آلاف البشر.
وقعت الحرب بين بكر وتغلب، واعتزلها الحارث بن عُباد، فارس “معد” وحكيمها، كما اعتزلها الكثير من البكريين، ممن رأوا أن مُرة كان عليه أن يُسلم أحد أبنائه جساس أو همام، لحقن الدماء.
ربما كانت حرب “الزير سالم” تبدو عادلة رغم تجبر كُليب، وانتفاض جساس لكرامته وكرامة أهله، حتى بعد أن عرض مُرة عرضه بأن يأخذ التغلبيين أحد أولاده عدا همام وجساس، ليقتلوه بدم كليب، أو يقبلوا الدية ألف ناقة، لكن طلب العدل انقلب إلى بغي، فقد أُخذ بدم كُليب الآلاف من “بكر” من بينهم همام وولديه، في عدد من المعارك كانت الغلبة فيها جميعها لتغلب، ولم يسمع “المُهلهِل” طيلة هذه السنوات أي نداء للصُلح، وأعمل سيفه في بكر حتى كاد يبيدهم، فأنشد يقول: “أكثرت قتلَ بني بكر بِربّهم.. حتى بكيتُ وما يَبْكي لهم أحدُ.. آليتُ بالله لا أرضىَ بِقَتْلهمِ.. حتى أبهرج بكرًا أينما وُجدوا”.
للمزيد: “جساس” ليس نذلًا و”الزير” أمير دم.. حرب البسوس في رواية أخرى
لماذا أقبل “الريس حفني”، بعد سنوات طويلة من روايته الأولى على إعادة حكي قصة “شفيقة ومتولي” بوجه آخر ينتصر للضحية الحقيقية لا البطل المزعوم ؟
شفيقة ومتولي
“عارف أساس الواقعة انا.. وحكاية هروبها واجعانا.. كانت مظلومة وجعانة.. وليه نظلم شفيقة.. شفيقة شفيقة ليه نظلم شفيقة”.
بموال شَجِيٍ آخر، عاد الفنان الشعبي البديع حفني أحمد حسن أو “الريس حفني”، بعد سنوات طوال من روايته الأشهر “شفيقة ومتولي” التي أنشدها في نهاية خمسينيات القرن الماضي، عاد ليروي وجهًا آخر لحكاية “شفيقة ومتولي”، وجهًا ينتصر لشفيقة، ويتنصل من الاتهامات الأخلاقية التي وجهها لها، ومن الأُسس والمقدمات التي صاغها ببراعة فنية عالية في حكايته الأولى.
ليس معروفًا بالضبط متى غنى الريس حفني، رواية “ليه نظلم شفيقة”، فهي لم تلقى نصيبها من الشهرة، أو لنقل لم تلقى القبول المجتمعي، فقد ترسخت في أذهان المصريين وتماهت مع أفكارهم أكثر، رواية شفيقة العاهرة، لا الضحية، ومتولي البطل، لا المجرم.
لكن لماذا أقبل “الريس حفني”، بعد سنوات طويلة من روايته الأولى على إعادة حكي قصة “شفيقة ومتولي” بوجه آخر ينتصر للضحية الحقيقية لا البطل المزعوم ؟، وهل انتصر حقًا لشفيقة؟.
للمزيد: “ليه نظلم شفيقة”.. عندما أنصفها “الريس حفني” وخذلها “جاهين” و”بدرخان”