تخيل نفسك تجلس في إحدى عربات مترو الأنفاق، المخصصة للسيدات، بداية الإسبوع في ظهيرة يوم حار، تكتظ العربة عن آخرها، أصوات الباعة الجائلين تتفوق على صوت عجلات القطار ذاته، نظرات الغضب والاشمئزاز تملأ وجوه الراكبات، بسبب أو بدون، وراء كل منهن حكاية وقصة وتعب ومشقة ومسؤولية لا أحد يعلم عنها شيء، فإذا بفتاة ثلاثينية تدخل للعربة في إحدى المحطات، وهي تتحدث بصوت عال في هاتفها مع إحدى صديقاتها وتقول “متجوزتش ومش هتجوز.. إيه يجبرني أجيب راجل يتحكم فيا ويقتل حريتي”.

“مش فيمينيست”

أغلقت أميرة هاتفها، بعد مكالمة استمرت 7 دقائق صمتت خلالها العربة بأكملها، حيث أخذت السيدات تستمعن إلى حديثها الذي دار برمته حول فكرة الحرية الكامنة في حياة العزوبية بعيداً عن مؤسسة الزواج التي وصفتها بالفاشلة، لتعلن في نهاية المكالمة أنها تكره الرجال وتكره التحكمات التي يفرضها المجتمع الذكوري على النساء.

غضب سيدات العربة، من حياتهن في المطلق لم يمنعهن من إقحام أنفسهن على حياة أميرة فعقب إغلاقها للهاتف، بادرتها السيدة التي تقف بجانبها بنصيحة أن الرجال ليسوا جميعهم على هذا القدر من السوء الذي تراه أميرة، لتوضح لها السيدة أنها أم لثلاثة ذكور، ولا تتمنى أن يتزوج أي أبن من أبنائها بفتاة مثل أميرة غير قادرة على تحمل مسؤولية وبناء حياة أسرية سليمة، قبل أن ترد أميرة جاء صوت ساخر من وسط العربة لم تتمكن اميرة من تحديد صاحبته ليقول “ده كلام الاسترونج اندبندنت وومن والفيمينيست اللي بيخربوا البيوت”.

معركة نسائية دارت داخل العربة، حاولت خلالها أميرة أن تنفي تهمة هي لا تعلمها جيداً عن نفسها انتهت بعد مرور 16 محطة مترو هم إجمالي عدد المحطات التي مكثت فيها الفتاة داخل العربة، حاولت في البداية الدفاع عن نفسها بأنها ليست فيمينيست، وأن رفضها للزواج له أسباب خاصة ولا يجوز لأحد التدخل في ذلك، ورغم وقوف عدد من الفتيات والسيدات داخل العربة في صفها ومحاولة دعمها، إلا أن الغلبة كانت للفريق الأشرس من حيث القوة العددية الذي يتهم أميرة ومؤيديها بالابتذال والتحرر المنحرف.

ينظر الكثير، إلى النسويات في مجتمعنا على أنهن مثال للانحراف

فيمينست
فيمينست

مشروع منحرفة

ينظر الكثير، إلى النسويات في مجتمعنا على أنهن مثال للانحراف، وهي أبسط التهم التي يُلقيها على عاتقهم أي شخص في المجتمع يختلف معهم في وجهات النظر، حول أي قضية عامة مطروحة، ما تسبب في لجوء بعضهن إلى نفي التهمة عن أنفسهن رغم تأييدهن الداخلي لمبادئ النسوية وآرائها، إلا أنهن يخفين ذلك تخلصًا من الدخول في جدل غير مجدي، فتجد الكلمة الأقرب لأفواههن “أنا مش نسوية”.

تقول “نيللي”، البالغة من العمر 19 عامًا، إنه بالرغم من صغر سنها إلا أنها دخلت في مشكلات عديدة بسبب ملابسها وآراءها، فاتهمتها عائلتها بأنها فيمينيست، وتعاملوا معها على مدار أعوام بتلك التهمة، وعلى أن لديها قصور معرفي، وبدايات إنحراف سلوكي، ما جعلهم يحاولون التدخل كثيراً في نمط لبسها وتغير نمط تفكيرها إلا أنهم فشلوا، وفي كل مرة كانوا يستمعون خلالها إلى آراء نيللي كان ينتهي النقاش بمشادات كبيرة وعنيفة بينها وبينها وبين الأهل.

