اللغة العربية التي يتحدث بها أكثر من نصف مليار نسمة حول العالم، وتحتوي على أكثر من 80 ألف مادة لغوية، ما جعلها أكثر لغات العالم ثراءً لغويًا، فضلًا عن تراثها الذي يحمل إبداعات فريدة، وعظمتها التي استمرت عقودًا طويلة، لم يشفع لها كل هذا، للوقوف أمام تحديات عدة، جعلتها مهددة بالتراجع والمحدودية.
تاريخ وأزمات
تُعد اللغة العربية من أكثر اللغات قدمًا، فقد ذهب البعض إلى أنها تعود لبدء الخليقة، وتسبق في وجودها وجود العرب أنفسهم، وأنها لغة أهل الجنة، بينما يرى البعض أنها لغة قبيلة “قريش” بصفة خاصة، وأن أول من تحدث بها هو إسماعيل عليه السلام، فيما تذهب آراء أخرى إلى أنها لهجة قديمة تطورت بالقرن السادس الميلادي، ولكن حتى اللحظة تظل بداية اللغة العربية لغزًا مجهولًا، فيما يظل الإجماع أنها لغة تاريخية وقديمة تنتمي إلى اللغات السامية.
تعرضت اللغة العربية للعديد من التحديات، تراوحت ما بين ازدهار خاصة خلال فترة الفتوحات الإسلامية، واتساع نطاقها الجغرافي، بينما مرت بفترات تراجع كانت أكبرها زمن اجتياح المغول لبعض الأراضي العربية.
مع مرور الزمن، وتراجع العرب في مجالات مثل العلم والأدب والفلسفة، تراجعت اللغة العربية كثيرًا، ليأتي عصر التكنولوجيا الحديثة، حاملًا التحدي الأكبر والذي باتت معه غير مرحب بها لدى الأجيال الجديدة.
بدأت أزمة اللغة العربية الكبرى مع غزو نظيرتها الإنجليزية للبلدان الناطقة بها، وانتشارها على نطاق واسع، باعتبارها لغة التقدم والعلم، لتتحول ما بين ليلة وضحاها من لغة معرفة، إلى لغة حوار يستخدمها العرب فيما بينهم، ثم تطور الأمر لتصبح مرتبطة بالعمل، وأصبحت عنصرًا ضروريًا للالتحاق بأعمال كثيرة.
كذلك بدأت تظهر لغات أخرى، مثل الفرنسية والألمانية والروسية، ونجحت في فرض نفسها، ودخلت في سباق السحب من رصيد اللغة العربية أيضًا.
مع تقدم الدول الناطقة بالإنجليزية والفرنسية والألمانية، زاد الإقبال على تعلم هذه اللغات مقابل إهمال اللغة العربية خاصة في سوق العمل، بخلاف تمييز الناطقين بها في التعامل وفى المقابل المادي وفى نسب فرص العمل التي يمكنهم الحصول عليها.
تنشئة الأجيال
انتشرت مراكز تعليم اللغات، وكذلك المدارس الدولية، وظهرت أجيال لا تعرف شيئًا عن اللغة العربية إلا معلومات طفيفة، وظهرت العديد من المظاهر التي مثلت تهديدَا مباشرًا للغلة العربية أيضًا، مثل اشتراط بعض المدارس إجادة الأسر للغات لإلحاق أبنائهم بها، وتحدث الطلاب في بعض المدارس والجامعات باللغات الأخرى، واعتبارها لغات أولى، لتزيد المسافة بين الأجيال الجديدة ولغتهم الأم.
باتت اللغات الأخرى وخاصة الإنجليزية هي محور التعامل اليومي بين العرب، فيتم استخدامها في إجراء الأحاديث العادية، وكذلك فى بعض الأوراق والشهادات خاصة التي يتم تقديمها لبعض الجامعات، حتى وصل الأمر إلى تقديم السيرة الذاتية لأماكن العمل باللغة الإنجليزية ورفض العربية إلا فى نطاق ضيق.
مع تباعد الأجيال الجديدة عن اللغة الأم، ومع ثورة التكنولوجيا والاتصالات، ارتبطت تلك الأجيال باللغات الأخرى بصورة كبيرة، وبدأ استخدامها على وسائل التواصل الاجتماعي وفى التعامل مع تطبيقات الهواتف المحمولة، حتى وصل الأمر لاختلاق لغة جديدة، تعتمد على كتابة الكلمات العربية بحروف إنجليزية أطلق عليها “الفرانكو”.
تنمر وسخرية
تحديات اللغة العربية تعددت وتطورت، حتى بات مستخدموها يتعرضون للتنمر، من خلال التقليل من شأنهم، ونعتهم بالرجعية والتخلف، كونهم لا يستخدمون لغة الدول المتقدمة، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يقول “محمد حمدي” طالب بالسنة النهائية بكلية الآداب قسم علم نفس، إنه يحب اللغة العربية، ولكنه يستخدم اللغة الإنجليزية كثيرًا مع أصدقائه كونهم يعتبرون من يتحدث بالعربية فقط “فلاح”، حتى أنهم سخروا منه عندما لاحظوا أن حسابه على “فيس بوك” باللغة العربية، ما دعاه إلى تغييره للإنجليزية.