وضعت “نيللي”، بعض القواعد في حيز تفكيرها وتصرفاتها، حول النسوية اكتسبتها من الكتب التي تتعلق بحقوق المرأة عربيًا ودوليًا، ومن بين تلك القواعد أن النساء فئة لا يمكن تجاهلها، كما أنه لا يمكن وضعها في مقارنات طوال الوقت مع الرجل على اعتبار أنهم غريمان دائمًا، موضحة أنها لا تكره الرجال، لكنها لا تحب أن يسيطر عليها أحد، وتفضل دائمًا عدم الخضوع أو الانصياع لغير عقلها، ولا تعتقد أن هذا جريمة.

من بين أفكار “نيللي”، أيضًا أنها تقدس حقوق الإنسان عمومًا، والمرأة خصوصًا، ولا تعرف هل هذا هو المقصود بمصطلح “الفيمينيست” الذي صمم أهلها على نعتها به، وهل هذا جريمة؟ أم لا، لكنها كانت تلجأ لنفي نعت النسوية عنها، فتقول ما تريد وتعبر عن وجهات نظرها كما تشاء، ثم تلصق مقولة تفيد أنها لا تنتمي لأي مجموعة نسوية.

عرف العلماء، النسوية على أنها وعي فكري ومعرفي وهي تختلف عن النسائية التي هي وعي بالجنس والبيولوجيا

فيمينست
فيمينست

النسوية 

عرف العلماء، النسوية على أنها وعي فكري ومعرفي وهي تختلف عن النسائية التي هي وعي بالجنس والبيولوجيا، فالنسوية تُعد وسيلة للمقاومة وترسيخ الهوية وتأكيد مكانة ودور المرأة في المنظومة الثقافية، مع الأخذ في الاعتبار أنها ليست نتاجًا لتطورات تاريخية وسياسية، بقدر ما هي تطورات مجتمعية.

ولا مانع من تأثر النسويات، بالأفكار الليبرالية والاشتراكية وأفكار ما بعد الحداثة التي اهتمت بفرض التعاون بين الجنسين للوصول إلى مجتمع أكثر مساواة، هذا هو الهدف الرئيسي من فكرة الفيمينيست أو النسويات حول العالم، وليس للأمر علاقة بسيدات يتركن شعر الساقين ينمو دون إزالته مثلما قالت “نيللي” في وصف أهلها لها.

مع الأخذ في الاعتبار أن وجهة نظر الأهل لم تأتي من فراغ، فقد عززها ما نشر على لسان الممثلة الأميركية سارة ميشيل غيلادر، مطلع العام الجاري من أنها تكره كلمة “نسوية” لأنها تجعلها تفكر في “نساء لا يحلقن شعر أرجلهن”، هذه الجملة وحدها جعلت فتيات كثيرات يكرهن وصفهن على هذا النحو فابتعدن عنه في هدوء.

يعتقد الكثير أن المجتمع النسوي يدعو للحرية الجنسية، وهو ما تروج له بعض الفتيات بقصد أو دون قصد

فيمينست
فيمينست

الحرية الجنسية

 النظرة التي تتسم بالعداء الشديد والتي تتلقاها النسويات في المجتمعات العربية على أوسع نطاق، لم تكن من فراغ أيضًا، حيث يعتقد الكثير أن المجتمع النسوي يدعو للحرية الجنسية، وهو ما تروج له بعض الفتيات بقصد أو دون قصد، رغم أن وجهات النظر المتعلقة بالأمر تختلف كثيرًا عن ذلك، وفقاً لرأي “تيسير” 39 عامًا، وهي إحدى الفتيات التي تدعم مجتمع “الفيمينيست” إلا أنها اضطرت مؤخرًا أن تجرد نفسها من اللقب، بعد الاتهامات التي تلقتها بعد خلعها للحجاب، وتأييدها لضحايا حوادث التحرش التي انتشرت مؤخرًا، وبعد دخولها في صراعات متتالية مع عدد من الرجل والنساء المختلفين معها في وجهات النظر فوجهوا لها تهمة الانحلال، لأنها تؤيد الحرية الجنسية، وتؤمن بأن كل فرد حر في إدارة علاقاته الجنسية، مثلها مثل باقي العلاقات الاجتماعية في حياة الفرد، وعليه فلا ينبغي أن يفرض على أي إنسان الانضمام لمنظومة الزواج لكي يمارس علاقاته الجنسية، المهم هو أن تكون العلاقات رضائية بين الأطراف، وجهات نظر “تيسير” كانت محض نقد كبير من المحيطين بها اللذين وصفوها بأنها فيمينيست، ما جعلها تجرد نفسها من اللقب وتقول أنها ليست فيمينيست.

حالات أميرة ونيللي وتيسير كثيرة ومنتشرة على نطاق واسع في المجتمع، فكثير من الفتيات تحاول التهرب من اللقب هربًا من نقد ودحض المجتمع لهن.