فيما تقول “أحلام السيد”، والتي تعمل معلمة كيمياء بإحدى المدارس الخاصة، إن في مدرستها ممنوع استخدام اللغة العربية في التحدث مع الطلاب، أو في تواصل المعلمين مع بعضهم البعض، كونها مدرسة دولية حيث تُعد الإنجليزية هي اللغة الأولى والعربية الثانية، مشيرة إلى أنه حتى مقابلات التقديم للطلبة تكون الاستمارة فيها بالإنجليزية، وتكون اللقاءات مع أولياء أمور الطلبة باستخدام اللغة الإنجليزية، كما أنه لابد من إجادة لغة أخرى معها أيضًا، وإلا لا يتم قبول الطلاب.
“عصام أحمد” يعمل في أحد الفنادق، يقول “إن التعامل مع السائحين أو النزلاء يكون باستخدام اللغة الإنجليزية، وهي شرط أساسي للقبول بالعمل في الفندق، ولا يوجد استخدام للغة العربية إلا نادرًا، فاستمارة الإقامة باللغة الإنجليزية وحتى قائمة الطعام لا يوجد منها نسخة عربية، ونادر جدًا أن يسال شخص عن قائمة طعام بالعربية، هذا بخلاف تعامل العاملين بالفندق لابد أن يكون باللغة الإنجليزية، والمدير يرفض استخدام العربية من الأساس”.
بينما تشكو “مارينا عيد” (طالبة) من الإحراج عند الخروج مع أصدقائها لاستخدامهم المفرط لمفردات اللغة الإنجليزية التي لا تجيدها، كونها تعليم متوسط، مؤكدة أنها تسعى لإتقان اللغة الإنجليزية تحديدًا ما يسهل عليها التعامل معهم.
كما يذكر “أكرم الهواري” (طالب)، أن استخدام اللغة العربية بات أمرًا غير معاصر، فكل شيء مرتبط ارتباطًا مباشرًا باللغات الأجنبية، فهي التي تستعمل في المدارس والجامعات والعمل أيضًا.
ضحية الناطقين بها
حكايات وقصص اندثار اللغة العربية لا تنتهي، وتعود لمعطيات عدة، تغلغلت على مدار سنين داخل المجتمعات العربية، ما هدد هويتها ووجودها، وفرض عليها ثقافات عديدة، استطاعت اختراق عقول ووجدان الأجيال.
وفى تحليله للظاهرة، يقول الدكتور عماد عبد اللطيف، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب، “إن الإقبال على استعمال اللغات بصفة عامة مسألة اجتماعية اقتصادية، قبل أن تكون لغوية، فالعوامل المحيطة باستعمال اللغة هي عادة الفيصل في مدى انتشار اللغات ومدى احتفاء أصحابها بها من عدمه، وإذا نظرنا إلى حال اللغة العربية في مقابل اللغات الأخرى بالمجتمعات العربية يمكن تفسير عزوف العرب عن استعمالها والدراسة بها إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية بالأساس”.
ويوضح: “أول هذه العوامل هو سوق العمل، ففي ظل المجتمع المعولم، يكون هناك أفضلية للأشخاص الذين يجيدون لغة المجتمع، وهى الإنجليزية في وقتنا الحاضر، لذا جزء كبير من تفسير شيوع المدارس أو الجامعات أو مؤسسات التعليم التي تدرس بالإنجليزية، وإقبال ذوى القدرات المالية على تعليم أبنائهم فيها، يرجع بالأساس إلى سوق العمل وضمان توفير فرص عمل أفضل بمرتبات أفضل”.
ويضيف “عبد اللطيف”: “اللغات قوتها من قوة المتحدثين بها، وعادة تميل المجتمعات التي تستورد المعرفة أو التي تنظر إلى مجتمعات أخرى على أنها أكثر رقيًا منها، إلى تقليد هذا المجتمع في لغته، وهذا ما نراه الآن، فهو شكل من أشكال المتابعة الحضرية بخلفية أن المغلوب يقلد الغالب كما ذكر ابن خلدون”.
ويربط “عبد اللطيف” بين اللغة والهوية، قائلًا: “اللغة هوية بشكل حرفي، بمعنى أن تصورنا لأنفسنا ولمجتمعنا وللآخرين وللعالم الذي نعيش فيه وكل ما نحياه يصاغ عبر اللغة، من ثم فإن الدول التي تسعى لفرض تصوراتها للعالم عادة تدعم لغاتها، فإذا نظرنا للدول الناطقة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، سنجد جهودًا بالغة لنشر لغاتها والتعريف بها وتيسير تعليمها وتيسير لغاتها للدارسين”.